إن كان هناك ما يمكن قوله بثقة عن مونديال قطر 2022، فهو حقيقة أنه منح الجماهير والمجتمعات العربية فرصة تاريخية للتعبيرعن ذاتها ومشاعرها القومية الوحدوية باحتفالية وعفوية صادقة، بعد أعوام طويلة من الانقسامات والاقتتال الداخلي المذهبي الطائفي والسياسي. فالمونديال، الحدث الأكبر في عالم كرة القدم، اللعبة الأكثر شعبية في العالم، لا يتوقف على اللعبة ذاتها، بل في أساسه يدور حول الجماهير، والتعدد الثقافي خارج الملاعب، حيث يلتقي المشجعون من كافة بقاع الأرض، يعرضون ما لديهم من رقص وموسيقى ومعرفة، إلى جانب التنافس الرياضي بين المنتخبات التي يمثّل كلٌّ منها دولة، بكل ما تحمله هذه الدولة من أبعاد قومية واجتماعية وثقافية. وهذا المونديال يعبّر أكثر من غيره عن عطش العرب، ليكونوا جزءاً من هذا العالم المحتفل، بثقافتهم ومشاعرهم القومية وتساؤلاتهم التي تدلل على مرحلة يعيشها هذا العالم العربي، وتنعكس في المونديال صارخة.
هذه المرة الأولى، تاريخياً، التي يقام فيها المونديال في دولة عربية، لغة وثقافة وجماهير. أما قطر نفسها، فإنها باتت تلعب دوراً مركزياً في المنطقة في الأعوام الأخيرة، بسبب وجود عدد كبير من المؤسسات الإعلامية والبحثية العربية المهمة فيها، حيث تستقطب الشباب العربي للعمل من كافة الدول العربية، كما تربطها علاقات وثيقة جداً بكافة الأطراف تقريباً في المنطقة، إلى جانب عامل السفر واللغة والثقافة الذي يجعل المشجع العربي يشعر بأنه المُضيف، بغض النظر عن الدولة القادم منها. فاللغة لغته، التاريخ تاريخه والسياق سياقه. أما شعبية لعبة كرة القدم بحد ذاتها، فتمنحنا صورة واسعة للمجتمعات العربية، أكثر من صالونات السياسة والمؤتمرات والغرف المغلقة. فاللعبة، بشعبيتها ووجودها في العالم العربي، تعكس فعلاً من خلال الجماهير الواسعة، ما يشغل هذه المجتمعات وخطوطها الحمراء. وفي هذا السياق، كان للمونديال أهمية خاصة لإزالة جدار الوهم الذي بُنيَ حول فلسطين وعلاقتها بشعوب المنطقة، بعد أوهام كثيرة بثها الإعلام الغربي وبعض الإعلام العربي، تفيد بأن إسرائيل ماضية في التطبيع، وأن قضية فلسطين لم تعد قضية العرب الأساسية- وأن تطبيع وجودها بات حقيقة، وبصورة خاصة، بعد موجة التطبيع الأخيرة تحت عنوان "اتفاقيات أبراهام".
الإعلام الإسرائيلي في قطر: البحث عن الذات
باتت قضية "الإعلام الإسرائيلي" وما يحدث معه في قطر إحدى القضايا المركزية في المونديال، عربياً وإسرائيلياً. صحيفة "يديعوت أحرونوت" عنوَنت غلافها يوم 27/11 بمقالة لمراسليها في قطر تحت عنوان "مونديال الكراهية". أما أبرز هذه الأحداث فكانت فيديوهات قصيرة لإعلاميين إسرائيليين ينكرون إسرائيليتهم، تجنباً للمشجعين العرب، أو النشطاء والعمال في المطاعم وسيارات الأجرة. ومن بينها كان فيديو الصحافي في "يديعوت أحرونوت" راز شيخنيك، الذي ظهر وهو يدّعي أنه يمثّل تلفزيون الإكوادور، ويرد على ناشط فلسطيني يقول له "فلسطين حرة"، بالقول "لمَ لا". هذا إلى جانب فيديو آخر لمحلل هيئة البث الإسرائيلي العام إيلي أوحانا، حين قال له السائق، بعد أن أنكر إسرائيليته:"كنت سألتف وأعود إن كنت إسرائيلياً فعلاً". أما أوهاد حامو، مراسل القناة 12، فلم ينجح في تسجيل مقابلة أكثر من مرة بسبب هتافات المشجعين حوله "الحرية لفلسطين". هذا كان المشهد العام، أما ما وراء هذا المشهد العام، فإنه يسكن فيما قبل وما بعد: كيف يطرح الإعلامي الإسرائيلي نفسه على العرب؟ وما هي ردة الفعل على الرفض العربي؟
عند مراجعة جميع المقابلات تقريباً، هناك خط واحد مشترك يبرز لدى مراسل القناة 12 أوهاد حامو، أكثر من غيره. وذلك، لأن هذه القناة التي تُعد القناة الأكثر مشاهدة في إسرائيل، لم تكلف نفسها حتى إرسال مراسل رياضي كغيرها، إنما أرسلت حامو، مراسلها للشؤون الفلسطينية. وفي هذا إشارة واضحة إلى ما تبحث عنه، ويبدو موجوداً لدى الجميع: كيف يستقبلنا العرب؟ يذهب حامو إلى مجموعة من المشجعين ويقول بلكنة مخابراتية وفجة: أنا من إسرائيل. ويصمت بعدها، ينتظر الرد، وكأنه أصلاً جاء لتفحُّص الرد ليس إلا. أما إيلي أوحانا، فبعد أن ينكر إسرائيليته، يصر على السؤال: ماذا لو كنت من إسرائيل؟ وهو ذاته، ما يبحث عنه موآف فاردي حين دخل إلى منطقة مشجّعي السعودية، وسأل عن رأيهم وهو يقول إنه "من إسرائيل". هناك ملايين في المونديال، لماذا على فاردي أو حامو التوجه نحو مجموعة مشجعين سعوديين أو لبنانيين بهذه الفجاجة؟ والجواب يسكن في المرحلة الأخيرة التي عاشتها إسرائيل، وسكرة القوة التي تعتريها وتسمى "اتفاقيات أبراهام"، إذ خلق نتنياهو جداراً من الوهم الداخلي يفيد بأن العالم العربي أنهى فترة العداء لإسرائيل- السلام كاعتراف بالقوة. وما عززه، كان الشكل الذي اتخذه التطبيع مع الإمارات ووُصف بأنه "دافئ"، سمح للإسرائيليين بالتبجّح في مراكز دبي بعنجهية- ويشكل دخول الإعلام الإسرائيلي إلى قطر بحد ذاته، بالنسبة إليهم، أحد رموز المرحلة وإشارات القبول.
عملياً، ذهب المراسلون إلى قطر للبحث عن وجودهم "الطبيعي" في منطقة وإقليم تنحصر فيها علاقتهم في اثنين: الاجتماعات الأمنية المغلقة والسرية التي تُعقد مع ما بين رؤوس الأموال للتجارة في دبي وغيرها من المُدن التجارية حيث تُعقد الصفقات؛ والإعلام الإسرائيلي ذاته الذي يعمل تحت سقف الإجماع الصهيوني ويتبنى أيديولوجيته، حتى ولو كان يبدو موضوعياً في السياق الداخلي للدولة ومحاربة الفساد. وكلاهما له أجنداته الخاصة في الموضوع العربي والإقليمي: رأس المال يريد الربح؛ أما الإعلام الصهيوني، فإنه يسعى لنقل أيديولوجيا المشروع التي تعكس المرحلة الاستعمارية وتتلخص في أن القضية الفلسطينية لم تعد مهمة، وهو ما غذّاه التطبيع والصراع مع إيران. ومن هنا فقط، يمكن فهم الصدمة التي ينقلها المراسلون من قطر للمجتمع الداخلي، وكأنهم يكتشفون العرب من جديد ويكتشفون أنهم غرباء للمرة الأولى. وهو ما ينعكس حرفياً في مقالتين، الأولى كتبها مراسلو "يديعوت أحرونوت"، وتشرح ما تعرضوا له من "مضايقات" وكمّ "الكراهية"، إذ وجدوا مَن يريد "مسح إسرائيل"، وتنتهي إلى خلاصة مفادها رص الصفوف ووقف الاقتتال الداخلي؛ أما الثانية فكتبها حامو ويشرح فيها أن "الشعوب العربية عبّرت عن رأيها في وجودنا." وكأنهم، لا يعرفون شيئاً عن الجرائم التي تُرتكب يومياً في فلسطين.
مرة أُخرى: إنهم يكرهوننا
ردة الفعل الشعبية العربية واضحة، فالمونديال فعلاً كان فرصة للتعبير، عربياً، عن رفض إسرائيل. فكما ذهب الإسرائيلي للبحث عن وجوده "الطبيعي"، وجد الفلسطيني نفسه طبيعياً، أكثر من أي وقت مضى، حيث تحول العلم الفلسطيني إلى علم عليه إجماع في المونديال، يرفعه الجميع كأنه علم فريق العرب، المُضيفين. وهذا في وقت تحاول إسرائيل منع رفع العلم الفلسطيني في فلسطين، وتخطيّه كلياً لمحاصرته بحلفها مع بعض الأنظمة العربية ضد إيران. ومرة أُخرى، يذهب الإسرائيلي، بدلاً من مراجعة الذات، إلى البحث عن المزيد من القوة كضمان وجود في المنطقة. وفي هذا الرد تكثيف لمشكلة هذا المجتمع برمتها: كلما شعروا بالرفض، كلما ذهبوا إلى القوة.
هذا ما يبدو واضحاً في المقالة التي كتبها مراسلو "يديعوت أحرونوت"، إذ يقول شيخنيك، الذي ادّعى أنه مراسل الإكوادور، في تغريدة نُشرت أيضاً كمقالة، إنه كان من ناخبي "الوسط، ليبرالي يمد يده للسلام ويعتقد أن الأزمة في الحكام وليس في الشعوب." والوسط السياسي، إسرائيلياً، هو رؤية الجنرالات أصحاب رؤية السيطرة الأمنية؛ أما استنتاجه: فيجب رصّ الصفوف، ووقف الاقتتال الداخلي سياسياً، وفي الشوارع، والتكتل لأنه من دون ذلك "لن نستطيع الصمود" بسبب كمّ "الكراهية" الموجود. وكأن هذه "الكراهية" وُلدت وتفاقمت من العدم، لمجرد أن "العرب عنصريون"، وليست إسرائيل مَن تحتل وطناً في قلب العالم العربي، فتقسّمه كجزيرة غريبة بين المحيط والخليج، وتجعله دولة "حصرية لليهود"، تقمع العربي وتسعى لقتله مادياً ورمزياً.
لا يتحمل شيخنيك، أو حامو، أو أوحانا، أيّ مسؤولية عن رفض العالم العربي لهم ولِما يمثلونه. بل على العكس تماماً، يذهبون إلى "الوحدة الوطنية"، ويبدو أن شيخنيك سيصوت لليمين في المرة القادمة، بعد أن كان "وسط" كما يدّعي. أما حامو، فواجه بعض الشبان العرب بالقول "إسرائيل قائمة، إسرائيل أمر واقع، موجودة أمر واقع، عيب." وعملياً، يتجهون إلى اتجاهين: إمّا وقف "السذاجة" بأن تطالب بالسلام كما يصف شيخنيك نفسه؛ وإمّا أمر واقع بالقوة، كما يحاول حامو فرضه. أمّا القول إن إسرائيل تتحمل المسؤولية؟ فهذا يتطلب تغييرات إسرائيلية، تغيير سياسة وتغيير جوهري في الدولة وحرية لفلسطين. وهو ما يدفعهم لتفسير كُل شيء على أنه مجرّد "كراهية"، دون التطرّق للأسباب الحقيقية لهذه "الكراهية"، كي يتفادوا أي تنازل ممكن أمام الفلسطيني، أو مفاوضات معه، أو اعتراف بحقوقه. بل على العكس، حكومتهم الأخيرة تسعى لحسم الصراع، بالقوة أيضاً.