خلال فترة انتشار وباء كورونا، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مقالة كتبها مفتش عام الشرطة السابق روني الشيخ، الذي كان يشغل قبل ذلك منصب نائب رئيس جهاز الأمن العام "الشاباك". حينها، انتقد الشيخ إجراءات الحكومة بكل ما يخص الإغلاقات، وقال: من تجربتي، في البداية يجب فرض الإغلاق التام أولاً، ثم البدء بالتنفيس شيئاً فشيئاً، وليس العكس.[1] هذه الفرصة كانت نادرة، للاطلاع على العقلية الأمنية الإسرائيلية التي عادة ما تُحاك داخل الغرف المغلقة وأروقة الاستخبارات ولا تخرج إلى العلن، من أحد قيادات أهم جهاز استخباراتي يتعامل مع الفلسطيني ويقرر سياسات السيطرة عليه. ومع انتشار الخبر بخصوص "التسهيل" الإسرائيلي لسفر الفلسطيني من مطار "رامون"، لا يمكن إلا استذكار هذا المنطق الأمني الإسرائيلي الذي يفرض أقصى أشكال المعاناة، ثم يطرح النفَس البسيط، كـ"تسهيل" يجب شكره عليه. وهو أيضاً المنطق ذاته الذي يحاصر الفلسطيني خلف جدران الفصل العنصري، ويطرح زيارة الأقصى في رمضان، أو التصريحات لزيارة العائلة، كنوع من أنواع "التسهيلات" التي يتم إعلانها بصورة "احتفالية".
هناك بُعدان أساسيان للخطوة الإسرائيلية "السماح" للفلسطيني بالسفر من مطار "رامون"، القريب من إيلات: الأول والأساسي هو سياسي استراتيجي، ويتعلق بالحياة في مرحلة "ما بعد الحل السياسي"؛ أما الثاني، فهو اقتصادي ويتعلق أولاً بالمطار ذاته الذي يُعَد أحد أكبر الإخفاقات الإسرائيلية، وكذلك شركات الطيران الإسرائيلية، وبصورة خاصة "أركيع" التي تم الإعلان أنها ستنظم الرحلات، وهي شركة كانت على حافة الإفلاس خلال فترة انتشار "كورونا"، ولا تزال تستصعب النهوض من الأزمة الاقتصادية. أما المطار ذاته، فبُني في سنة 2019، بهدف تخفيف الضغط عن مطار "بن غوريون" من جهة، وإنعاش إيلات ومنطقة الجنوب عموماً، كمنطقة سياحية فيها حركة طيران تنافس شبه جزيرة سيناء المصرية المعروفة والعقبة الأردنية، كمناطق سياحية ناجحة نسبةً إلى إيلات.
كيف يسافر الفلسطيني؟
كيف تحول السفر من بقعة نائية في الصحراء إلى "تسهيل"؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب أولاً استغلال الفرصة للحديث قليلاً عن كيفية سفر الفلسطيني أصلاً من الضفة الغربية. رحلة المعاناة هذه، تبدأ من اللحظة الأولى حين يخرج من بيته أولاً إلى مدينة أريحا، حيث المنفذ الوحيد من الضفة إلى الأردن- عنق الزجاجة الذي عبر منه في سنة 2015 أكثر من 800 ألف فلسطيني[2]، وفي سنة 2019 نحو 950 ألف مسافر خلال أشهر الصيف فقط.[3] عندما يصل إلى "معبر الكرامة" في أريحا، يدخل بدايةً إلى ما يسمى "الاستراحة"، وهي قاعة كبيرة، حيث يلتقي النقطة الأولى- الشرطة الفلسطينية، فيدفع هناك ما يسمى "ضريبة المغادرة"، التي تصل إلى 158 شيكلاً، أي ما يعادل 51 دولاراً، من المفترض أن يتم تقاسُمها ما بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال الإسرائيلي. وفي هذه اللحظة أيضاً، يقوم بإرسال الحقائب في شاحنة، ويدفع على الحقيبة وتذكرة الباص ما يعادل 50 شيكلاً- تقريباً 15 دولاراً، وينتظر. يجلس هناك في الاستراحة التي لم يتم تجهيزها بتهوئة ومكيفات، على الرغم من وجودها في الأغوار، إلا في الأعوام الأخيرة.
بعد الانتظار، الذي من المستحيل تقريباً معرفة كم سيمتد بسبب عدم معرفة الظروف وعدد الأشخاص، تأتي الحافلة التي دفع تذكرتها. يصعد إليها، ويبدأ بانتظار فتح البوابة التي ستسمح له بالدخول بين الشاحنات والسيارات. وعندما يقرر الجندي الإسرائيلي فتح البوابة، أحياناً بعد ساعات، وأحياناً بعد نصف ساعة، تدخل الحافلة وينزل الفلسطيني مرة أُخرى منها إلى قاعة أُخرى. هناك ينتظره الإسرائيلي، فيأخذ جواز السفر ويتم تفتيشه جيداً، وإن لم يعرف حينها أنه ممنوع من السفر بسبب أي ذريعة إسرائيلية لا يتم ذكرها عادةً، يُسمح له بمرور "معاطة"- بوابة حديدية، ليخرج إلى حافلة أُخرى تكون بانتظاره. فيصعد إلى الحافلة وينتظر مرة أُخرى في أجواء الأغوار القاتلة داخل الحافلة، بين الشاحنات والسيارات، واستناداً إلى وتيرة الحركة. بعدها، تتحرك الحافلة باتجاه النقطة الأردنية. فينزل منها مرة أُخرى إلى قاعة أُخرى، هناك ينتظره الشرطي الأردني، فيأخذ جواز سفره، ويدفع مرة أُخرى ضريبة دخول إلى الأردن تقدَّر بـ10 دنانير، ليتم فحصه أمنياً في الأردن، هذه المرة من الجانب الأردني.
بعدها يخرج إلى الأردن، ليستقبل حقيبة السفر التي تركها في الجانب الفلسطيني في بداية رحلة العذاب هذه. ويستقل سيارة أجرة إلى عمّان بمبلغ يعادل 40 ديناراً، أو أكثر أو أقل، بحسب العدد، وإن استطاع الحصول على رفقة تشاركه الطريق والمصروف، ليصل إلى مطار الملكة علياء في الأردن، ويسافر من هناك. وبالعودة إلى تصريحات الشيخ بشأن الإغلاق، يجب التذكير أن هذا يُعَد "تسهيلاً" أصلاً، فإسرائيل لم تفتح "الجسر" 24 ساعة إلا مؤخراً، قبلها، كان لديه ساعات عمل محددة من دون علاقة بمواعيد الطيران، وهو ما كان يدفع بالفلسطيني إلى الدخول إلى الأردن في ساعات العمل في الجسر، واستئجار غرفة في فندق لليلة واحدة، تحضيراً لموعد الطائرة التي طبعاً لا تتلاءم مع ظروف أكبر الكوارث الإنسانية، كظروف حياة الفلسطيني، وتغادر في أي ساعة تريد من عمّان- أحياناً في الثالثة فجراً، وأحياناً في الثالثة ظهراً. ولمن لم يستطِع التخيل والجمع بعد، فإن الفلسطيني دفع قبل ركوب الطائرة أكثر من 130 دولاراً، تصل أحيانًا إلى 200 دولار بعد حساب الفساد والعتالة، قبل الخروج والوصول إلى المطار أصلاً- وبذلك يكون بالمُناسبة، دفع ثمن الرحلة الكاملة للإسرائيلي من مطار اللد، وصولاً إلى أي دولة أوروبية يريد؛ وأمضى طوال النهار في حرّ الأغوار القاتل، في الوقت الذي يسافر الإسرائيلي لتمضية عطلة نهاية الأسبوع في اليونان، ويعود صباح الأحد.
"رامون" كخطوة صغيرة في طريق طويلة...
لفهم هذه المعادلة، يجب فهم الظروف السياسية التي تقوم عليها: منطقة أريحا والأغوار هي حدود "الدولة" الفلسطينية مع الأردن، استناداً إلى "حل الدولتين" الذي قامت منظمة التحرير وإسرائيل بخوض مفاوضات سياسية بشأنه وتحت عنوانه؛ أما الأردن، فإنه لا يعترف بسيطرة إسرائيل على هذه الحدود ويعتبرها الحدود الفلسطينية- الأردنية، لذلك، لا يسمح لحمَلة الجواز الإسرائيلي بالمرور عبر هذه الحدود من الأردن وإليه. أما ما كان مفترضاً أن يحدث، استناداً إلى هذا "الحل السياسي"، فهو فتح مطار فلسطيني لـ "الدولة" الفلسطينية، وإنهاء السيطرة الإسرائيلية على هذه الحدود على طريق الحل النهائي الذي، بحسبه، من المفترض أن تنسحب إسرائيل من المناطق المحتلة سنة 1967، وتقوم دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية مع معبر ما بين المنطقتين، حيث توجد في غزة بنية مطار تم افتتاحه في سنة 1998 على يد الرئيس الراحل ياسر عرفات، وسُمّي باسمه. إلا إن إسرائيل قصفته في بداية الانتفاضة الثانية، ولم توافق كلياً على عودة العمل فيه بعد الانتفاضة الثانية، ولاحقاً، حصار غزة المستمر منذ سنة 2006. وبكلمات أُخرى: كان من المفترض أن يكون الوضع الحالي موقتاً إلى حين الوصول إلى المرحلة النهائية التي يُفترض أن يكون للفلسطيني فيها مطاره الخاص، كجزء من "الدولة" الموعودة.
عملياً، تخطت إسرائيل ما يسمى "الحل السياسي". وشكلت زيارة بايدن في تموز/ يوليو من العام الحالي العنوان الأمثل لهذه المرحلة التي بات فيها "حل الدولتين غير ممكن الآن"، كما أشار بايدن ذاته. فلا يوجد اليوم أي حزب أو حركة، باستثناء حركة "ميرتس" التي لا تتعدى قوتها المقاعد الأربعة، مَن يدعو إلى "دولة فلسطينية". بالنسبة إلى الفلسطيني، المطروح اليوم في إسرائيل توجُّهان: التوجه الأول، توجه الحكومة الأخيرة وما يسمى "المركز"، وتنتمي إليه رموز حل مطار "رامون"، هو ما سُمي "تقليص الصراع" الذي خطه الأكاديمي والمؤثر في السياسة الإسرائيلية ميخا غودمان، لذلك، ترى في مبادرة "تقليص الصراع" وثيقة خاصة مُعَدة للتعامل مع "سفر الفلسطيني"؛ أما التوجه الثاني فهو توجه اليمين القومي- الديني، الذي يريد حسم الصراع كلياً، ويفترض أن على الفلسطيني القبول بمكانة "الأغيار". ومن هنا فقط، يمكن قراءة اقتراح "رامون" على أنه خطوة واحدة في طريق تخطّي ما يسمى "الحل السياسي"، ويضاف إلى "تحسين المعابر" و"التطبيع قبل حل القضية الفلسطينية"، كما إدامة الفصل ما بين الضفة وغزة، والأهم: أن يكون استمراراً لنهج إسرائيلي قاده بنيامين نتنياهو طوال 12 عاماً، وبموجبه تطمح إسرائيل إلى تشكيل الفلسطيني كساكن على هامش "الدولة اليهودية"، من دون طموح قومي، إنما مجرد قضايا معيشية من الهامش. لذلك، ومن هذا المبدأ يمكن فهم معارضة السلطة للسفر من مطار "رامون"، فهي تعلم معنى تحويل القائم إلى نهائي، ومعنى هذه الخطوة كجزء من سيرورة تدفع إسرائيل بها على طريق تحويلها إلى سلطة حكم محلي، بدلاً من حركة وطنية.
مشروع اقتصادي فاشل، وشركة مفلسة
تم إنشاء مطار "رامون" ليكون المطار الدولي الثاني إسرائيلياً بعد مطار اللد، بتكلفة 1.7 مليار شيكل. وكان الهدف من إنشاء "رامون" تخفيف الضغط أولاً عن مطار اللد المركزي، وثانياً تحويل مدينة إيلات إلى مركز جذب سياحي، وكان من المفترض أن يستقبل ما يعادل 4 ملايين ونصف مليون مسافر سنوياً. إلا إن المشروع يُعَد من أكبر المشاريع الفاشلة إسرائيلياً، فشركة "راينيير" الإيرلندية التي افتتحت الرحلات الدولية إليه، توقفت عن السفر إليه بعد أشهر من أول رحلة، ولا يمر من المطار المُعَد لاستقبال الملايين إلا بضعة آلاف من المسافرين سنوياً، كما أنه لا يوجد شركات دولية تطير إليه، ولا يستقبل طائرات إلا من شركتين إسرائيليتين صغيرتين تختصان بالسفر الداخلي، وهما "يسرائير" و"أركيع"، ولا تطير إليه شركة "إل- عال" الإسرائيلية المركزية.[4] وهذا ما يؤكده مدير شركة الطيران "أركيع"، إذ يقول إن "المطار فشل، الجميع يعلم بهذا، ويحاولون الحفاظ عليه بالقوة."[5]
وبالعودة إلى "أركيع"، الشركة التي تبين أنها نقلت أول رحلة للفلسطينيين من "مطار رامون"، فإن ظرفها الاقتصادي لا يختلف كثيراً عن وضع "رامون"، إذ تعاني جرّاء مشكلة كبيرة، وهي حجم الطائرات نسبةً إلى عدد المسافرين، وتعيش أزمة اقتصادية كبيرة جداً بسبب هذه المشكلة، فتخرج طائراتها فارغة تقريباً، وهو ما يجعل عملها من دون جدوى اقتصادية، فكانت الشركة الأولى التي أوقفت جميع رحلاتها خلال فترة كورونا، وأيضاً آخر شركة عادت إلى العمل بعد انتهاء الإغلاقات، وأنهت عقود مئات العاملين فيها، وكانت تقارير أشارت إلى أن شركة "إل- عال" تنوي شراءها. هذا بالإضافة إلى إضراب انتهى الشهر الماضي فقط، قام به عمال الشركة لتحقيق مطالب في مجال الأجور. ومن هنا، يغدو سفر الفلسطينيين من "رامون" في المجال الاقتصادي، إنقاذاً لمشروع كلّف أكثر من مليار ونصف وفشل؛ وفي الوقت ذاته، تعبئة لمقاعد طائرات "أركيع" التي تعاني اقتصادياً بسبب عدم وجود الركاب، وتعمل الدولة على تمويلها وتعويضها كي لا تنهار كلياً. وهنا، يبدو أوضح من أي وقت مضى، أن الرؤية السياسية تتماشى مع مصلحة اقتصادية ضرورية.
قفزة إسرائيليّة عن السُلطة والأردن
النقاش الفلسطينيّ محتدم حول الموضوع، ويتركّز في ثلاثة مجالات: أولًا، المفاضلة بين الحفاظ على الوضع القائم والمعاناة التي يتضمنها وهي كثيرة فعلًا، وبين السفر من "رامون" وكُل ما يتضمنه من مخاطر استراتيجيّة سياسية ومعاناة من نوع آخر؛ وثانيًا، أزمة الثقة ما بين القيادة السياسيّة في الضفة الغربية وبين المجتمع الواسع، إذ يكاد لا يمر ذكر حول الموضوع دون الإشارة إلى سفر "المسؤولين" و"قيادات السُلطة" و"رجال الأعمال" من مطار بن غوريون، على اعتبار أنه لماذا يسمح لهم ويبقى المواطن العادي بين فوضى الحافلات في "معبر الكرامة"؛ وثالثًا، العمق الأردني وتأثير الموضوع على العلاقات الفلسطينيّة- الأردنية الرسميّة والشعبيّة غير الرسمية. وفي الحقيقة، فإن إسرائيل في هذه الخطوة، تُحاول تخطّي السُلطة وفترة "الحل السياسي". كما وتُحاول تخطّي الأردن أيضًا، التي لطالما ارتبطت بـ"حل الدولتين" و"المسار السياسيّ" الذي كانت اتفاقيّة "وادي عربة" جزءًا منه. وبكلمات أخرى: هذه الخطوة، إسرائيليّة، تندرج في إطار استراتيجيّة إسرائيل لحسم الصراع والانتقال إلى مرحلة ما بعد الحل السياسي، وتحييد الأردن. وباختصار: يجب التعامل مع هذه الرحلة، كقفزة، فوق الأردن والسُلطة، وصولًا إلى تصفية الطموح الفلسطيني الرسمي بحقوق قوميّة في الضفة، ودولة يكون لها مطارها.
إسرائيل تخلق الكابوس، وتحاول مقايضة الراحة منه بالموقف السياسي الوطني العام. هذا ما حصل مع قطاع غزّة المُحاصر حيث يتم اليوم مقايضة لُقمة العيش بالهدوء السياسي؛ وهو ما حصل أيضًا في أراضي 48 حيث يتم مقايضة محاربة الجريمة بالتنازل عن الموقف السياسي؛ وهو ما يحصل الآن في قصّة السفر من الضفة الغربية، حيث يتم مقايضة السفر بمُعاناة أقل، بالموقف السياسي من الحدود الأردنية- الفلسطينيّة، وبدعم شركات طيران إسرائيليّة مجرمة بحق الفلسطينيّ عبر التفتيش والإذلال الذي تمارسه، ويتجنّب الفلسطيني حامل جواز السفر الإسرائيليّ رحلاتها بسبب الإذلال الذي يتعرّض له فيها.
[1] روني الشيخ، "الضياع في التعامل مع وباء كورونا"، موقع "واينت".
[2]مركز "بتسيلم"، تقرير بشأن منع إسرائيل لآلاف الفلسطينيين من السفر على الرابط الإلكتروني.
[3] "950 ألف مسافر مروا عبر "الكرامة" خلال الصيف"، موقع "معاً".
[4] "هل يتحول مطار رامون إلى الفيل الأبيض؟"، صحيفة "غلوبس" الاقتصادية.
[5] "مدير شركة أركيع: مطار رامون فشل، لا أحد يريد السفر منه"، "ذا ماركر".