عرضت "دار النمر للفن والثقافة" في سنة 2016، وضمن فعاليات مهرجان "قلنديا الدولي"، فيلم "استعادة" للمخرج الفلسطيني كمال الجعفري. كان العرض دهشة، صرخة، وإبداعاً خاصاً من بدايته حتى نهايته. ومنذ ذلك الحين، مثّل هذا الفيلم لي دليلاً يؤكد أن بوسع الفن تفكيك ما هو قائم افتراضياً، وإنهاء الاستعمار على الشاشة، وملامسة الواقع في الوقت ذاته، عبر فتحه الطريق أمام إجابات عن بعض الأسئلة الكبرى، وفي مقدمها سؤال: كيف ننهي الاستعمار؟
مؤخراً، حاورت المخرج كمال الجعفري، وأخبرته عن علاقتي بفيلمه وكيف أراه، وأوضحت رأيي في أن الفيلم إعادة، وليس فعل "الاستعادة" فقط. إنه إعادة حقّ مستلب منا نحن الفلسطينيين، فقد محا المخرج الاستعمار من يافا؛ كيف؟ بالسينما، اللغة التي يتقنها كمال، ويحفر عبر عدستها عميقاً. يبحث الجعفري الآن عن مواد لفيلمه الجديد الذي من المتوقع أن يصدر قريباً، لكن المشقة طويلة في الوصول إلى الأرشيف، أو النبش لدى مَن يملكون منه بعض المواد ويخبئونها كأملاك شخصية تُمنع على الآخرين.
مشاهد من فيلم "الفيلم عمل فدائي" وصول بن غوريون إلى يافا
شدّتني رحلة كمال في الوصول إلى الأرشيف والمواد، نظراً إلى شغفي بتفاصيل ما حدث، وما نُهب من مركز الأبحاث الفلسطيني الذي نهبته إسرائيل سنة 1982، وفجرّته لاحقاً هي على الأغلب، أو بواسطة عملاء لها في سنة 1983. وعلى الرغم من أن فيلم الجعفري الجديد لا يدور حول مركز الأبحاث ذاته، فإن الفيلم، كما يقول، "ليس توصيفياً أو تاريخياً"، بل إنه يستخدم قصة مركز الأبحاث "كمنطلق للفيلم، لغته الأساسية، خلق صورة مضادة وأرشيف مضاد للأرشيف الكولونيالي السائد." وفي سياق فيلمه الجديد "الفيلم عمل فدائي"، يستخدم مواد من الأرشيفات الإسرائيلية، ويقوم بأعمال "تخريبية بصرية وصوتية ضدها"، وهو بذلك يخلق الصورة الجديدة.
فدائي في مواجهة الأرشيف
في سنة 1988، صدر كتاب "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" للمؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، ووثّق هذا الكتاب بعض ما حدث في النكبة، وكيف سيطرت العصابات الصهيونية على معظم فلسطين. كما أن الباحثة الإسرائيلية رونا سيلع أجرت عدة أبحاث، منطلقها مواد أرشيفية متاحة في إسرائيل، وأنجزت من خلال أبحاثها فيلم "المنهوب والمخفي: الأرشيف الفلسطيني في إسرائيل"، والذي يعتمد في جزء منه على أرشيف فلسطيني منهوب.
تلك المواد التي اعتمد عليها موريس وسيلع، لا تُتاح لغيرهما، وبصورة خاصة للفلسطينيين، حتى ولو كانوا من أراضي الـ 48، ويحملون بطاقة الهوية الإسرائيلية. ويقول الجعفري "منذ مدة زمنية، أبحث عن مواد مسروقة موجودة بكثرة في الأرشيفات الإسرائيلية، وهناك باحثون إسرائيليون يستخدمون هذه المواد، مثل رونا سيلع. رفضت سيلع إعطائي المواد التي لديها، لأنها تريد أن تكون المرجعية، وتبني لنفسها مهنة على حساب هذه الأرشيفات التي أخذتها من الجيش، والممنوعة علينا. ولما أصريت عليها لأخذ المواد، أرسلت لي الملفات بوضع سيئ جداً، كي لا أستطيع استخدامها. علينا الالتفات إلى أنه حين يكون الإسرائيلي مرجعية، فإنه يؤسس ذلك في النهاية لأحقية له على الرواية وعلى المكان." في إشارة إلى الدور الذي يلعبه موضوع وجود الأرشيفات لدى الإسرائيليين حصراً.
ويضيف الجعفري أن رونا سيلع "نموذج لواحدة تدّعي أنها ضد المشروع الكولونيالي، لكن العكس هو الصحيح، هي تروي قصصاً عن عمليات النهب التي حدثت في سنة 1982، أو في سنة 1948، وتقوم بتحليلها أكاديمياً. لكنها عملياً تستمر في حيازة واستخدام مواد ليس لها الحق في الحصول عليها تحت أي مبرر، فهي مثلاً لديها أرشيف الصور من استديو رصاص، والذي سُرق من القدس، ولم تُرجعه إلى عائلة رصاص." هذا على سبيل المثال لا الحصر.
جمع المواد بحد ذاته ليس هدفاً لدى كمال، بل استخدامها لإظهار فلسطين، هو واحد من الأهداف. فيقول عن محادثاته مع سيلع: "كتبت لها أن تصرُّفها يشكل استمرارية لعملية النهب، ولا فرق بين ما تفعله وبين ما فعله الجيش."
أرشيفنا والضياع
لعل أبرز الروايات المتعلقة بأرشيف مركز الأبحاث الذي نهبه الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1982 من بيروت، تلك التي نشرها الباحث الفلسطيني سميح شبيب، الذي كان مطلعاً على التفاصيل. وعلى الرغم من روايات الضياع المتعددة لهذه المواد الغنية، كما أكد شبيب وفيصل حوراني وغيرهما، فإن مدير مركز الأبحاث الحالي الدكتور منتصر جرار أكد لموقع "متراس" في العام الماضي، أن أرشيف المركز موجود في الجزائر، وأنه "طوال الوقت بحوزة الاستخبارات الجزائرية ضمن ملف "سرّي للغاية"، ولم تفصح الأخيرة عن وجوده، بناءً على طلب من ياسر عرفات."[1]
تلك القصص المتعلقة بالأرشيف يعتبرها كمال الجعفري "فولكلوراً غريباً، يعبّر عن حالة الضياع التي نعيشها، إذ لا توجد مرجعية. فحتى القصة التي تحدث عنها سميح شبيب بشأن مصير الأرشيف، وكتاب أنيس صايغ أيضاً، يدللان على عدم المسؤولية لدى القيادة السياسية التي كان من السهل عليها الاستغناء عن أرشيفاتها، وهذا الأمر تدور حوله علامة استفهام كبيرة."
مشاهد من فيلم "الفيلم عمل فدائي" وصول بن غوريون إلى يافا
لا يقتصر الأمر لدى كمال على الأرشيف الضائع، إذ يمتد بحديثه نحو المواد الموجودة لدى الناس في منازلها، فيقول "ليس هناك مرجعيات، يمكن أن يكون هناك عملية تجميع للمواد الموجودة لدى الناس، لكن بعض مَن يملكون هذه المواد يرفضون إتاحتها، أو السماح للناس بمشاهدتها، وهذا أيضاً غير مفهوم." وهو ما يعتبره فرصة، إذ يشدد على أحقية إتاحة الأرشيف، باعتباره ملكية عامة، بالقول إن "المشكلة الإضافية، أنه لم يعد هناك عنوان يمكن الرجوع إليه من أجل هذه الأمور." ويشدّد على أن "حالة الضياع المستمرة، والإسرائيليين الذين سرقوا كل شيء، والفساد الفلسطيني وعدم المسؤولية، تركت المواد في شوارع بيروت. وهذا ما يوضحه أنيس صايغ في مذكراته، فيقول إنه كان هناك خطة لتخبئة المواد في حال دخول الإسرائيليين إلى لبنان، ودخلت إسرائيل بالفعل، ولم تتم حماية المواد، على الرغم من وجود الخطة."
تفكيك وتركيب
عملية النهب الإسرائيلية مستمرة لكل شيء، المحاولة قائمة لسلب الفلسطينيين حاضرهم كما تاريخهم. فحتى الرموز التي باتت تُعنى تماماً بالفلسطينيين يعمل الاحتلال على خلق تاريخ لها مرتبط به، كما ورد في مقال نشرته المكتبة الوطنية الإسرائيلية بعنوان "يهود بالكوفية: قصة الرداء الذي تحول إلى رمز لكاتبه شير برام، إذ يحاول من خلاله ربط باليهود بالمكان من خلال ارتداء الكوفية الفلسطينية، ويحاول إظهارهم كأشخاص كانوا على استعداد للتعايش مع الفلسطينيين. حتى أن المقال يورد صورة لدافيد بن غوريون وهو يضع ما يشبه الكوفية على كتفيه، وصورة أُخرى بعنوان "الفتاة ذات المسدس ترتدي الكوفية: زيفا أربيل، ضابطة اتصالات في كتيبة ‹يفتاح›، بعد احتلال قرية برفيليه ]قضاء الرملة[. تموز، 1948." تلك الصور ومثلها ربما فيديوهات لأمور ورموز مرتبطة تماماً بالشعب الفلسطيني وعلاقته بأرضه، يعمل الاحتلال على نَسبها إليه، أو تحوير سياقها. ومن هذا المبدأ، يعمل المخرج الفلسطيني كمال الجعفري على استعادة هذا التاريخ، فيقول إن"القصة ليست باستعادة ما سرقوه من مواد، القصة هي استعادة المكان كله، هذه فكرة الفيلم. ولا يحصر الموضوع في أنهم سرقوا صوراً وأفلاماً يجب أن نسترجعها. القصة أنهم سرقوا بلداً بأكمله، فالموضوع بدأ بالاهتمام الذي كان لديّ بحقيقة أن النهب عمل متواصل، مع كل احتلال جديد لمكان، كانوا يسرقونه، ونحن ليس لدينا إمكانية استعادة الأشياء الموجودة هناك. الأمور التي يقومون بنشرها، كالتي تم تصويرها منذ احتلال فلسطين، حتى قبل الاحتلال. بالنسبة إليّ، كل هذه المواد تابعة للفلسطينيين، هي ليست أرشيفاتهم، هي أرشيف فلسطين."
الأفلام منفصلة متصلة
المتابع لإنتاج الجعفري السينمائي، سينتبه إلى أن العناوين المختلفة لأفلامه، وكذلك السياقات المتعددة، لها، لا تخرج عن ثيمة واحدة هي فلسطين الكاملة التي لنا. وفي هذا السياق يقول "الأفلام التي أقوم بصناعتها تكمل بعضها بعضاً، موضوع استعادة الصور هو رمزي لكل فكرة استعادة للمكان."
يصعب التقاط لحظة يأس عند الجعفري، لا في شخصيته، ولا في أفلامه، فعلى الرغم من المواد التي سُرقت وفُقدت، ومسؤولية الفلسطينيين عن استعادتها، وعدم القيام بالمطلوب من أجلها، فإن الجعفري يعمل ولا يقف متفرجاً، يقوم بما يراه حلولاً بالنسبة إليه، ويقول "بالنسبة إليّ، المنفذ الوحيد هو العمل على فكرة استعادة الصورة، استعادة المكان، استعادة الذاكرة ككل، ليس فقط مواد معينة أو فترة معينة. ومن أجل ذلك أعمل على المواد الموجودة في الأرشيفات، وفي كل ما أحصل عليه. فبالنسبة إليّ، هذه كاميرا المسلوبين."
مشاهد من فيلم "الفيلم عمل فدائي" وصول بن غوريون إلى يافا
الصور والمواد الأرشيفية التي يجمعها هي مواد للبحث والتفكير فيما كان يخطط له المشروع الصهيوني، وكيف كان يعمل لصناعة تاريخ روائي للأرض مرتبط بالمستوطنين، مع طرد قسم كبير من الفلسطينيين. إذ يشير إلى أنه "في المواد المصورة بعد احتلال فلسطين مباشرة، في الجليل وحيفا ويافا وطبرية، تجد موضوع تصوير المقاتلين اليهود، والمكان الذي أصبح لهم. في هذا التصوير تتسلل شخصيات فلسطينية بالصدفة في خلفية الصورة، هم الذين بقوا في الأرض ولم يُهجَّروا. أنا أجمع هذه اللقطات، وأبني أرشيفاً جديداً. نحن لم يكن لدينا إمكانيات لتصوير مثل هذه المواد، وهم الوحيدون الذين كان لديهم الإمكانية في تلك المرحلة. من خلال هذا العمل، اكتشفت الطبيعة وأماكن وتاريخاً مثيراً في كل فلسطين، من النقب إلى الجليل."
"الفيلم عمل فدائي"
ردُّ كمال على هذا المشروع الاستعماري يأتي من خلال مشروعه الخاص، فهو "مشروع تخريب لأرشيفهم. وله كثير من الجوانب، مرات أعيد المونتاج، وأغيّر كل المعنى، وأحياناً أركز على الأطراف، حيث يوجد الفلسطينيون، من خلال لباسهم وهيئتهم. يظهر مباشرة أن الفلسطينيين هم الأصليون، والمصور ذاته هو الغريب الآتي من بعيد. هناك مواد من سنة 1967، حين احتُلت الضفة الغربية، وبصورة خاصة في منطقة الخليل، يظهر فيها فلاحون فلسطينيون يدّعون أن هذه هي الطريقة القديمة للحياة التوراتية، فقد كان الهدف من تصوير حياة الفلاح، الاستيلاء عليها."
حاوره أيهم السهلي
[1] انظر: موقع "متراس" على الرابط الإلكتروني.