صلاح حموري: الفلسطيني يشتبك ولا يتضامن مع نفسه
Date:
22 mars 2023
Thématique: 

لم يكن الموعد مرتباً، جرى صدفة، كنت جالساً مع أصدقاء في مكان عام في بيروت، وإذ بي أرى شاباً طويل القامة، حليق الرأس بعيون ملونة. قلت في نفسي إن هذا الشاب يشبه صلاح حموري، لكن ما الذي سيأتي به إلى بيروت. دخلت إلى صفحته في "فايسبوك" لأتأكد إن كان هو أم لا، شاهدت عدداً من البوسترات التي انتشرت دعماً له، وأصبحت متيقناً من أنه هو صلاح حموري، الأسير الذي تم إبعاده من فلسطين إلى فرنسا قبل أشهر. تقدمت منه، وتعارفنا، واتفقنا على إجراء حوار لمؤسسة الدراسات الفلسطينية. 

سألته: بعد سلسلة من الاعتقالات والإبعاد، هل تظن أنك ما زلت ملاحقاً؟

أعتقد أن الاحتلال لا يكتفي بموضوع الترحيل فقط، فهو مستمر في ممارساته بحقي، فمثلاً، ضغطت سفارة دولة الاحتلال في فرنسا في الشهر الأخير، من أجل إلغاء ندوات لي، لمنعي من التكلم والتحدث مع الجمهور، ونقل ما حدث ويحدث في فلسطين، وعليه، تم إلغاء نشاط لي في مدينة ليون، بسبب ضغط الاحتلال واللوبي الصهيوني في فرنسا. والتضييق القائم في فرنسا، هو محاولة لحصاري في نقل الرواية، فلم يكتفوا بترحيلي، يريدون الآن منعي من التعبير عن رأيي بحُرية. 

حدثنا عن حياتك داخل الأسر، وكيف تركت رفاقك المعتقلين؟

كنت في عمر الخامسة عشرة حين تعرضت لإصابة برصاص الاحتلال، وما زلت أحملها في جسمي، لعدم تمكُّن الأطباء من إخراجها، وبقيت ندبة هذه الرصاصة ظاهرة، وتذكّرني بالاحتلال كل يوم حين كاد يقتلني.

بدأت حياتي في الاعتقال منذ الصغر، المرة الأولى التي اعتُقلت فيها كنت طالباً في السادسة عشرة، وخضعت للتحقيق ما يزيد عن شهرين في سجن المسكوبية، ثم جرى تحويلي إلى سجن الشارون للأحداث، وحُكم عليّ مدة 5 أشهر، بتهمة نشاط طلابي داخل أروقة المدرسة. واعتُقلت مرة أُخرى في سنة 2004 من منطقة بيت ساحور، حيث كنت في سكن الطلبة، وحُوِّلت إلى الاعتقال الإداري خمسة أشهر. واعتُقلت للمرة الثالثة في سنة 2005، وخضعت للتحقيق نحو ثلاثة أشهر في المسكوبية أيضاً، وبقيت موقوفاً ثلاثة أعوام حتى انتهاء إجراءات المحاكمة، وفي سنة 2008، عرض الاحتلال عليّ الإفراج مباشرة، في مقابل مغادرة البلد 15 عاماً، أو أن يُحكم عليّ بالسجن الفعلي، فاخترت السجن، وبقيت فيه حتى نلت حريتي يوم الأحد 18 كانون الأول/ديسمبر 2011، ضمن صفقة "وفاء الأحرار" التي أنجزتها المقاومة، بعد مفاوضات غير مباشرة مع الاحتلال، للإفراج عن الجندي الإسرائيلي في غزة جلعاد شاليط، وكان هذا الإفراج قبل انتهاء مدة محكوميتي بنحو شهرين. ولم يتوقف الاحتلال عن إجراءات التضييق عليّ، فصدر بحقي قرار بالإبعاد عن الضفة الغربية سنة 2014، وجُدِّد هذا القرار 3 مرات، لتصل مدته إلى عام ونصف العام. وفي سنة 2016، تم توقيف زوجتي في المطار، واعتقالها ثلاثة أيام، لترحل بعدها إلى فرنسا، وكانت حينها حاملاً بطفلنا الأول. وفي سنة 2017، أعيدَ اعتقالي إدارياً مدة 13 شهراً. وفي سنة 2019، تم تبليغي أن وزير داخلية الاحتلال ينوي سحب هويتي، وفي سنة 2020، اعتُقلت مدة 10 أيام. أما في العام الماضي، فاعتُقلت في شهر آذار/مارس، وتم ترحيلي من فلسطين يوم الأحد 18 كانون الأول/ديسمبر 2022. 

كيف أثّر السجن المتكرر في شخصيتك ووعيك؟

أنا أعتبر أن كل وعيي السياسي وغير السياسي، وهويتي الفكرية، تشكلت في السجن نتيجة الاحتكاك بالأسرى. حين اعتُقلت في الصغر، كان الدافع إلى المشاركة في العمل الوطني نابعاً من الشعور والعاطفة، مع الاعتقالات المتكررة، نقلني السجن من الحالة العاطفية إلى الحالة الفكرية، ومزجهما معاً، وباتت الحالة الفكرية بالأساس، هي الدافع إلى العمل الوطني، وليس الحالة العاطفية، وفي هذا فرق كبير، لأن العاطفة في العمل الوطني تصعد وتهبط، تتقدم وتتأخر، ويمكن أن تخمد في بعض الأحيان، لكن القناعة الفكرية بالانتماء إلى الوطن والنضال من أجله، من الصعب وأدها أو إنهاؤها. 

السجن كما قلت كان مدرسة بالنسبة إليك، ماذا تعلمت، وبمن تأثرت خلال فترات اعتقالك؟

السجن تأثُّر وتأثير في النهاية، وكان حظي أنني وُجدت مع أشخاص مؤثرين في معظم السجون التي دخلتها. حالة النموذج التي يشكلها الناس بصمودهم وقدرتهم على الاستمرار وعلى العطاء تعلّم وتربي، كما أن الفكرة النبيلة التي كانوا يحملونها قبل الاعتقال، بقيت متّقدة على الرغم من الأعوام الطويلة لهم في الأسر، فبالتالي هؤلاء شكّلوا لي نموذجاً، ونقلوا إليّ خبرة وتجربة.

أما بمن تأثرت، فحصرهم صعب جداً، وأخشى بذكر بعضهم أن يفوتني غيرهم، ولا سيما أن هناك أسماء معروفة، وأُخرى ليست معروفة، لكن على سبيل المثال لا الحصر، أذكر وليد دقة، وأحمد سعدات، وسمير القنطار، ووائل الجاغوب، وغيرهم. 

نحن على بُعد أيام من دخول الأسرى في إضراب مفتوح عن الطعام، وهو المقرر في أول رمضان، في رأيك، ما هو المطلوب ممن هم في الخارج للإسناد، وأنت ماذا ستفعل حيال هذا الأمر؟

منذ لحظة إعلان الأسرى نيتهم الإضراب المفتوح عن الطعام، ومصلحة السجون تفاوضهم من أجل عدم الدخول في خطوة الإضراب، وهذا الحوار قائم حتى اليوم. ومعه قرار الإضراب قائم أيضاً، إلا في حال تم التوصل إلى حلول مرضية للأسرى قبل موعد الإضراب، فحينها، من الممكن أن لا يحصل الإضراب. في النهاية، الإضراب وسيلة وليس هدفاً، فهو حالة نضالية وحالة اشتباك متقدمة، يدرك الجميع حين الدخول فيها، أنه من الممكن أن يستشهد أسرى، ومن الممكن أن يصاب بعضهم بأمراض مزمنة.

لكن في حال قرر الأسرى الذهاب إلى الإضراب، فإن المعدة ستقاوم والجسد سيقاوم، لكن ما يقصر مدة المعركة ويؤدي إلى الانتصار فيها، هو الالتفاف الشعبي حول قضية الأسرى، سواء في فلسطين، أو الوطن العربي، أو العالم. هذا الدعم يشكل ضغطاً على الاحتلال، وعلى مصلحة السجون الإسرائيلية، ومثله حالة الاشتباك اليومي في الأرض المحتلة، فالالتفاف الشعبي والاشتباك اليومي يشكلان حلقات ضغط على دولة الاحتلال.

أما عن دوري الشخصي، فأنا لن أتوانى عن تقديم أي شيء من أجل القضية، ونحن كفلسطينيين، ليس صحيحاً، بل ومعيب أن نقول إننا نتضامن مع أسرانا في سجون الاحتلال، فالأسرى أولاد شعبنا، ونحن كفلسطينيين جزء من حالة الاشتباك، وعلينا أن نقصّر عمر الإضراب عبر الاشتباك المباشر مع الاحتلال. 

الآن، بعد إبعادك نهائياً عن فلسطين، هل ترى أن كل شيء انتهى فعلياً؟ 

في الإجابة عن هذا السؤال، أحب أن أكون واضحاً جداً. بالنسبة إليّ، فلسطين قضية وليست جغرافيا، صحيح أنه تم اقتلاعي ونفيي من الأرض المحتلة إلى الخارج، لكن في الواقع ذاته، نصف الشعب الفلسطيني تقريباً هُجِّر من أرضه، منذ النكبة وحتى اليوم لم تتحقق عودته. وما جرى معي، حمّلني مسؤولية إضافية، وضعتها على عاتقي، وأعطتني أضعاف ما كان لديّ من دافع وإرادة، والسبب أنني لا أريد أن يتعرض غيري لِما تعرضت له. وعليه، سأبذل كل جهدي من أجل الضغط والاستمرار في العملية النضالية بالأشكال كافة، وهنا يجب أن أوضح معنى الأشكال النضالية كافة، فمن حقنا كشعب فلسطيني تحت الاحتلال أن يناضل بالشكل الذي يراه مناسباً، وكل وسائلنا النضالية مكفولة في القانون الدولي، وليس من حق أحد أن يأتي ليفرض علينا شكل نضالنا، فيقبل واحداً وينفي عنا آخر، ولا سيما أن بعض مَن يحاولون أن يفرضوا علينا سياسات معينة، أو شكلاً نضالياً معيناً، هم أنفسهم مارسوا الكفاح المسلح عندما كانت بلادهم تحت الاحتلال، سواء في الحرب العالمية أو غيرها، وبالتالي، نحن كشعب فلسطيني، نحدد أولوياتنا وأهدافنا ومنطلقاتنا، واستراتيجيتنا هي التي تحدد طريقتنا في الاشتباك مع العدو. 

 هل ستستمر في العمل كمحامٍ في مهجرك، وفي أي اتجاه ستستخدم الجانب الحقوقي؟

كنت أعمل كمحامٍ ومدافع عن حقوق الإنسان في الأرض المحتلة، وسأستمر في هذا الجانب، لأنني أؤمن بأن كل جانب نضالي حقوقي، يصب في آخر المطاف في الهدف، والهدف النهائي هو الحرية والاستقلال. بالتالي، النضال الحقوقي سيستمر من خلال العمل مع الشركاء في العالم العربي والعالم. 

تبدو جذرياً في خياراتك، ورفضت المساومة في قضيتك حين خُيّرت بين الإبعاد والسجن، ففضلت السجن، كيف تبني خياراتك؟ 

الأمر مزيج من جانبين، الأول وطني، فأنا كإنسان فلسطيني، أنتمي إلى الأرض، وأنتمي إلى الشعب، وأنتمي إلى القدس كمدينة احتضنتني، عشت فيها وعاشت فيّ. أما الجانب الثاني فهو فكري، له علاقة بمجموعة القراءات التي عززت البعد الأول. فأنا أرتكز إلى منهج ماركسي جدلي في تحليلي وفهمي للصراع، وكذلك رؤيتي للحلول. في الجانب الفكري، أنظر إلى تجارب الشعوب الأُخرى التي كانت واقعة تحت الاحتلال، وأعمد إلى دراستها بعناية، فبعض الشعوب عاش ظروفاً أصعب من الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني اليوم، وفي النتيجة، استطاعت تلك الشعوب أن تنهض وتقاوم وتنتزع حقوقها التاريخية في أرضها، فمثلاً، وهذا ما أردده دوماً، أن إسرائيل ليست أقوى من أميركا، ولا الشعب الفلسطيني أضعف من الشعب الفيتنامي، وكذلك هناك التجربة الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي، كما أن هناك تجربة جنوب أفريقيا، وهناك تجارب المنطقة التاريخية. كل هذه التجارب تؤكد، أننا كشعب، لن نحيا بكرامة بلا مقاومة، والمقاومة هي وسيلة الحياة الكريمة. 

في حوار سابق لك، نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية قبيل اعتقالك الأخير، وجّهت فيه رسالة إلى عائلتك، قلت فيها "الرسالة الوحيدة التي أوجهها إلى العائلة هي أنني لن أخضع لخيار الاختيار بين العائلة والوطن، لن تكون حسبتي هذه الحسبة، بل سأمارس قناعاتي حتى آخر نفس." اليوم ما هي خياراتك وأنت مع عائلتك؟

مرة أخرى سأكون واضحاً جداً، الضغوط التي مورست على عائلتي، لم تتوقف، وبالتالي، إذا اعتقد الاحتلال أن في إمكانه الضغط عليّ في موضوع العائلة من جديد، فأنا رسالتي واضحة، لا شيء بالنسبة إليّ يتقدم على موضوع الفكرة الوطنية، فالوطن أولاً، وبعده تأتي كل الحسابات. وهذا لا يعني إطلاقاً أنني لا أحب عائلتي، على العكس، بسبب حبي لعائلتي أناضل، من أجل أولادي، وأولاد الشعب الفلسطيني جميعاً، أناضل، كي يعيشوا جميعاً في فلسطين بكرامة.

انظر