العلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين على جانبَي الخط الأخضر وآفاق تعزيزها
Date:
15 février 2023
Auteur: 

تشير دراسة أعدها "معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني" (ماس) في سنة 2021، إلى أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في حزيران/يونيو 1967 لم يُحدث تحوّلاً كبيراً على العلاقات بين الفلسطينيين في الضفة الغربية، من جهة، وبين الفلسطينيين في مناطق 1948، من جهة ثانية، ثم جاء توقيع "اتفاق أوسلو" ليخلق الانطباع لدى هؤلاء الأخيرين بأن منظمة التحرير الفلسطينية قد تخلت عنهم، وذلك إلى أن اندلعت الانتفاضة الثانية في أواخر أيلول/سبتمبر 2000، و"هبة أكتوبر" التي رافقتها في مناطق 1948، فصار ينمو الوعي السياسي والاقتصادي بين الفلسطينيين على جانبَي الخط الأخضر بأهمية "استغلال الميزان الديموغرافي لصالح الاقتصاد الفلسطيني، من خلال تقوية الروابط الاقتصادية بين مختلف التجمعات الفلسطينية على امتداد فلسطين التاريخية لمواجهة سياسة التمييز التي تنتهجها إسرائيل تجاه الفلسطينيين بغض النظر عن كونهم مواطنين إسرائيليين أو من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة". وهكذا، راحت تتطور، في النصف الثاني من العقد الأول للألفية الثالثة، العلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر.

وتتابع الدراسة نفسها أنه كان للعامل الجغرافي دور كبير في تحديد طبيعة هذه العلاقات، إذ صارت تتطور العلاقات بين سكان المناطق المتقابلة على جانبي الخط الأخضر؛ فسكان محافظة جنين تطوّرت علاقاتهم الاقتصادية، منذ سنة 2006، مع سكان مرج ابن عامر وقرى وبلدات الجزء الشمالي من منطقة المثلث فضلاً عن مدينة الناصرة، بينما تطوّرت علاقات سكان محافظات طولكرم وقلقيلية ونابلس مع قرى وبلدات الجزء الجنوبي من منطقة المثلث، في حين أن سكان مدينتَي الظاهرية والخليل طوّروا علاقاتهم الاقتصادية مع سكان النقب العرب. أما مدينة القدس الشرقية، وبلدتها القديمة بصورة خاصة، فكانتا مقصد الحجاج والزوار والمصلين والمرابطين في المسجد الأقصى من فلسطينيي مناطق 1948[1].

نوعية العلاقات الاقتصادية بين جانبي الخط الأخضر

صار فلسطينيو مناطق 1948 يترددون بكثرة، وخصوصاً يوم الجمعة ليلة السبت، على مدن الضفة الغربية المذكورة للسياحة، أو لشراء حاجياتهم، أو للاستفادة من بعض الخدمات. أما العوامل التي كانت تحفزهم على ذلك فهي رخص مستوى أسعار السلع والخدمات في الضفة الغربية بالمقارنة مع مستواها في إسرائيل، وارتفاع مستوى قدرتهم الشرائية، فضلاً عن عامل الارتباط الوطني، السياسي والثقافي، الذي يربطهم بأشقائهم في الضفة الغربية المحتلة.

وبفضل سياحتهم وزياراتهم، التي كانت تتخذ أحياناً شكل رحلات جماعية منظمة، استفاد قطاع الفنادق والمطاعم والمقاهي في مدن الضفة الغربية بصورة كبيرة، كما استفاد التجار في هذه المدن من بيع منتجاتهم وسلعهم إليهم، وخصوصاً الفواكه والخضار وبعض الأشتال والزهور، والمواد التموينية، فضلاً عن الأقمشة والألبسة والأحذية والجلود والأثاث. واستفاد العاملون في قطاع الخدمات في مدن الضفة من تردد هؤلاء الفلسطينيين على محلات تصليح السيارات، وعلى عيادات علاج الأسنان، وهو العلاج الذي لا يغطيه التأمين الصحي في إسرائيل، ومن تسجيل الآلاف من طلبتهم في الجامعات الفلسطينية القائمة في الضفة الغربية ولا سيما في الجامعة العربية الأميركية في مدينة جنين، كما استفاد قطاع البنوك في مدن الضفة من قيام العديد من رجال الأعمال الفلسطينيين من مناطق 1948 بفتح حسابات لهم في هذه البنوك. وفضلاً عن ذلك كله، صار عشرات الآلاف من عمال قرى الضفة الغربية ومدنها يعملون في المزارع القائمة في منطقتَي الجليل والمثلث، وخصوصاً في مواسم قطف الزيتون وبعض الخضراوات كالخيار مثلاً، وفي قطاع البناء، وفي بعض المطاعم. ووفقاً لدراسة أعدها كلٌ من رجا الخالدي وقصي السطري في سنة 2014، قُدّرت قيمة السلع والخدمات التي ابتاعها فلسطينيو مناطق 1948 من مدن الضفة الغربية في سنة 2013 وحدها بنحو 1،1 مليار شيكل، أي نحو 300 مليون دولار، نجمت عن أكثر من 900 ألف زيارة[2].

وعلى الرغم من أن حركة تبادل السلع والخدمات تسير غالباً في اتجاه واحد، أي من مناطق 1948 نحو مدن الضفة الغربية والقدس، جراء القيود التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تنقل مواطني الضفة الغربية، فإن بعض التجار الفلسطينيين من مدن الضفة الغربية يحصلون على تصاريح تمكّنهم من شراء بعض مشتقات الزيوت، كالطحينة، ومشتقات الألبان، وبعض الحبوب كالأرز.

مبادرات لتعزيز التعاون الاقتصادي

بغية تعزيز التعاون الاقتصادي بين الفلسطينيين على جانبَي الخط الأخضر، يجري أحياناً تنظيم معارض تجارية مشتركة، كالمعرض التجاري الذي نظمته في قرية عرعرة في منطقة المثلث ما بين 6 و 7 كانون الأول/ديسمبر 2013 "جمعية إعمار للتنمية والتطوير الاقتصادي في البلاد"، تحت اسم "صُنع في بلدي"، وشاركت فيه عشرات الشركات العربية المصنّعة من الضفة الغربية ومن مناطق 1948، التي عرضت منتجاتها وخدماتها أمام جمهور المستهلكين العرب وأصحاب الأعمال والتجّار الذين زاروا المعرض[3]. كما يجري عقد لقاءات تشاورية بين رجال الأعمال على جانبَي الخط الأخضر، وبين ممثلين عن غرف التجارة في الجانبين، كاللقاء الذي جرى في مدينة رام الله، في مطلع آذار/مارس 2015، بين وفد عن سيدات ورجال الأعمال من مناطق 1948 ووفد عن اتحاد جمعيات رجال الأعمال الفلسطينيين، وذلك بغية "بحث آفاق التعاون وتطوير العلاقة الاقتصادية المشتركة وآليات مأسستها". وخلال اجتماع الوفد الزائر مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أكد رئيسه سمير زريق، في الكلمة التي ألقاها، الحاجة إلى "بناء اقتصاد وطني فلسطيني منتج، يعزز صمود شعبنا على أرضه، بمشاركة كافة سيدات ورجال الأعمال الفلسطينيين في مختلف أماكن وجودهم"، وذلك بهدف التغلب على ما يواجهه الاقتصاد الفلسطيني "من سياسات التضييق والتمييز بحق القطاع الخاص في الداخل، ومحاولات الخنق الاقتصادي بأشكالها المختلفة من حصار جائر على قطاع غزة، والحواجز والقيود في القدس، والاستيلاء على أموالنا وعائداتنا الضريبية، والتي تهدف إلى إخضاع شعبنا وقيادته". أما نائب رئيس الوزراء، وزير الاقتصاد الوطني آنذاك، محمد مصطفى، فقد شجع "على تحويل العلاقة الهامشية العابرة مع ابناء شعبنا في فلسطين 48 إلى علاقة اقتصادية أكثر استراتيجية، والعمل على تعميق هذه العلاقة وتطويرها ومأسستها"، بحيث تكون قادرة "على بناء اقتصاد وطني قائم على السيادة والاستقلال الاقتصادي"[4].

العقبات التي تعترض تطوير التعاون الاقتصادي

يمثّل الاحتلال الإسرائيلي العقبة الأولى والرئيسية أمام تطوير التعاون الاقتصادي بين الفلسطينيين على جانبَي الخط الأخضر، إذ يلجأ هذا الاحتلال، في أحيان كثيرة، إلى إغلاق المعابر بين مدن الضفة الغربية ومناطق 1948، أو يفرض الحصار على بعض هذه المدن، وخصوصاً على مدينتَي جنين ونابلس، كما أن جدار الفصل العنصري يشكّل عائقاً أمام حركة التنقل بين جانبَي الخط الأخضر، ناهيك عن الحصار المفروض على قطاع غزة. كما أن السياسات العنصرية التي تنتهجها السلطات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في مناطق 1948 لا تساعد على التطور الاقتصادي لمدنهم وقراهم. ومن جهة أخرى، يؤدي غياب استراتيجية واضحة للسلطة الفلسطينية من شأنها جذب الاستثمارات، وعدم قيامها بتقديم امتيازات وإعفاءات لأصحاب رؤوس الأموال من الداخل، إلى إعاقة تطوّر التعاون الاقتصادي بين جانبَي الخط الأخضر. كما أن التداخل بين رأس المال اليهودي ورأس المال العربي في الداخل يصعّب التمييز بينهما، الأمر الذي يُدرج التعاون الاقتصادي مع الداخل، أحياناً، في خانة "مقاطعة المنتجات الإسرائيلية" أو في خانة "التطبيع". وكانت جائحة كورونا قد تسببت في السنتين الأخيرتين في كبح تطوّر هذا التعاون، إذ تراجع عدد زوار مدينة نابلس من فلسطينيي مناطق 1948 إلى أكثر من 70 % ما ترك تأثيراً سلبياً كبيراً على قطاعي السياحة والتجارة، كما تأثرت مدينة جنين بصورة أكبر، وخصوصاً مطاعمها ومقاهيها وعيادات علاج الأسنان والمختبرات الطبية فيها[5].

ويرى الخبير الاقتصادي رجا الخالدي أن هناك عقبات من طبيعة أخرى تعترض تطور هذا التعاون الاقتصادي، ذلك إن "توجه الفلسطينيين من الداخل إلى الضفة الغربية لشراء الحاجيات المنزلية، من الممكن أن يؤدي إلى إضعاف الاقتصاد الفلسطيني في الداخل، وهذا ما أكدته غرفة التجارة في الناصرة، إذ قالت بأنها تلقت العديد من الشكاوي من قبل تجّار محليين جراء توجه الأهالي للضفة الغربية، وترك الأسواق في بلداتهم". وفي المقابل، يشكو أهالي الضفة الغربية من تصرّف بعض التجّار من الداخل، ذلك إن "هنالك بعض التجار من الداخل، يستغلون الهوية الزرقاء ويحتالون على القانون بهدف التنصّل والتهرّب من دفع الأقساط والشيكات المترتبة عليهم"، وبالتالي لا يستطيع تجار الضفة الغربية ملاحقتهم لتحصيل حقوقهم، الأمر الذي صار يدفع الكثيرين منهم "إلى الحل النقدي، بحيث لا يقبلون ولا بأي شكل من الأشكال، شيكاً من تاجر في الداخل"[6].

وفي يوم دراسي نظمه "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية" (مدار) في مدينة رام الله، في 17 أيار/مايو 2017، تحت عنوان "مأسسة العلاقة الاقتصادية بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر"، أشارت هنيدة غانم، مديرة المركز، إلى أن الهدف من عقد اليوم الدراسي هو نقاش فرص التشبيك بين الفلسطينيين في مناطق 1948 والفلسطينيين في المناطق المحتلة سنة 1967، "بما يسهم في تطوير اقتصاد فلسطيني متداخل ومتشابك، كجزء من فهم استراتيجي لكون كل مكوّن من مكونات الشعب الفلسطيني عمقاً استراتيجياً للمكوّنات الأخرى". وخلال ذلك النقاش، قدّر محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العربية في مناطق 1948، أن ما يعوق عملية التشبيك هو غياب "مكوّنات لاقتصاد فلسطيني في الداخل"، إذ "هناك أفراد ناجحون، واقتصاد مبعثر، وتابع، وأيضاً محاصر، وهو على هامش عملية تطور اقتصادي وتنموي متوحش في إسرائيل"، مشدّداً على أنه يمكن الحديث عن التشبيك "عندما نكوّن حالة من التماسك، وتكوين وعي جمعي يسهم بتشكيل قوة ما"، في حين أن الاقتصاد  الفلسطيني في الداخل "لا يزال غير مؤهل، لكونه ما زال ضعيفاً ومبعثراً، لتعزيز التعاون ومأسسة العلاقة ما بينه وبين الاقتصاد الفلسطيني". وفي الاتجاه نفسه، أشار محمد مصطفى رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني، إلى أنه "لا يوجد اقتصاد فلسطيني في الداخل، بل اقتصاد فلسطينيي الداخل، بمعنى مجموع اقتصاديات الأفراد، حيث هناك نشاطات اقتصادية لمؤسسات وأفراد، ولكن ليس اقتصاداً فلسطينياً في الداخل"، وأنه "مع غياب كيان اقتصادي فلسطيني جامع في الداخل يمكن أن يشكل شريكاً، يمكن الحديث عن تعزيز التعاون على مستويات أدنى"[7].

وقدّر محمد مصطفى أن هناك مجالات عديدة لتعزيز هذا التعاون، من بينها القطاع المصرفي، وقطاع التأمين، وقطاع السياحة، وقطاع النقل والخدمات اللوجستية، ولا سيما ما يتعلق بنقل البضائع، وقطاع التكنولوجيا والهايتك، وتكنولوجيا الزراعة والمياه، ذلك إن "هناك تجربة غنية لدى فلسطينيي الداخل في موضوع تكنولوجيا الزراعة، وتكنولوجيا المياه، الذي نحن في فلسطين وفي العالم العربي بأمس الحاجة إليه"، وكذلك في مجال التبادل التجاري: "فنحن في الضفة والقطاع نستهلك بالمليارات بضائع إسرائيلية سنوياً –كما لاحظ- وإذا ما ركزنا جهودنا في بعض السلع التي يوجد لدى فلسطينيي الداخل ميزة نسبية في إنتاجها، يمكن زيادة نسبة الشراء لهذه السلع من فلسطينيي الداخل، وليكن الهدف في المرحلة الأولى مليار دولار أو نصف مليار نشتريها من بضائع منتجة من قبل مصانع يملكها فلسطينيون في الداخل، إن أمكن ذلك"[8].

اقتراحات لتطوير العلاقات الاقتصادية

وتتفق الدراسات على أن تطوير العلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر من الممكن أن يشكّل "رافعة اقتصادية تنموية واجتماعية" تعزز صمودهم على أرض وطنهم، وتطوّر نضالهم ضد الاحتلال وضد سياسات التمييز والتهميش التي تمارسها السلطات الإسرائيلية. وقد اشتمل بعضها على اقتراحات عملية لتطوير هذه العلاقات، كان من ضمنها دعوة الحكومة الفلسطينية إلى خلق بيئة قانونية تساعد على جذب استثمارات رجال الاعمال من مناطق 1948 ومنحهم امتيازات وإعفاءات ضريبية وتسهيلات بنكية، والقيام بحملات توعية توضّح دور هذه العلاقات وأهميتها بالنسبة لمجموع الشعب الفلسطيني؛ تشجيع السلطات المحلية ومنظمات المجتمع المدني والغرف التجارية على جانبي الخط الأخضر على تعميق التواصل فيما بينها والقيام بمبادرات اقتصادية مشتركة وأنشطة ترويجية للسلع والخدمات؛ تعزيز أشكال التنسيق والتكامل بين مؤسسات القطاع الخاص على جانبي الخط الأخضر؛ إقامة شراكات في مشاريع إنتاجية...إلخ[9]

 

 

[1] معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس). "آفاق تعزيز الترابط بين الاقتصاد الفلسطيني والفلسطينيين داخل الخط الأخضر" (جلسة طاولة مستديرة رقم 4)، 2021 . 

[2] الخالدي، رجا وقصي السطري. "تعزيز التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي داخل إسرائيل: بديل عربي "شمالي" للأسرلة". جامعة بير زيت-مركز دراسات التنمية، 2014 . 

[3] انظر الرابط الإلكتروني.

[4] انظر الرابط الإلكتروني

[5] معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس). "آفاق تعزيز الترابط بين الاقتصاد الفلسطيني والفلسطينيين داخل الخط الأخضر" (جلسة طاولة مستديرة رقم 4)، 2021.

[6] انظر الرابط الإلكتروني

[7] انظر الرابط الإلكتروني

[8] المصدر نفسه.

[9] معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس). "آفاق تعزيز الترابط بين الاقتصاد الفلسطيني والفلسطينيين داخل الخط الأخضر" (جلسة طاولة مستديرة رقم 4)، 2021.