خليل رعد: رحلة في حياة فلسطين
Date:
4 octobre 2022

الدراسات المتعددة للتصوير الفوتوغرافي في فلسطين تشير إلى انتشار هذه المهنة على نطاق جيد في مطلع القرن العشرين، وقد حظيت باحتفاء اجتماعي كبير، ولا سيما لدى الطبقات الميسورة، لتصبح الصورة جزءاً حيوياً من حياة الناس، وليست رفاهية، بعد أن تم إدخالها إلى نواحٍ مختلفة من الحياة اليومية. الباحث الفلسطيني عصام نصار يوضح في كتابه "لقطات مغايرة"، أن الصورة بات لها استعمالات متعددة، منها ما هو "علمي يرتبط بالتوثيق، ومنها ما هو سياسي يرتبط بمراقبة الدولة للمواطن، ومنها ما هو شخصي يرتبط برغبات وأهواء وأوضاع اجتماعية محددة أو حاجات اقتصادية محددة."[1]

إن الصور الملتقَطة في فلسطين، في الفترة ما بين اختراع التصوير سنة 1839 حتى بداية ظهور مصورين محليين كانت، في معظمها، لمصورين أوروبيين وأميركيين، أتوا لتصوير الأرض المقدسة. ومن الصعب جداً في هذه الصور "العثور على صور بشر في صور فلسطين المبكرة، وبصورة خاصة في مرحلة ما قبل سنة 1867. وتتأكد هذه النقطة حين ننظر إلى أعمال مصورين مثل الفرنسيَيْن مكسيم دوكامب وأوغست سازمان، وأعمال الثنائي روبتسون وبياطو التي تعود إلى مرحلة الخمسينيات من القرن التاسع عشر."[2]

أظهرت تلك الصور الأولى فلسطين مكاناً خالياً من السكان، فحتى الصور التي ظهر فيها أناس، كانوا ثانويين، لتتحول فلسطين في تلك الصور إلى "مجرد مـواقـع أثرية قديمة وغير مأهولة، لا تصلح إلا لتذكير المشاهد بالتاريخ التوراتي."[3] ينقل نصار عن المصور الأميركي إدوار ل. ويلسون، الذي صوّر فلسطين في ثمانينيات القرن التاسع عشر، قوله: "إن الفلاحين الذين صادفهم بـالـقـرب مـن بـحـيـرة طبرية [...] لا ينسجم [وجودهم] على الإطلاق مع طبيعة الأرض والمنطقة."[4]

ونجد أن بعض الصور التي التُقطت في فلسطين من مصورين غير محليين، كانت تحمل نظرة استعمارية إلى فلسطين، "الصور التي اجتاحت البيوت الأوروبية والأميركية ساعدت على تشكيل وعي أوروبا لصورة فلسطين بوصفها أرض الأحلام؛ أرضاً في انتظار من يطالب باستردادها روحياً ومادياً."[5] 

فلسطين.. حياة بعيون المصور خليل رعد

العنوان أعلاه، هو اسم المعرض الذي افتتحته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في قاعة المعارض "الكلمة الرمز.. فلسطين" في 8 أيلول/سبتمبر 2022، ويتضمن 64 صورة من مجموعة خليل رعد المتوفرة في أرشيف المؤسسة، والتي تصل إلى 3000 صورة. هذا المعرض هو واحد من معارض الدورة الثانية لـ "مهرجان بيروت للصورة" الذي تنظمه عادةً "جمعية مهرجان الصورة – ذاكرة"، بالشراكة مع العديد من الجهات والمؤسسات العاملة في لبنان.

تستقبل زوار المعرض صورة لبوابة استديو رعد الشهير في القدس، وُضعت مكبّرة على نوافذ القاعة، في إيحاء إلى طبيعة الرحلة التي سيذهب إليها الحضور في المعرض، فالمدخل يواجه صورة استديو رعد، بينما مساحة المعرض، جانب من ذاكرة فلسطين، تعمل المؤسسة على حفظها والبحث فيها والتنقيب في خباياها.

ويستلهم المعرض، الذي وصفته المؤسسة بالتكريمي، تقسيماته من الفنانة فيرا تماري التي كانت قيّمة على معرض سابق افتتحته المؤسسة في دار النمر للفن والثقافة في بيروت في سنة 2013، بعنوان "فلسطين قبل 1948.. ليست مجرد ذاكرة/خليل رعد (1854 - 1957)"، والتي قالت في كتيب المعرض، حينها، "تبدو فلسطين في أعمال رعد مشهداً غنياً، متنوعة في ثقافتها وتقاليدها، ونابضة بشعبها، علماً بأنها كانت في زمن خليل رعد أرضاً عند مفترق طرق.."[6] وتضيف تماري "روى خليل رعد حكايات كثيرة عن فلسطين. فصوَره التي تجمع بين الحقائق القائمة والحقائق ′المستوردة′، تعبر أراضٍ متعددة، متنقلة بين الخيال والواقع، المدينة والريف، الشخصي والجماعي، الرسمي واليومي."[7]

في المعرض الحالي، قسمٌ عنوانه "فلسطين.. الحياة"، ويشمل نحو 35 صورة، نرى فيها مزارعين فلسطينيين في أراضيهم، وتجاراً في الأسواق، كما توجد صورة لحمّاليْن، يحملان بيانو، ربما لنقله إلى بيت ما، وفي هذه الصورة مثلاً، إشارة قوية يمكن تفسيرها اليوم، بأنها جانب من جوانب حياة الفلسطينيين الثقافية والاقتصادية والعلمية. كذلك تبدو صور البورتريه المعروضة، والتي يرتدي في بعضها الأشخاص الزي التقليدي لبعض الأماكن من فلسطين، تعبيراً آخر عن تلك العلاقة المدينية الريفية، وتشير الفنانة فيرا تماري، في مقالة سابقة لها عن خليل رعد، إلى أن عدداً كبيراً من أبناء المدن الفلسطينيين الذين توجهوا إلى استديو رعد في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، تعمّدوا التصوير بالأزياء الفلسطينية التقليدية، وكأنهم يريدون "محاكاة المظهر ′الأصيل′ لسكان الأرياف."[8]

الأرض المقدسة.. طبيعة الأرض 

لعل بعض متتبعي تاريخ التصوير في فلسطين سيجد أن بعض صور رعد والمصورين المحليين الأوائل تشبه، إلى حد كبير، صور الأوروبيين والأميركيين، إلا إن صور المحليين، بحسب ما يقول نصار: "كانت، في الغالب، نابعة من تصويره الهادف لإنتاج سلعة سياحية أولاً. أي أن الأنماط ذاتها المستخدمة لتمثيل فلسطين التي سادت في التصوير الأوروبي المبكر (أماكن مقدسة وتاريخية...إلخ)، قد سادت لكنها هذه المرة ليست بالضرورة بدافع الاعتقاد بأصالة المكان المصور كـمـكـان مـقـدس، بـقـدر مـا أن المصور مدرك لـنـوعـيـة الطلب السياحي علـى الصور، النابع، بالأساس، من توقُّع السائح الحصول عـلـى صـور تـشـبـه مـا صـوّره الأوروبـيـون أولاً"[9]، ما انطبق على المصورين المحليين انطبق على خليل رعد، إلا إن عدسته، كعدسة غيره، أظهرت الجانب الذي عتّمته عدسات المصورين الأوائل، فبيّنت صور رعد الشعب الفلسطيني الحيّ في حيّزه الطبيعي. ويضيف نصار أن صور الأماكن المقدسة، والاحتفالات الدينية، وصور الزائرين الرسميين من السياسيين، والمناظر العامة للمدن المهمة "لم تكن الأشغال الوحيدة التي انهمك فيها المصورون المحليون، لـقـد كـان الجانب الأكبر من إنتاجهم الـفـوتـوغـرافـي مـتـعـلـقـاً بالحياة الاجتماعيـة، فـقـد صوروا ​​المناسبات الشخصية والعائلية والاجتماعية المختلفة، بالإضافة إلى توثيق الأحداث السياسية في فلسطين."[10]

يقدم قسم "مشاهد ممسرحة" في 4 صور، جانباً من الجوانب التي تأثر بها رعد بصور عدد من المصورين الغربيين، لكن هذا الانطباع تبدل في مرحلة ما، وباتت صوَره تؤخذ في سياق مغاير، يقول الباحث الفلسطيني سليم تماري في مقالة له عن رعد، نُشرت في كتيب معرض 2013[11] "تشكل مساهمة خليل رعد في تصوير أحداث الحرب العظمى (1914 - 1918) تحولاً مهماً في التاريخ الفوتوغرافي العربي، ذلك بأنها تلقي ضوءاً جديداً على ناحية من أعمال رعد لا نعرف عنها إلا القليل، وتتعارض مع اعتباره مصوراً للمشاهد الطبيعية والصور الشخصية في المقام الأول. وهذا إضافة إلى تغير المفهوم السائد الذي يرى في رعد مصوراً توراتياً مغرقاً في الرؤية الاستشراقية."[12]

أما في قسم "مناظر طبيعية" من المعرض، فالداخل إلى القاعة ستلفته مباشرة الصور الموجودة إلى يسارها، والتي تبين جانباً عميقاً من الطبيعة الفلسطينية التي التقطها رعد بحساسية منقطعة النظير، فتكاد الصورة تفصّل المكان الملتقطة فيه، على الرغم من كون اللقطة تقع ضمن إطار، إلا إن الجمالية قادرة على تحفيز المخيلة، للبحث في المخزون البصري لدى صاحبها، عن مكملات للصورة، سواء من مخزون الصور الكثيرة اليوم لدى الجميع من الشاشات، أو من حديث الأجداد، وهذه قيمة مضافة إلى اتساع الرؤيا لدى رعد الذي، وإن مارس التصوير كمهني في وقته، لكن ما حدث في التاريخ جعل من أرشيفه قيمة تاريخية وفنية على حد سواء. 

تاريخ من الاحتلال

الجانب الأخير من المعرض حمل عنوان "فلسطين.. الاحتلال"، وعلى الرغم من أن الصور تتناول مرحلتين، هما العثمانية والانتداب البريطاني، فإن تعليق الصور على جدران زنازين حمّل الصور مدلولات معاصرة، فانتقال احتلال فلسطين من بريطانيا إلى الصهاينة، جعل تاريخها امتداداً للاستعمار، في محاولة لربط الماضي بالحاضر، وهنا يصح الاقتباس من الروائي المعروف ورئيس تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية الياس خوري، خلال افتتاح معرض "فلسطين.. حياة بعيون المصور خليل رعد"، حين قال: "نرى التواصل، ونرى أن تاريخنا لم ينكسر، وهو مستمر وحيٌّ، ونحن قادرون، إذا امتلكنا رؤية صحيحة، وإذا امتلكنا الحب لهذه البلاد، على الخروج من هذه المأساة التي نحن فيها."[13]

 

[1] عصام نصار، "لقطات مغايرة، 1850-1948: التصوير المحلي المبكر في فلسطين" (مؤسسة عبد المحسن القطان، 2005)، ص74.

[2] المصدر نفسه، ص 25 .

[3] المصدر نفسه، ص 25 - 27.

[4] المصدر نفسه، ص 28.

[5] المصدر نفسه، ص41.

[6] "فلسطين قبل 1948.. ليست مجرد ذاكرة/خليل رعد (1854 - 1957)" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، ص7.

[7] المصدر نفسه.

[8] المصدر نفسه، ص 9.

[9] المصدر نفسه، ص 75.

[10] المصدر نفسه، ص 76.

[11] للتوسع، انظر إلى الرابط الإلكتروني.

[12] المصدر نفسه، ص17.

[13] كلمة الروائي ورئيس تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية الياس خوري خلال افتتاح المعرض، لمشاهدة الافتتاح كاملاً، انظر إلى الرابط الإلكتروني.

انظر