في عام 1963، أسَّس ثلاثةُ مثقّفين عرب، هُم السوري قسطنطين زريق والفلسطينيّان وليد الخالدي وبرهان الدجاني مؤسسة بحثية مستقلّة وغير ربحية في بيروت، باسم "مؤسسة الدراسات الفلسطينية". واعتبَر هؤلاء أنّ دورهم النوعي يتعلّق بمجال المعرفة والقيم، في ظلّ احتكار "إسرائيل" وأنصارها الرواية الإسرائيلية - الفلسطينية، ورأوا أنّ من الضروري البدء بجهد جماعي مستمرّ لحفظ وتطوير ونشر سرد دقيق للصراع من نشأته في القرن التاسع عشر، وتقديم حجج قوية تؤكّد الحقوق التاريخية الفلسطينيّة.
حدّدت المؤسسة، التي تحتفل هذا العام بذكرى تأسيسها الستين، الأهداف والوسائل في بيانها التأسيسي الذي حدّد "الدفاع عن القضية الفلسطينية والحق العربي في فلسطين بالبحث العلمي الهادف، ومن دون أيّ ارتباط حكومي أو حزبي".
وأصدرت المؤسسة، خلال هذه السنوات، قرابة 800 كتاب بالمعايير العلمية عن القضية الفلسطينية، مثل الكتاب التوثيقي "كي لا ننسى" للمؤرّخ وليد الخالدي، الذي وضع كتباً اُخرى صدرت عن المؤسسة باللغتين العربية والإنكليزية؛ من بينها كتابُه البارز "قبل الشتات"، والذي يحتوي مئات الصُّوَر لفلسطين قبل النكبة، مع مقدّمة بيّنت الفهم التاريخي للأرض والشعب، وبالتالي للمستقبل.
نقرأ من تمهيد الكتاب: "إنَّ النظرة الاستعادية للأحداث كثيراً ما تخدم غرضاً بنّاءً، وهو ما يهدف إليه هذا الكتاب، الذي نأمل بأن يُلقي بعض الضوء على الفلسطينيّين كشعب في فلسطين قبل تشتُّتهم، وعلى منشأ وتطوُّر المشكلة الفلسطينية عبر أطوار تشكيلها. ومن خلال هذا، قد يُثير الكتاب فهماً للواقع الفلسطيني اليوم، وللمتطلّبات الدنيا التي يمكن قبولها للتوصُّل إلى تسوية مستساغة، من وجهة النظر الفلسطينية، على أساس الواقع التاريخي الفعلي".
يتقاطع هذا الاقتباس مع بعض من توجُّهات المؤسسة التي دأبت، في عملها، على توثيق الصراع مع الصهيونية. وهذا ما يمكن العثور عليه في أيّ من منشورات المؤسسة، سواء الورقية أو الإلكترونية عبر مدوّنتها "فلسطين الميدان" باللغتين العربية والإنكليزية، وأيضاً في المجلّات التي تُصدرها بالعربية والإنكليزية وسابقاً بالفرنسية؛ مثل: مجلّة "الدراسات الفلسطينية" بالعربية، والتي صدر عدُدها الأوّل في كانون الثاني/ يناير 1990، حاملةً رسالة مزدوجة إلى المجتمع العربي؛ فهي تهدف، من جهة أُولى، إلى "بذل جهد مركّز في قراءة واعية ومعمّقة للسياسات الإسرائيلية والعالمية تجاه قضيتنا، إضافة إلى رصد توثيقي وتحليلي للمجتمع الإسرائيلي في تقدّمه وتخلّفه، وحدّته وتصدّعه، تطوُّر نسيجه الداخلي وعلائقه الخارجية إلخ".. ومن جهة ثانية تهدف إلى "احتضان الطاقات البحثية العربية المتخصّصة (ولاسيما في الداخل الفلسطيني المحتلّ، وعلى اتساع الوطن العربي) ومساعدتها في إطلاق إمكاناتها وبلورتها، لتجد في المجلّة، وفي منشورات المؤسسة عامّة، المكان الطبيعي للتعبير الحرّ المسؤول عن فكرها المبدع".
ومنذ بدايات المؤسسة، يجد الباحثون والصحافيّون والطلّابُ والمهتمّون كلّ ما يبحثون عنه حول يوميات الصراع العربي الإسرائيلي، بفضل "نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية" التي كانت تصدر شهرياً بين عامي 1971 و1988، والتي كان الهدف منها "إطلاع القارئ العربي المهتمّ على أهمّ ما تنشره الصحف الإسرائيلية عن سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ونشاطات القوى السياسية في كلّ ما يتعلّق بتطوّرات الصراع العربي- الإسرائيلي في أبعادها الاستراتيجية والسياسية، ومختلف جوانب الحياة في إسرائيل، وتطورات الحركة الصهيونية، وأوضاع العرب تحت الاحتلال ومقاومتهم إياه".
واليوم، تُصدِر المؤسسة نشرة يومية بعنوان "مختارات من الصحف العبرية" ينجزها متخصّصون في الِشأن الإسرائيلي، وتُلخّص هذه النشرة "أهمّ ما في الصحف الإسرائيلية من أخبار وتصريحات وتحليلات لكبار المحلّلين السياسيّين والعسكريّين"، كما "تتناول مختلف الشؤون الداخلية الإسرائيلية"، ويَصدر مع هذه النشرة، أكثر من مرّة في الشهر، ملحقٌ يُترجم أهمّ ما تنشره الدوريات الفكرية الصادرة عن مراكز الأبحاث الإسرائيلية.
ويُشكّل مقرُّ "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت مقصداً للباحثين والطلّاب والصحافيّين والمهتمّين بالصراع العربي الإسرائيلي، لما تضمّه مكتبتُها ومركز المعلومات والتوثيق فيها؛ فهي تضمّ "أكثر من 79 ألف مجلّد، ومئات الدوريات والصحف"، وتحمل هذه المكتبة اسم الدكتور قسطنطين زريق أحد المؤسسين والرئيس الفخري للمؤسّسة طوال ربع قرن، أي منذ سنة 1984.
وفي السياق، فإنّ اهتمام المؤسسة بالتأريخ والتوثيق لم يجعلها تغفل عن الحاضر والمستقبل، عبر الكتابة والاستشراف، وإقامة المؤتمرات السنوية بالشراكة مع مراكز بحثية وجامعات في العالَم.
ويمكن الوقوف عند كلّ ذلك عبر الموقع الإلكتروني للمؤسسة، والذي يحتوي منافذ نحو فهرس المكتبة الذي يُمكن الوصول إليه من أيّ مكان في العالم، وطلب محتوى معيّن من القيّمين على المكتبة، خصوصاً أنّ بعض المراجع أصبحت متوافرة إلكترونياً، ويمكن الحصول عليها بسهولة، ككتيبات الفصائل الفلسطينية. وهذا الجانبُ هو أحدُ المشاريع الرقمية الكثيرة للمؤسسة، وكان آخرها "الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية" الذي أُطلق مؤخَّراً. ومن المشاريع الأُخرى الشراكة مع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" لإطلاق "المنتدى السنوي لفلسطين" الذي أُقيمت دورتُه الأُولى في الدوحة هذا العام.
تُشكّل هذه الجهود عاملاً حاسماً في العمل من أجل القضية الفلسطينية؛ فقضيةٌ بلا تاريخٍ مكتوبٍ هي قضيةٌ بلا مستقبل.
* نشرت هذه المقالة في "العربي الجديد"، 9 آذار/مارس 2023.