دروس من باقة الغربية في الحدّ من الجريمة المنظمة
Date:
18 octobre 2022

"على وسطنا العربي كله التعلم مما حدث في باقة ولفظ العملاء وموبقاتهم."

رئيس بلدية باقة الغربية زياد أبو مخ (جريدة "الاتحاد"، 23 أيار/مايو 1999)

في أواخر تسعينيات القرن الماضي، في الفترة 1998- 2000، بدأت موجة زرع عملاء الاحتلال الإسرائيلي في بعض قرى ومدن المثلث، منها جت وباقة الغربية وكفر قاسم والطيبة وغيرها. وبالتزامن مع ذلك، بدأت أيضاً ممارسات توطين مجموعات لها تاريخ في العمل الإجرامي وتجارة المخدرات وغير ذلك، وأخص هنا مجموعة إجرامية من إحدى العائلات التي عُرفت في هذا المجال، في إثر توطينها في باقة الغربية. 

 

الصورة من وكالة الصحافة الفلسطينية " صفا"

 

في هذا الصدد، برزت باقة الغربية نموذجاً في المواجهة والنضال ضد توطين العملاء ومجموعات منخرطة في العمل الإجرامي، واتخذت هذه الأحداث أبعاداً كبيرة وواسعة شعبياً، فشارك في جنازة تشييع شهيدين سقطا خلال إحدى المواجهات أكثر من 15 ألف شخص، أي ما يزيد عن 60% من سكان البلدة آنذاك، وهو ما يبيّن أثر وقوة العمل الجماهيري ضد هذه الظاهرة. في نظرة سريعة، يتبين أن مشكلة أهالي باقة الغربية العينية، هي ممارسة العنف التي تكثفت من سهولة إطلاق الرصاص على البيوت والأحياء، إلى عدم مراعاة حرمات البيوت والأهالي والأطفال، بالإضافة إلى التجارة في المخدرات، وفقاً لعدة تقارير. 

هذا النص يعمل على تأطير هذه التجربة، ضمن سياق طرح نماذج حاربت الجريمة المنظمة. إذ أننا نؤمن بأن طرق وإمكانات مواجهة الجريمة المنظمة وتفشّي السلاح وسهولة إطلاق النار بيننا، تكمن في داخلنا، وفي تاريخنا، وفي تجاربنا وقدراتنا التي تراكمت، كمجموعة فلسطينية مستعمَرة داخل الأراضي المحتلة سنة 1948، تمكنت من تثبيت وجودها وحافظت على هوية كفاحية على مدار سبعة عقود. 

تشكّلات السياق

اندلعت أحداث باقة الغربية قبيل انتخابات الكنيست الإسرائيلية، في سنة 1999، واشتداد التنافس بين حزب العمل وحزب الليكود؛ إيهود باراك من جهة، وبنيامين نتنياهو من جهة أُخرى. ومن المهم ذكر مساهمة النضال في منع مصادرة أراضي الروحة، الذي ساهم في إعادة الثقة بالقوة الشعبية للفلسطينيين في الداخل، بالإضافة إلى التشديد على حالة التناقض الدائم بين فلسطينيي الداخل 1948 والدولة اليهودية، وخصوصاً بعد عقد اتفاقيات أوسلو التي أثبتت نظرياً أن مسألة فلسطينيي الداخل هي "مسألة إسرائيلية" داخلية. 

تُعَد هذه الأحداث محورية في فهم إمكانية التحشيد والعمل المنظّم والتظاهرات الواسعة، ضد عملية "زرع العملاء في البلدات العربية"، حيث لم يكن وجودهم حديث العهد، بل قبل ذلك بعدة أعوام. وقد وصفهم الدكتور زياد أبو مخ رئيس بلدية باقة الغربية، آنذاك، بقوله "كان في المدينة ثماني عائلات من العملاء، أغلبيتها سكنت في بيوت اشترتها... وكانت مشاغباتهم تتكرر، المرة تلو المرة، وما حدث حالياً أدى إلى تفجير الغضب الذي تراكم في صدور الناس على مدى السنوات الطوال." (جريدة "الاتحاد"، 23 أيار/مايو 1999)

لكن السؤال يبقى قائماً ويُظهر تشابُكاً بين مسألتين أدتا، بدورهما، إلى اشتعال الأحداث: الأولى هي مسألة "توطين العملاء"، ويُقصد بذلك عملاء فلسطينيون، أغلبيتهم من الضفة الغربية، وثانياً مسألة توطين قسم من عائلة إجرامية هُجِّرت من الرملة وتعرضت بيوتها للهدم، في إثر الصراعات المسلحة مع عائلة أُخرى في مدينة الرملة، وكانت خلفية الصراع تجارة المخدرات وغير ذلك.

بعد عقد اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية بالتزامن مع نهاية الانتفاضة الأولى التي بدأت في أواخر الثمانينيات، ازدادت أهمية المسألة، وخصوصاً أنه تم توطين العملاء الذين ما زالوا يعملون تحت إمرة الإدارة الإسرائيلية وجهاز "الشاباك" في البلدات والمدن العربية، ضمن خطة أوسع (جريدة "الاتحاد"، 25 كانون الثاني/يناير 1996).

وفي إثر ذلك، بدأت النضالات ضد التوطين في العديد من البلدات والمدن العربية، وخصوصاً في يافا والطيرة وعكا والناصرة وغيرها، والتي بدأ فيها التوطين منذ أواسط التسعينيات، ووصلت حدة التوطين في أواخر التسعينيات إلى بلدات المثلث، مثل الطيبة وباقة الغربية وزيمر. وهنا ارتبطت مسألة "توطين العملاء" بتوطين العائلات المنخرطة في العمل الإجرامي في سنة 1999 تحديداً، بعد هدم بيوتهم، كما ذكرنا، وأضف إلى ذلك الطمع الإسرائيلي بأراضيهم. وبالتالي وُظفت سلسلة الأحداث والسياسات، من هدم البيوت، والاستثمار في الصراعات العائلية، واستخدام إمكاناتهم غير القانونية، مثل تجارة المخدرات (والسلاح لاحقاً)، في محاولة لهدم أواصر المجتمع الفلسطيني. واشتدت الأزمة أكثر فأكثر مع ازدياد أعمال العنف والتهديد وتجارة المخدرات تحت أعين الأجهزة الإسرائيلية، وغالباً بدعم منها. 

اندلاع الأحداث

لم تكن الأحداث في باقة الغربية منعزلة، بل كانت جزءاً من موجة تظاهرات واحتجاجات واسعة في الداخل العربي الفلسطيني. ونستطيع القول إن الأحداث في باقة توّجت جميع النضالات التي جرت، من حيث قوتها وكثافتها، في إثر استشهاد اثنين من أبنائها، وتكللت بنجاحها في طرد العائلات. ويجب التنويه بأن عدد العملاء وصل في تلك الأثناء إلى 5 آلاف نسمة وُطِّنوا في القرى والمدن العربية، مقابل ما يقارب الـ500 نسمة تم إسكانهم في المدن اليهودية. وهذا يؤكد أن هذه المشكلة هي مشكلة ابتدعتها إسرائيل وصدّرتها إلى العرب الفلسطينيين في الداخل.

في لقاء مع سعيد كتاني، نائب رئيس بلدية باقة الغربية (جريدة "الاتحاد"، 18 أيار/مايو 1999)، يذكر أن الأحداث في باقة بدأت بعد وقوع شجار صغير على مرور سيارة، أو بخصوص موقف سيارة، وأنه بدأ كلامياً بين رجلين، أحدهما من أهل البلدة. وما إن انتهى الشجار، عاد الرجل إلى بيته، لكن سرعان ما تبعه شخص من العائلة المنخرطة في العمل الإجرامي، وأطلق النار باتجاهه. وبعد فترة وجيزة، تبعه المزيد من أفراد هذه العائلة الذين استكملوا "إطلاق النار باتجاه البيت. عندئذ، ثارت مشاعر أهالي المدينة. وأدى ذلك إلى السخط العام من جانب مواطني المدينة نحو [هذه العائلة]، وأيضاً نحو عائلات عملاء الاحتلال الذين تم إسكانهم هم أيضاً في المدينة." ووفقاً للعديد من الأهالي ممن شهدوا هذه الفترة، فإن خطب الجمعة، كان لها الدور الأكثر فعالية في تشجيع أهالي البلدة على التصدي وطرد هذه العائلة، وخصوصاً خطيب مسجد أبي بكر الصديق، باعتباره أكبر مسجد ويقع وسط البلدة.

ويضيف كتاني "وقد تم إشعال النار في أحد بيوت [هذه العائلة المنخرطة في الإجرام]. كما جرت تظاهرات تلقائية أدت إلى إغلاق الشارع الرئيسي في المدينة، واستمر على هذه الحال حتى ساعة متأخرة من ليلة السبت/ الأحد، وتجددت المواجهات يوم الأحد، وتم إشعال النار في عشرة بيوت تابعة [لهذه العائلة] ولعملاء الاحتلال، وقد جاء إحراق بيوت العملاء بسبب سخط الأهالي، كونهم يقومون بأعمال غير شرعية وغير أخلاقية، وبصورة خاصة في تجارة وترويج المخدرات على أنواعها، كما يقومون بإطلاق النار على جيرانهم لأتفه الأسباب، وقد وجد الأهالي أنها مناسبة للتخلص من الجهتين."

وفي إجابته عن سؤال بشأن كيفية سقوط شهيدين، فيبين أنهما قُتلا عن طريق الخطأ، في إثر محاولة مجموعة من الشبان إحراق أحد البيوت من الداخل، بعد أن تم إشعاله من الخارج، فلم يستطيعا الهرب، واختنق الشابان في الداخل. أما من ناحية الشرطة الإسرائيلية، فيبين أنها لم تحرك ساكناً إزاء الأعمال الاستفزازية واستخدام المجرمين المعروفين للسلاح، وإنما وقفت إلى جانبهم، مضيفاً أن الشرطة باشرت حملة اعتقالات ضد أهالي البلدة (جريدة "الاتحاد"، 31 أيار/مايو 1999). 

دروس في سياق مكافحة الجريمة المنظمة

النقطة الأساسية التي وددت إبرازها في هذه المقالة هي قدرة الأهالي في باقة الغربية على الفعل الجماعي والاحتجاج المنظم والمكثف لإخراج وطرد المجرمين، أو القائمين على الأعمال التخريبية في البلدة. وتبدو الحادثة كأنها مهمشة، أو خارج التاريخ، أو قد تدل على انحراف معين، وخصوصاً أنها لم تؤطَّر يوماً داخل نماذج كفاحية ناجحة، وبالطبع، لم تتم رؤيتها أو طرحها كنموذج يُحتذى به في مواجهة العنف والجريمة، أو على الأقل الحد منه. لكن هذه التجربة يجب أن تؤخَذ في الحسبان عندما يتم الحديث عن مكافحة الجريمة في الداخل، وخصوصاً أن باقة الغربية تُعتبر اليوم في أدنى سلّم النشاطات الإجرامية وتجارة السلاح والمخدرات وإطلاق النار، مقارنةً ببلدات أُخرى، وفقاً لإحصائيات أعداد القتلى نتيجة الجريمة المنظمة على مدار العقد الأخير.

والجدير ذكره أن كون العائلات المتورطة بالإجرام غريبة عن البلدة، أدى إلى تسارُع الأحداث واندلاع المواجهات والتظاهرات ضدها. والمطلوب اليوم المواجهة والمطالبة بطرد منفّذي أعمال القتل وإطلاق الرصاص. وهنا نرى تميُّز تجربة باقة الغربية، وخصوصاً في النضال ضد ما سُمّيَ، آنذاك، بـ "العملاء"، وطردهم الفعلي، جنباً إلى جنب مع النضالات السياسية ضد توطين أولئك في البلدات والمدن العربية، بقيادة الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساوة ولجنة المتابعة وأحزاب أُخرى، وهو ما أعطى زخماً للفعل الجماعي وحدَّ من الأحداث الإجرامية في البلدة. 

وتلت تلك الفترة محاولات عديدة لإعادة هذه العائلات إلى باقة الغربية، وخصوصاً من الأجهزة الإسرائيلية، ورفضها الخضوع لمطالبات ونضال أهالي البلدة، لكن لم ينجح مشروعها كلياً؛ ودعا رئيس البلدية أبو مخ المواطنين للمساعدة في التصدي لهذه المحاولات، قائلاً "أحب أن أكرر هنا ما تقرر في اجتماع لجنة المتابعة من ضرورة عدم تأجير أو بيع أراضٍ أو بيوت لأي مواطن غريب من دون استشارة البلدية، أما الذين باعوا من زمان، فمن واجبهم التخلص سريعاً من العملاء، لأن ما حدث في باقة لا ينتهي في باقة فقط. ثم أننا حمّلنا الحكومة مسؤولية إيجاد الحلول للعملاء وطالبناها بذلك، فالأمر ليس من مسؤوليتنا أبداً. وفي هذا السياق، أشير إلى أن بلدية باقة قررت إقامة لجنة استشارة بشأن هوية الغرباء، بإمكان أي شخص التوجه إليها لمعرفة حقيقة الأشخاص الذين يتعامل معهم، ولنتفادى تكرار ما حدث." 

إحدى المهمات والأهداف التي وُضعت على الطاولة، آنذاك، وفقاً لرئيس البلدية أبو مخ، "منع العملاء الذين خرجوا من باقة من العودة إليها. جميعهم خرجوا. والمهمة الأساسية هي أن لا يرجعوا." هناك تداخُل بين العملاء الذين يتلقون أوامر مباشرة من الاحتلال للتجسس على نشاطات سياسية؛ أعمال مسلحة؛ تظاهرات شعبية، أو التعطيل لمصلحة الاحتلال، وبين العائلات أو المجموعات الإجرامية التي تجني الأموال وتعرّض المجتمع الفلسطيني لأخطار مستقبلية جمة، وعلى رأسها تخريب الجيل الشاب المفترض به أن يقف في الصف الأمامي لمناهضة الاحتلال، بالإضافة إلى القتل بسبب تعاملات مالية خارج دائرة القانون، من إقراض وتجارة سوداء. وتقع الجهتان تحت التعريف ذاته، فهما تخدمان الاحتلال، ويتضح ذلك في السياق التاريخي والاجتماعي، والذي جوبِه بمعارضة وجودهم في البلدة، وإرغامهم على الخروج. 

وعن استمرار العمل الشعبي بعد الطرد، أشار أبو مخ إلى أنه تجسّد من خلال التعاون على شراء البيوت تحت غطاء البلدية، وقال "أقامت البلدية لجنة محلية للتفاوض بشأن شراء البيوت التي يملكها العملاء. وسنفتتح صندوق تبرعات لتمويل عمليات الشراء، كما أن هناك مواطنين معنيين بشراء البيوت." وهو ما يدلنا على أن الموضوع لم ينته. 

في خلاصة الكلام، فإن النضال الشعبي هو ماضينا الذي يسند حاضرنا التعيس، ونشكل منه أملاً بإيجاد مسارات أُخرى لمستقبلنا. علينا فهم هذه الأحداث ضمن إطارات النضالات الشعبية، والالتحام المحلي الفلسطيني الهادف إلى كسر قدرة الاحتلال على السيطرة والتفكيك والإبادة، وعلى الرغم من أن بعض الحوادث تبدو صغيرة، فإن آثارها قد تكون بعيدة المدى. فلم يعلم أحد بأن مخاطر هذه العائلات والتشابكات التي خلقها الاحتلال ما بين العميل والمجرم، أنتجت ظاهرة الأعمال الإجرامية المتفشية في بلداتنا راهناً، والتي ذهب ضحيتها المئات من الفلسطينيين، أكثر من أولئك الذين استشهدوا على أيدي شرطة الاحتلال الإسرائيلي ذاته، فهي تشكل أداة إسرائيلية استعمارية خارجة عن القانون.