الحركة الأسيرة: "حل التنظيم" خطوة لتنظيم الاشتباك
Date:
31 août 2022
Auteur: 
Thématique: 

عشية الشروع في الإضراب الجماعي عن الطعام في الأول من أيلول/سبتمبر، أعلن الأسرى قرار البدء بإجراء حلّ التنظيم، أو بتسمية أُخرى "حل الهيئات التنظيمية". قد لا تكون الخطوة مفهومة لدى الجمهور الواسع، وقد لا يدرك الكثيرون فحواها ومنطقها. إلا أنها مرحلة حاسمة في إعلان الإضراب، وفي الصدام المباشر واشتباك القوة بالقوة – قوة إرادة الأسرى وقوة القمع الترهيبية لمصلحة سجون الاحتلال، وبالأحرى، لدولة الاحتلال بكامل منظوماتها. إنها خطوة تهديد فعلي، وبجهوزية عالية صادرة عن "الحركة الأسيرة"، وتعني أنه ليس هناك ما يوقف المسار سوى انصياع مصلحة السجون لمطالب الأسرى.

يشكل حلّ التنظيم معركة سيادة بامتياز يبادر إليها الأسرى، وتتمثل في فقدان "إدارة السجون" لجوهر أدوات السيطرة والضبط. فمن ناحية، تشكل الهيئات التنظيمية للأسرى إنجازاً تاريخياً للحركة الأسيرة، فهي أسلوب التنظيم القائم على نوع من الإدارة الذاتية الكيانية لحياتهم الاعتقالية في الحالات "العادية"، وفيها يضبط الأسرى علاقة مصلحة السجون بهم على أساس جماعي منظم، في حين ترى مصلحة السجون، من منطلقاتها، هيئات الأسرى بمثابة منظومة "قابلة للضبط"، وعند الحاجة للتفاوض، وكذلك كعنوان للتعامل مع الأسرى، بدلاً من التعامل الفردي مع كل أسير على حدة، كما ترى فيها مصلحة وأداة لتوفير قوى بشرية كبيرة من السجّانين. لكنها وبالأساس ترى فيها، من ناحيتها، أداة رقابة وضبط، وتتيح لها إدارة شؤون السجون بأقل الخسائر والتكلفة البشرية. هذه البنية سارية فقط على ما يخص أسرى الحرية الفلسطينيين.

إن "حلّ التنظيم" هو أقصى درجات التنظيم. إذ تحلّ مكان هيئات الأسرى الدائمة لجنة الطوارئ الوطنية العليا، المشرفة على الإضراب، وعلى التفاوض، وعلى إنهائه حين ترى ذلك مناسباً. وهي هيئة مركّبة من قادة الفصائل المشارِكة في الإضراب، وصاحبة الكلمة الفصل في نهاية المطاف. وإذ يدرك الأسرى أنه من أوائل خطوات مصلحة السجون وخلفها "الشاباك"، عزل أعضاء لجنة الطوارئ العليا المعلنة، وتوزيعهم على زنازين العزل في سجون مختلفة، منعاً للتواصل والتأثير، واعتقاداً من استخبارات السجون أنهم سيكسرون الإضراب في أولى خطواته. لكنها تفشل، إذ يكون هناك لجان ظل للطوارئ متفَّق عليها، وتعمل على إدارة الإضراب كما هو مخطَّط له. وفي حال تم عزل أعضائها تتكون لجان أُخرى، فلا يوجد فراغ قيادي في الاشتباك. والأهم في هذه الرتابة، هو رفض هذه اللجان، ومعها جموع الأسرى المضربة، لأي تفاوض مع مصلحة السجون بشأن الإضراب، ويكون الضغط باتجاه واحد ومكثف، وهو إلغاء عزل أعضاء لجنة الطوارئ العليا والتفاوض معهم كهيئة مخولة، وليس كأفراد. إنه سور إرادات مُحكَم يبنيه الأسرى في وجه السجّان، وعليه، حين يتم تبليغ مصلحة السجون بقرار حل التنظيم، فهذا يعني اشتباكاً بجهوزية كفاحية قصوى، وفيها استعداد لدفع ثمن الاشتباك، ولأن تكون إمكانية الانكسار غير واردة. إنها حرب كرامة يعلنها الأسرى وسلاحهم الأمضى، وهو الأمعاء الخاوية والنفوس الطافحة بالمعنويات.

من المتوقع أن يكون الإضراب المزمع قاسياً، كونه يأتي في سياق الموجات الارتدادية لنفق الحرية الذي يمر عليه عام كامل في هذه الأيام، وكونه لا يزال مفتوحاً في رأس سجون الاحتلال ودولته، انتصاراً فلسطينياً معنوياً عظيماً في زمن حسبت إسرائيل فيه أنها ماضية باتجاه القضاء على قضية فلسطين وعلى روح الشعب الحرة، ليعيدها الى نقطة البدايات التي لا تنفع فيها كل ترسانات العدوان. أما ما يزيد في أهمية الإضراب، كونه يُعلَن في أجواء معركة انتخابية إسرائيلية، تصبح فيها العدوانية تجاه الفلسطينيين مادة أساسية في كسب الأصوات الصهيونية، كما أنه أساساً يُعلَن في ظل المشروع الإسرائيلي المتميز بتعميق الاحتلال والضم وترسيخ العنصرية البنيوية العدائية وكراهية الفلسطينيين والمسّ بهم، يضاف إليها حالة العداء القصوى لأسرى الحرية، والتي يصنعها الساسة والنخب الإسرائيلية، ويقوم الإعلام الإسرائيلي بهدر دم الأسرى، بعد أن أصدرت محاكم الاحتلال، بدورها، أحكامها الظالمة ضمن منظومات صنع ومراكمة الانتقام والتفوق العرقي، وهي ذاتها منظومات تبييض الاحتلال وجرائمه مهما كانت.

وعليه، فإن النهج الذي دعا إليه، حصرياً، كل من وزراء الأمن الداخلي السابقين، تساحي هنغبي وغلعاد أردان وأمير أوحانا، والذي دعا جهاراً إلى "تكسير العظام" وتدمير الحركة الأسيرة، وإلى عدم التجاوب مع المطالب، حتى ولو استشهد الأسرى، أو بلغة الوزراء المذكورين "ليموتوا"، قد بات سياسة دولة وثقافة المجتمع الإسرائيلي العنصرية الانتقامية السائدة.

منذ سنة 2018 تحديداً، هناك سياسة واضحة المعالم، مفادها العمل على القضاء على بنية الحركة الأسيرة. وتنطلق هذه السياسة الحكومية الرسمية من اعتبار ظروف حياة الأسرى الاعتقالية "أفضل من اللازم"، واعتبار كل إنجاز حققته الحركة الأسيرة في تاريخها امتيازاً ينبغي إلغاؤه. بينما أداة إلغائه هي القمع المباشر وتعميق سياسة القهر المستدام. كما يشكل القرار الحكومي الإسرائيلي وخلفه جهاز "الشاباك"، بتكثيف عملية نقل الأسرى بين السجون، مسألة غاية في القهر، وبالذات تجاه الأسرى القدامى وكبار السن وذوي الأحكام العالية والأسرى المرضى، لِما فيها من معاناة، وهم الذين يبحثون عن فسحة استقرار وهدوء نفسي نسبي، حتى ولو كان متخيلاً في داخل مساحات القهر الدائم.

تتكثف في سياسة تنقيلات الأسرى كل السادية الممكنة والتلذذ بالانتقام، وفيها مسعى لإعاقة تنظيم الأسرى الجماعي وتنغيص حياتهم الاعتقالية، وإهانتهم، وإرهاق مقصود للجسد والروح. كما أن سحب مصلحة سجون الاحتلال التزاماتها من الربيع الماضي، والتي التزمت بها أمام ممثلي الأسرى، بإلغاء كل العقوبات الجماعية التي فرضتها، رداً على نفق الحرية، وبإعادة الأمور كما كانت عليه من قبل، يشكل مؤشراً إلى قرار دولة الاحتلال بالمزيد من العدوانية.

يتميز المسعى الاستخباراتي الإسرائيلي الحالي، بالإضافة إلى ما ذُكر من تصعيد القمع، واستخدام وحدات جيش الاحتلال في قمع الأسرى، والتي بحسب عقيدتها الحربية، تشكل "تصفية العدو" أداة مباحة ومتاحة، بالسعي الحثيث لقتل صورة الأسرى أمام شعبهم، وتشويه سمعتهم الأخلاقية التي بلغت ذروتها في نفق الحرية. إنه انتقام الاحتلال من صورة إخفاقه، ومن نشوة فرح الحرية ومعانقة المستحيل التي استحوذت على قلوب الشعب الفلسطيني وكل أنصاره ونصيراته. لذلك، نرى اليوم حملة مكثفة ومتسارعة الوتيرة تتقاسم الأدوار خلالها المؤسسات الإعلامية والسياسية والأمنية لتشويه سمعة الأسرى أمام شعبهم أولاً؛ وثانياً، أمام المجتمع الإسرائيلي ذاته، وتصويرهم على أنهم، جماعياً، كما لو كانوا عصابة من المجرمين والمغتصبين، وأن مصلحة سجون الاحتلال هي ضحيتهم، وأن دولة الاحتلال هي الضحية. وكل ذلك لتبرير أي إجراء قمعي مستقبلي، وهندسة استعداد شعبي إسرائيلي، فوق الموجود أصلاً، لقبول أي قمع دموي للأسرى، بعد المشروع الاستخباراتي الاحتلالي الساعي لـ "نزع" أي طابع إنساني عنهم وشيطنتهم.

إن هذه الخطوات تندرج أيضاً في السعي الثابت لإفساد الحركة الأسيرة من الداخل، واستمالة البعض، حتى يكون "سوس الخشب منه وفيه". وهي لعبة استخباراتية مكشوفة، الهدف منها تشويه سمعة الأسرى ككل، وخلخلة بنيتهم وتشتيت هويتهم الوطنية الكفاحية، وهو المسعى ذاته الممارَس تجاه كل شعب فلسطين. وبتقديري، فإن هذه السياسة لن يُكتَب لها النفاد، فشعبنا دائماً يفاجئ، ولن يتيح لهم ذلك، والأسرى هم أبناء وبنات هذا الشعب، ومن روحه. كما تعلم دولة الاحتلال بأن أي قمع دموي للأسرى قد يتحول إلى حدث استراتيجي يصل إلى مواجهة عسكرية، وله إسقاطات سياسية وإقليمية. ولذلك، هي في ورطة مع ذهنيتها الانتقامية، أما رسالة الأسرى، فهي أن أي بطش دموي سيعزز تلاحُم الأسرى، وسيزيدهم قوة وصلابة. هكذا هي المعادلات داخل جدران القهر.

كان من اللافت في البيانات التي صدرت عن الحركة الأسيرة لمخاطبة جماهير الشعب الفلسطيني في الأيام الأخيرة قبيل الإضراب، وتحضيراً لأجواء المواجهة الصعبة، رسالة هذه البيانات إلى الشعب بأن إضرابهم هو معركة الشعب بأكمله، وهي معركة الحرية في الطريق إلى حرية الشعب. كما تضمنت طلباً بتقاسُم المسؤولية، وتأكيداً أن معركة الأسرى تُدار بالتزامن، وبالتنسيق، وبالتكامل، من داخل السجون ومن خارجها. كما أكدت كذلك رسالتها الإنسانية أن لا تُترك ردات الفعل لعائلات الأسرى وذويهم المثقلين بعذابات القلق على الأبناء والجهود المضنية لزياراتهم المبتورة وسطوة انتظار الفرج. إنه نداء للشعب بأن يتحمل مسؤولياته، وأن يقوم بدوره في معركة عليها أن تتكامل. سيواجه الأسرى السجّان وكل الذهنية الإسرائيلية الدموية وأدواتها، لكن لا ينبغي أن يخلق هذا الانطباع بأن الأمور عادية؛ فالأسرى في خطر، وحمايتهم تأتي من صلابتهم، ومن شعبهم، ومن كل أنصار الحرية في العالم. إن الإضراب عن الطعام الذي يعرّض حياة الأسرى للخطر الحقيقي والمباشر، هو مشروع حياة وحرية وكرامة.

يراهن الأسرى على دور فلسطينيي الـ 48. فبالإضافة إلى كونهم قطاعاً حياً وناشطاً من الشعب الفلسطيني، فإنهم الوحيدون الذين يمكنهم الوصول إلى السجون والتظاهر أمامها، وإلى المشافي، في حال تم نقل الأسرى إليها كما في حالات الأسرى الإداريين المضربين عن الطعام، وحالياً، الملحمة التي يسطّرها الأسير خليل عواودة ببقايا جسده، وهي ساحات ضرورية للأسرى، إذ يكفي أن يسمعوا صوتاً من مكبرات الصوت يناصر إضرابهم، أو زمور سيارة متواصل، وهي تشق طريقها على الشارع الرئيسي المحاذي للسجن، فالأسرى يعرفون هذه اللغة من التحية، ليردوا عليها بالمزيد من الإرادة والحب والصمود.

انظر