فلسطين: تحديات كبيرة؛ وضياع استراتيجي
Date:
10 février 2023
Auteur: 

هناك تخوف كبير من استعمال مصطلح "اللامبالاة" في السياسة عموماً، وبصورة خاصة في كل ما يخص فلسطين. وذلك لعدة أسباب، أهمها أن الشعب الفلسطيني أثبت على مدار تاريخ صراعه مع الاستعمار أنه قادر على مفاجأة كل التحليلات، وحتى قياداته السياسية، بالنهوض دائماً والقتال. وأيضاً لحقيقة أن الاستعمار لا يترك مجالاً للقابع تحته أن يستمر في "اللامبالاة"، وهو يبتلع كل شيء يحيط بالفلسطيني، من الأرض إلى الإنسان، وصولاً إلى الرمز، فيحاصَر حتى تغدو "اللامبالاة" غير ممكنة أصلاً. وعلى الرغم من كل هذا، فإنه تطغى حالة من "اللامبالاة"، فلسطينياً، إزاء كل ما يخص الخطورة والجديد الذي تأتي به الحكومة الإسرائيلية الجديدة، شعبياً وسياسياً ورسمياً، وهو ما يثبته بيان لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في أراضي الـ 48، الذي جاء في مقدمته أن مهمات اللجنة ستكون "لجم حالة اللامبالاة"، في إشارة إلى أنها ليست مجرد قراءة تحليلية، بل حالة عامة تلاحظها أيضاً أكبر مظلة للعمل السياسي في أراضي الـ 48، وتشير إليها في مقدمة بيانها[1].

 

عمل فني للفنانة حنين نزال

 

هذه المادة لا تدّعي أنها ستفسّر هذه الحالة بشكل قطعي، لكنها ستحاول تحليل هذا الوضع الذي يبدو غريباً بعض الشيء، إذا ما قورن بالتحديات التي تفرضها الحكومة الجديدة إسرائيلياً، وفهم معانيه. وفي هذا السياق، فإن المقولة الأكثر انتشاراً في أعقاب تشكيل الحكومة، سياسياً وشعبياً أيضاً، تتلخص في أن حكومات إسرائيل كلها مجرمة، وأن كافة الحكومات الإسرائيلية يمينية وعدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، وخصوصاً أن الحكومة السابقة، التي ادّعت أنها "حكومة التغيير"، كانت إحدى أكثر الحكومات دموية. وهذا صحيح، لا نقاش فيه، لكنه يتجاهل الهدف الأساسي من قراءة إسرائيل: معرفة اتجاهات العدوان وحدّته، والمرحلة التي وصل إليها المشروع الاستعماري. فإسرائيل مشروع استعماري قائم لا يتوقف، ولم يتوقف يوماً عن الابتلاع والنهب والسرقة والقتل؛ لكنه في الوقت نفسه، مشروع يتوسع على مراحل تتلاءم مع الوضع الفلسطيني والداخلي، وكذلك الإقليمي والدولي. ومن هنا، فإن الهدف ليس دائماً القول إن إسرائيل عدوانية، إنما معرفة واستشراف حدة العدوانية والمرحلة المقبلة. ومن هذا المبدأ، فإن يمينية إسرائيل، استعماريتها وعدوانيتها، لا تلغي حقيقة أن هناك ما هو جديد يُطرح الآن.

ما الجديد؟

هناك اختلاف أساسي ما بين الحكومة الحالية والحكومة السابقة، ويتركز في أساسه على سؤال "الوضع القائم" على جميع الصعد تقريباً، وبصورة خاصة في الضفة الغربية وأراضي الـ 48- وهو ما يسمى أيضاً "الحسم". ففي الضفة، هناك توجّه واضح في اتجاه الضم أولاً، إذ تُعد خطة وزير المالية والوزير في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريتش، لتفكيك الإدارة المدنية وتوزيع صلاحياتها على الوزارات المختلفة التابعة للحكومة، بمثابة خطوة أولى في مسار الضم الفعلي، وتحويل المسؤولية عن إدارة حياة المستوطنين في الضفة من الجيش والحكم العسكري إلى المؤسسات "المدنية"؛ وثانياً، هناك اتجاه واضح في الحكومة يدعو إلى تفكيك السلطة الفلسطينية، بصفتها حاملة الهوية الوطنية الفلسطينية، التي ترى الحكومة الجديدة أن وجودها بحد ذاته يُعتبر تهديداً، بغض النظر عن الدور الذي تلعبه هذه السلطة، أو التنسيق الأمني، أو الإدارة الذاتية. فبالنسبة إلى الحكومة الجديدة، مجرد وجود هيئة عليا فلسطينية تمثل الفلسطيني قومياً، هو تهديد. وهو ما يختلف، جذرياً، عما طرحته الحكومة السابقة التي شكّل الحفاظ على "الوضع القائم"، أهم خطوطها العامة، وانعكس في الحفاظ على الوضع القانوني وتقوية السلطة وعدم الدفع قدماً بمشروع الضم.

أما في أراضي الـ 48، فإن التهديد يتوزع على مجالين: الأول قانوني، ويتعلق بمكانة المحكمة العليا، بصفتها الجهة التي حرصت على أن تبدو صورة إسرائيل أمام العالم "ديمقراطية"، وبالتالي حافظت على مكانة مميزة، قانونياً، للفلسطيني في أراضي الـ 48، ونشطت فيها المؤسسات القضائية والمجتمع المدني، كمؤسسة "عدالة" و"جمعية حقوق المواطن" وغيرها من المؤسسات التي ناورت في توازن "ديمقراطية" و"يهودية"؛ أما الثاني، فإنه سياسي بالدرجة الأولى، إذ تسعى الحكومة الجديدة لإلغاء الخط الأخضر، وتشكيل ميليشيات مسلحة تنشط داخل أراضي الـ 48 وما يسمى "المدن المختلطة"، كما في الخليل ورام الله، بالإضافة إلى دفعها بالصراع إلى مزيد من التديّن، عبر استهداف الرموز الدينية، وعلى رأسها المسجد الأقصى.

عملياً، تسعى هذه الحكومة للقيام بتغييرات في السقف الذي تتم تحته إدارة الصراع، ويسمى "الوضع القائم"، مؤسساتياً وخطابياً، على الرغم من التغييرات الميدانية التي تخطته، وتتلخص في التالي: إعدام حل الدولتين على مستوى الخطاب أيضاً؛ إنهاء حقبة النظام السياسي الفلسطيني ومظلة منظمة التحرير كحركة وطنية حتى على مستوى الخطاب؛ إلغاء "خصوصية" الفلسطيني في أراضي الـ 48؛ تعميم الوضع القائم في الضفة على فلسطين التاريخية؛ وقتل "العقلانية" في إدارة القمع الصهيوني للفلسطيني. هذا بالإضافة إلى عامل آخر، وهو أن التصعيد، بالنسبة إلى رموز هذه الحكومة، فرصة لتأجيج الصراع على طريق حسمه، وهو ما يشير إليه المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل بالقول إن سموتريتش وبن غفير يتطلعان إلى التصعيد، بصفته فرصة[2].

بين الشعبي والرسمي:

يمكن تقسيم هذه التحديات إلى قسمين، أحدهما يتعلق باستهداف البنى السياسية التقليدية، والثاني باستهداف المجتمع الواسع. أولاً، هذه التغييرات التي تسعى الحكومة لتنفيذها تستهدف زعزعة "الوضع القائم" الذي تعمل البنى التقليدية في إطاره، وبصورة خاصة في الضفة وأراضي الـ48، وفي صُلبه الخط الأخضر، باعتباره أساس الخطاب السياسي، والخصوصية، وفكرة "الدولتين" التي استناداً إليها، تم تبنّي برامج سياسية تقوم على الفصل بين التجمعات الفلسطينية، باعتبار أن المصير سيكون مختلفاً بعد تأسيس "الدولة"؛ هذا من جهة، وفي المقابل فإن اليمين يستهدف مباشرةً هذه البنى السياسية، ورموزها، وهياكلها، باعتبار أنها لا تزال تمنع الحسم بمجرد وجودها كقوى تحمل هوية وبُعداً وطنياً وقومياً. وهو ما ينعكس أولاً في تصريحات بن غفير مثلاً الداعية إلى تهجير القيادة الفلسطينية في أراضي الـ 48، وفي النيات المعلنة لتفكيك السلطة ومحاربتها عن طريق تشكيل هيئات محلية لا تعبّر عن أي بُعد قومي، وتُختزل في كونها خدماتية. الغريب في هذا السياق، أن البنى التقليدية السياسية تعلقت وارتبطت بنيوياً بالوضع القائم-ولم تقم خلال الأعوام السابقة، التي أشارت فيها الدراسات بصورة واضحة إلى نية إسرائيل إنهاء مرحلة "الدولتين" وإعدامها، بوضع أي خطة عمل بديلة، أو تغييرات تتلائم مع التغييرات الإسرائيلية، بل أبقت على وضعها القائم في حالة جمود، وتمسكت بواقع كان يتغير أمامها لسنوات.

أما على مستوى الرد الشعبي، فإنه يبدو غريباً أيضاً إذا ما قورن بحجم التحديات. في الناصرة مثلاً، لم يكن هناك أي تظاهرة أو وقفة احتجاجية خلال زيارة بن غفير إلى المدينة، بعد مقتل شابين في سياق الجريمة والعنف الداخلي، بل مرت الزيارة من دون أي نشاط سياسي. وهذا غريب على مدينة كالناصرة، لطالما خرجت للتعبير عن رفض استقبال قيادات الاحتلال، ولو بأعداد ضئيلة. أما في الضفة، فإن الاحتلال ينفّذ مجازر في جنين ونابلس، ومؤخراً في أريحا. ولا يزال التصدي له ينحصر في محافظات محددة، وفي مجموعات مسلحة مستقلة، ومنظمة بشكل محدود على مستوى مناطق تقاتل موضعياً لتدافع عن منطقة وجودها وتمركزها. وعلى الرغم من الصدق الواضح في بياناتها ورسائلها، وتضامُن المجتمع معها، فإنها لا تزال من دون عامود فقري استراتيجي أو رؤية بعيدة المدى بشأن المستقبل وما يحمله من تهديدات جماعية، وتعيش حالة دفاع عن مجرد وجودها واستمرارها، من دون التقليل من أهمية ذلك. وهذا بالإضافة إلى النيات المعلنة بالتضييق على الأسرى، وبدء حملة استهداف إسرائيلية، تمر أيضاً من دون أي حملة منظمة أو نشاط واسع، باستثناء بعض النشاطات السياسية المحدودة.

"هبّة أيار" بصفتها نموذجاً

لا يمكن الحكم على ردة الفعل الشعبية، فاحتمال أن تنفجر الأمور بسبب تمادي الحكومة، وبصورة خاصة في الإعدامات الميدانية، أو استهداف المسجد الأقصى، قائم وبقوة. ويمكن أن يحدث في كل يوم، وخصوصاً أن فلسطين تستفيق يومياً على مجازر، وأن عدد الشهداء وصل إلى معدل شهيد في كل يوم. ولكن المثير للاهتمام أنه حتى ولو حدث هذا الانفجار، فسيكون عفوياً وأقرب إلى تفريغ الضغط المتراكم مما هو رد فلسطيني أو رؤية فلسطينية. النموذج الأمثل لمثل هذا الانفجار، هو ما جرى في "هبّة أيار" 2021، حين اندلعت مواجهات عامة فلسطينية شعبية واسعة على طرفي الخط الأخضر، وكانت نقاط انفجارها القدس والمسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح. وبالإضافة إلى كونها اندلعت في فلسطين التاريخية، كان لها ميزة إضافية غاية في الأهمية: عدم وجود عنوان سياسي لها، أو قيادة سياسية واضحة، أو سيطرة من البنى التقليدية، التي اكتشفت حينها درجة بُعدها عن الشارع وقدرتها على التحكم فيه، أو توجيهه حتى. وبالمناسبة، هذا صالح للضفة، وأيضاً للداخل، باستثناء غزة التي دخلت في معركة عسكرية منظمة مع إسرائيل خلال الهبّة وفي أعقابها.

إسرائيلياً، يتم التعامل مع هذه الهبّة بجدية كبيرة، أكثر بكثير مما يتم التعامل معها فلسطينياً. فأولاً، كانت هذه الهبّة صادمة بالنسبة إلى إسرائيل، وخصوصاً عندما اندلعت المواجهات في أراضي الـ 48، حيث لم تكن الشرطة جاهزة للتعامل معها؛ وثانياً، كانت صادمة إسرائيلياً من حيث اكتشاف الفلسطيني في أراضي الـ 48 على أنه خطر استراتيجي على الدولة في حال نشوب حرب إقليمية، أو حملة عسكرية مع غزة، أو في الضفة. وليس اعتباطاً، بات مصطلح "المدن المختلطة" يُطرح في كل تحليل استراتيجي إسرائيلي، كما باشروا بناء "حرس قومي"-ميليشيات مسلحة تقوم بتأمين المحاور الرئيسية لنقل القوات، بالإضافة إلى تدريبات تحاكي نشاطاً عسكرياً في مدن كأمّ الفحم والناصرة وغيرها. أما ما يزيد في أهمية هذه الهبّة، فهو اعتبارها، إسرائيلياً، السبب في ارتفاع مكانة بن غفير وتأليف الحكومة الحالية، باعتبار أن نتائج الانتخابات هي بمثابة ردة الفعل الإسرائيلية على هذه الهبّة، وشرعية لبِن غفير وأمثاله لتنفيذ سياسات التهجير والقمع والقتل. ومن هنا، يمكن فهم مطالبة بن غفير بمنصب وزير الأمن الداخلي، خلال الحملة الانتخابية، وعلى هذا الأساس تم انتخابه.

الظروف التي رافقت "هبّة أيّار" لا تزال ذاتها: فجوة ما بين القوى السياسية والمجتمع الواسع؛ عدم وجود خطة استراتيجية، أو أي بدائل عن "الوضع القائم"؛ عدم وجود بدائل من القوى التقليدية السياسية تعوض الشلل الذي يسيطر على النظام السياسي الفلسطيني؛ الدفع بالصراع نحو التدين، عبر استهداف الرموز الدينية؛ وعدم وجود قيادة قادرة على الضبط أو التوجيه. ومرة أُخرى، نجد أن الوحيد الذي يخطط للقادم، هو أجهزة القمع والموت الإسرائيلية، في ظل حالة دفاع فلسطينية غير منظمة. والأحكام الجائرة والكبيرة التي أُسقطت على المعتقلين من "هبّة الكرامة" في الداخل، وسط تضامُن ضئيل واستفراد كبير، هي مثال يعكس درجة الشلل الذي يعيشه النظام السياسي رسمياً، في حالة تهديد تشبه ما سبق النكبة إلى حد بعيد جداً. أما بخصوص الرد شعبي على استهداف البنى السياسية الرسمية بهذا الشكل الصارخ، فإنه إشارة كبيرة إلى الفجوة التي وصلت إليها العلاقة ما بين الرسمي والشعبي في فلسطين، وبصورة خاصة استعداد الشعب للدفاع عن المؤسسات التي باتت أكثر بعداً عنه في كل يوم.

وهنا، يجب الإشارة إلى سؤال غاية في الأهمية وشكّلت "هبّة الكرامة" إحدى أهم إشاراته: هل حسم المجتمع أيضاً بخصوص الإطار التقليدي للصراع؟ فشكلت "هبّة الكرامة" ومعانيها وامتدادها، إشارة المجتمع الفلسطيني إلى أنه تخطى الطرح التقليدي الذي تحاول الحكومة حسمه أيضاً؟ هذا ما جرى في الإضراب، إذ أعلنته لجنة المتابعة في أراضي الـ 48، لكنه سرعان ما امتد إلى فلسطين التاريخية بدعوات شبابية مستقلة. هذا ممكن، لكنه يشير مرة أُخرى إلى الفجوة ما بين الاستراتيجي والشعبي، وهي أزمة فلسطين المستمرة.

 

[1] بيان لجنة المتابعة، موقع "كل العرب"، متوفر على الرابط الإلكتروني.

[2] صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، تحليل تحت عنوان "تخوّف من مواجهة لم تحصل منذ سنوات".