تزداد عمليات إطلاق النار في الضفة الغربية، ويتكسر "كاسر الأمواج" أمام الانخراط ورغبة الشباب الفلسطيني، الآخذة بالازدياد، في العمل المقاوم. يتركز 80% من هذه العمليات في جنين ونابلس، بينما تعزو المؤسسة الأمنية الإسرائيلية سبب زيادة معدل العمليات إلى الدعم الذي تقدمه "حماس" والجهاد الإسلامي، بالإضافة إلى ارتفاع معدل تهريب الأسلحة إلى الضفة، عبر الحدود الأردنية، كما ذكر موقع واللا العبري.
بدايةً، الناظر إلى الأوضاع القائمة اليوم والمتابع لها في حيرة من أمره، حين يحاول منح توصيف دقيق للحالة التي بات من الصعب إطلاق مسمى أو لقب عليها. في حقيقة الأمر، إن الأحداث اليوم لا تماثل مظاهر الانتفاضة الأولى والثانية، وهي كذلك بعيدة، من حيث الشكل والمشاركة، عن الهبّات السابقة، كـهبّة "السكاكين" سنة 2015، على سبيل المثال. وبالتالي، بات التوصيف الأقرب إلى الواقع ظاهرة "تصاعُد عمليات إطلاق النار".
من الجدير ذكره أن رئيس جهاز الشاباك "رونين بار" أشار في كلمة له خلال مؤتمر "إرهاب في عين العاصفة"، الذي عقده معهد "السياسات ضد الإرهاب"، التابع لجامعة رايخمان في هرتسيليا، أنه منذ بداية العام وحتى الآن، كان هناك أكثر من 130 عملية إطلاق نار تقريباً، مقارنةً بسنة 2021 التي شهدت 98 عملية من هذا النوع.
من جهتها، أطلقت إسرائيل في 31 آذار/مارس من العام الجاري اسم عملية "كاسر الأمواج" على عمليات القمع التي ينفّذها الجيش الإسرائيلي للحد من العمليات الفدائية، وظاهرة ازدياد إطلاق النار في جنين على وجه الخصوص، لكن ثبت فشلها بعد ستة أشهر، إذ امتدت هذه الظاهرة إلى مدينة نابلس، تلتها مدينة طوباس في شمال الضفة، حتى وصلت إلى الخليل جنوباً. فقد خلقت هذه العمليات احتكاكاً أكبر بين الجيش والفلسطينيين، مضافاً إلى ذلك ارتفاع منحنى التفاعل والتأييد للعمليات، ولا سيما في صفوف الجيل الشاب الذي لم يعاصر انتفاضة الأقصى. ويُلمَس ذلك من خلال المحتوى المنشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن السؤال المركزي الذي تدور حوله المقالة، هل بالفعل تشهد الساحة الفلسطينية تصعيداً حقيقياً على الأرض؟ أم أن التصعيد يقتصر على ظاهرة ما، هي بمثابة شرارة تؤدي إلى إشعال الضفة في المستقبل القريب؟ وأين السلطة الفلسطينية من ذلك؟
التصعيد على ورق
لا جدال في أن الضفة الغربية تشهد ازدياداً واضحاً في العمل المقاوم خلال الأشهر الأخيرة، ولا سيما عمليات إطلاق النار ضد المواقع العسكرية وجنود جيش الاحتلال والمستوطنين. لكن عند التمعن في أوضاع مدن الضفة الغربية، نرى أن الحياة العامة تسير بشكلها الطبيعي، وتخلو مراكز مدنها من المسيرات والتظاهرات، مثلما تتمتع المداخل بهدوء تام، فلا مواجهات ولا راشقي حجارة، باعتبارهما أهم مظاهر الانتفاضة والهبّات الجماهيرية، سوى في مناطق الاحتكاك الدائم والمتواصل بالمستوطنين منذ أعوام، وعلى بعض الشوارع الرئيسية، كقرية عزون شرقي مدينة قلقيلية ومنطقة غوش عتصيون جنوبي القدس وبيت لحم، على سبيل المثال لا الحصر.
أما فيما يتعلق بفكرة توسيع عمليات الاعتقال، فإن الواقع اليومي يشير، من دون نقاش، إلى أن عمليات الاعتقال في الضفة ضد الفلسطينيين غير متوقفة، وأن إسرائيل تواصل الاعتقالات تحت مسمى "جزّ العشب"، التي تركز على النشطاء الفاعلين وطلبة الجامعات وقيادة الفصائل في الضفة بين الفينة والأُخرى.
يأخذنا التناقض بين الواقع المشاهَد والإعلام المسموع إلى تساؤل قد يبدو منطقياً بعض الشيء، أين التصعيد الذي صدّعت إسرائيل رؤوسنا به ليلاً نهاراً، عبر إعلامها المتماهي تماماً مع المؤسسة الأمنية؟ لماذا تُطعَّم كل نشرة إخبارية في القنوات الإسرائيلية بفكرة احتمالية تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق، بمعنى إعادة الانتشار في المدن الفلسطينية لعدة أيام، على غرار عملية "السور الواقي" سنة 2002؟
الشباب وانتفاضة التيك توك
تتسع دائرة الشباب المنخرطين في العمل المقاوم، سواء بالفعل أو الدعم، على الرغم من حالة اللاإنتماء التنظيمي لمعظم هؤلاء الشبان، وهو ما أكسبهم شعبية واسعة ساعدت في جعلهم محطّ نظر وقدوة للكثيرين من أبناء جيلهم. كما أن هنالك العديد من الظواهر التي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، كونها تشير إلى مدى التأثر بالمقاومين والشهداء، بيْد أن هذه الظواهر عادت بقوة، بعد أن كانت منتشرة في إبان انتفاضة الأقصى. فمثلاً يضع بعض الشباب قلائد تحمل صورة شهيد، أو يطيلون اللحى بطريقة تشبه لحى بعض الشهداء، أيضاً تُتخذ صورة الشهيد خلفية لشاشات الهواتف المحمولة وأغطيتها.
قبيل انتفاضة "سيف القدس" في صيف 2021، تداول الإعلام الإسرائيلي مصطلح "انتفاضة التيك توك"، وقصدَ به دور وسائل وشبكات التواصل الاجتماعي في الـتأثير وتوسيع دائرة المواجهة. وها هو هذا المصطلح يعود اليوم إلى الواجهة من جديد.
لم يتراجع دور وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيق التيك توك، اليوم بالتحديد. ويتخذ المحتوى الذي يُتداوَل فيه مقاطع فيديو ثلاثة أشكال: ما هو خاص بالمقاومين في أثناء مشاركتهم في المسيرات والمهرجانات الخطابية والعروض العسكرية مثلاً، ومقاطع أُخرى يخوض فيها المقاومون اشتباكات مسلحة مع الجيش، أو يطلقون النار باتجاه الدوريات المتوغلة في قلب المناطق الفلسطينية، ومقاطع مدمجة مع أغانٍ وطنية للشهداء وقصائد رثائهم.
بالتالي، فالافتراض أن شبكات التواصل الاجتماعي تخلق تصوراً لدى الشباب بشأن قضايا مختلفة، وتعيد ترتيب الأولويات والاهتمامات لديهم، كما تعمل على إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية وخلق نوع من التفاعل والتأثير المتبادل الذي يؤدي إلى حالة نضالية مشتركة قد تخرج إلى حيز التنفيذ الفعلي، بعد أن كانت تحت مظلة العالم الافتراضي.
في الواقع، هذا من أكثر ما يُقلق إسرائيل في الحالة الراهنة، إلا أنها لا تدرك، أو ربما تنسى، أو تتناسى، أن الفلسطيني يقع تحت تأثير سياساتها الاستعمارية في كافة أماكن تواجده، وأن فكرة المقاومة بشكلها الأساسي مستمدة من حقيقة الاحتلال، وليس من تأثير العالم الافتراضي والشبكات الاجتماعية، على الرغم من كونها عاملاً مساعداً.
هل السلطة الفلسطينية عاجزة؟
"في صيف 2003، قال عيبال جلعادي رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي لرئيس هيئة الأركان، آنذاك، موشيه يعلون: "ألم نقل أنه إذا أصبح أبو مازن رئيس الوزراء الفلسطيني وبدأ سلسلة من الإصلاحات في السلطة، فإننا سنبدأ نحن أيضاً بالتحرك؟ لقد حدث ما نريده بالضبط. لقد حقق ثلاثون ألفاً من جنود الاحتياط الهدف الذي من أجله تم تجنيدهم. لقد انتصرنا، هيا نقول ذلك، ونبدأ بعمل ما كنا قد قلنا أننا سنفعله إذا انتصرنا."
عند قراءة هذا النص الذي يتحدث عن فترة انتفاضة الأقصى وما تبعها من أحداث من كتاب بومرانج – السهم المرتد- للباحثيْن عوفر شيلح ورفيف دروكر (ص 335)، تدرك ما الذي تسعى له إسرائيل اليوم. وعند العودة إلى الخلف والتمعن أكثر فأكثر بالأحداث وتفاصيلها، ترى بوضوح حجم التشابه بين التحريض ضد السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية وبين حالة التحريض في بداية انتفاضة الأقصى، مع الأخذ بالحسبان أن إسرائيل، حينها، كانت تسعى لتغيير القيادة الفلسطينية، أما اليوم، فتحاول إعادة صوغها من جديد. بكلمات أُخرى، فإن إسرائيل تسخّر الآلة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، على الرغم من التنسيق الأمني الذي يبلغ أوجه منذ أعوام.
جملة من المقالات التحليلية لمجموعة من الباحثين الإسرائيليين، زادت من الشعر بيتاً، ودللت على الطرح الآنف الذكر، إذ نصح أودي ديكل وأوريت بارلف، من معهد دراسات الأمن القومي، إسرائيل في مقال لهما، بأن الخروج من الحالة الراهنة يتمثل في نقل السيطرة التامة على كامل شمال الضفة إلى السلطة الفلسطينية، مقابل التزام السلطة منع التصعيد، وإحباط البنى التحتية للمجموعات المسلحة، ويأتي ذلك بالتعاون مع الأردن ودول الخليج والإمارات، برعاية السلطة الفلسطينية وضمن إطارها.
أما أودي أفينتال، الباحث في معهد السياسات والاستراتيجيات في جامعة رايخمان، فيرى أنه لا أساس للمزاعم الإسرائيلية بشأن إرخاء قبضة السلطة على المناطق الفلسطينية، إلّا إن الغياب التدريجي للسلطة الفلسطينية يشكل تهديداً استراتيجياً متعدد الأبعاد لإسرائيل، ويجب عليها العمل في المدى القريب من أجل أن يستمر الجيش في عملياته، للحد من وقوع عمليات فدائية، تحديداً عشية الأعياد والانتخابات في إسرائيل. أما في المدى البعيد، فإلى جانب الحفاظ على وجود الجيش الإسرائيلي على الأرض ومنع سيطرة "حماس" على الضفة الغربية، يجب على إسرائيل تقوية السلطة الفلسطينية بكافة الطرق، وتشجيع اقتصادها وتقوية بنيتها التحتية ومؤسساتها وتطهيرها من الفساد، وإحياء العملية السياسية.
ختاماً، تجتهد إسرائيل في الحالة القائمة لتحقيق أهدافها السياسية، أهمها الانفصال الجزئي عن الفلسطينيين، مع إبقاء سيطرتها الأمنية وحرية العمل في المدن الفلسطينية، بحسب الضرورة. لكن من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في الضفة الغربية، فلربما يقلب حدثٌ واحد الطاولة رأساً على عقب، إلاّ إن هنالك عدة أسئلة مفتوحة ستبقى، من أبرزها: هل نحن على أعتاب عملية تفكُّك وانهيار للسلطة الفلسطينية بقيادتها الحالية؟ وما هي طبيعة مرحلة ما بعد أبو مازن؟