نادرة شلهوب-كيفوركيان، ابنة الساحل المسلوب، والمدينة المقدسة
النشأة والطفولة:
في اللحظة التي جلستُ فيها لمحاورة الدكتورة نادرة شلهوب-كيفوركيان في بيتها الكائن في الحد الفاصل بين حائط البُراق وباب النبي داود في البلدة القديمة داخل أسوار المدينة المحتلة، أصابتني دهشة من حساسية المكان وخصوصيته، إذ أنك بمجرد أن تقف على شرفة المنزل، تكون شاهداً على الصراع بطرفيه النقيضين تماماً...
كنت في حيرة من أمري، من أين أبدأ الحديث معها، فإنجازاتها كثيرة ولا شك في أن لديها الكثير ليقال، لكنني كنت مهتمة جداً بالمعرفة أكثر عن طفولتها ومراحل نشأتها الأولى، ليقيني من أنها تحمل الجذور الأولى لتكوين هذه الإنسانة الاستثنائية على المستوى المعرفي والأكاديمي والإنساني، فبدأت الحوار من هناك، من انطباعها الأول عن وجع البلد وخصوصيته، من اللحظات الأولى لتشكُّل الوعي المعرفي والإدراكي لماهية فلسطين لديها.
كانت شلهوب-كيفوركيان مهتمة منذ الطفولة بكل ما يتعلق بالجغرافية السياسية، إذ ساعدتها ظروف نشأتها على تكوين وعي مبكر تجاه الخصوصيات الجغرافية السياسية في فلسطين وأبعادها الإنسانية. فهي ابنة الساحل الفلسطيني المسلوب، ابنة حيفا وسلسلة جبال الكرمل، وكانت منذ طفولتها في اشتباك مباشر مع كل تبعات مجزرة الطنطورة التي وقعت بعد شهر تقريباً من مذبحة دير ياسين، الأكثر شهرة سنة 1948، والتي تركت أثراً نفسياً سلبياً سوداوياً في الفلسطينيين في القرى المجاورة، ومهّدت لتهجيرهم.
تقول "كنت دائماً أقارن حياتنا كفلسطينين في الساحل الفلسطيني، حيفا ويافا والرملة والطنطورة تحديداً، بغيرنا؛ كان أبي يأخذنا صغاراً إلى الطنطورة، ويقول كلما دخلناها: عم تدعسوا على أجساد فلسطينية، اسرائيل صبّت باطون فوقها. ويطلب منا أن نصلي آبانا والسلام." تختلف مذبحة "الطنطورة" عن سائر المذابح السابقة في فلسطين، ليس لحجم الضحايا فقط، إنما لأنها جريمة قام بها جيش الاحتلال، بعد أسبوع واحد من إعلان قيام الدولة العبرية، بحسب المؤرخ إيلان بابه، وعلى أنقاضها أقيمت "مستعمرة نحشوليم" ومستعمرة دور. وخلالها، دُفن نحو 200 فلسطيني، وربما أكثر، بعد إعدامهم، في قبر جماعي يقع حالياً تحت ساحة انتظار سيارات "شاطئ دور"، بعد أن استهدف الجيش الإسرائيلي القرية في ليل 22 أيار/ مايو 1948، بقصفها من البحر، قبل عملية المداهمة على يد جنود "الكتيبة 33" من "لواء إسكندروني" من جهة الشرق في الليلة نفسها، وتواصل الهجوم لليوم التالي حتى تمكنوا من احتلالها، وبدأت المذبحة بحق أهالي القرية لحظة احتلالها مباشرة.
وتضيف شلهوب-كيفوركيان "كنا عايشين بشارع اسمه شارع المُخّلص، وكان اليهود ينادونا ‹عربيم ملوخلخيم- عرب قذرين›، وكانوا يرموننا بالحجارة، أنا وأخوتي. كنت أحمي إخوتي منهم دائماً في طريق العودة من المدرسة، ولم يكن يعاقبهم أحد، كما يتم عقاب أولادنا."
وعن دور والديها في حياتها، تقول شلهوب-كيفوركيان " اضطرت والدتي خلال نكبة 1948 إلى ركوب سفينة برفقة أولادها الثلاثة، قبل أن تتزوج والدي، لكي تحمي نفسها وتحمي أولادها من الموت المحتم. كبرت وأنا أسمع منها هذه القصة بتفاصيلها الموجعة." أما والدها فهو المحامي الفلسطيني الراحل جميل شلهوب-كيفوركيان، الذي أصيب في قدمه خلال محاولته الرجوع متسللاً إلى حيفا، وهو ابن الـ 17 عاماً في سنة 1948. وعلى الرغم من اختلاف خطيهما السياسيين، فإنه ترك بصمة وأثراً قوياً في ذاكرتها وتكوينها. فتذكر شلهوب-كيفوركيان قصة حدثها عنها والدها وبقيت عالقة في ذاكرتها طوال حياتها عن الشاعر اللبناني الذي عاش في حيفا: "قلي أبوي إنو وديع البستاني بعت بنتو تدرس بجامعة في بيروت، وعند حدوث النكبة، ما قدرت ترجع عبيتهم بالعزيزية عند وادي الجمال بحيفا، كانت دايماً تكتب لأبوها تقلو: بابا تنساش تسقي الياسمينة عباب الدار، فيكتب لها: أبوكِ يروي ثراها دمعاً دماً لا مياه، غنّى العروبة دهراً وعاش حتى رثاها؛ ليعبّر عن أن العروبة انتهت وفلسطين تُركت وحيدة ولم يُدافع عنها أحد."
الطريق إلى القدس
تَميُّز نادرة التي اتخذت من اسمها صفة دائمة لها، لتكون اسماً على مسمى، واستثنائيتها، بدا واضحاً جداً وهي طالبة في صفوف المدرسة، فقد عُرفت دائماً بين زملائها وزميلاتها بأنها الطالبة المجتهدة والمتميزة؛ وقد أنهت تعليمها مبكراً في عمر السادسة عشرة والنصف، ثم أكملت تعليمها الجامعي في جامعة حيفا، ونالت شهادة البكالوريوس في تخصُّص الفلسفة والعلوم السياسة وهي تبلغ من العمر تسعة عشر عاماً ونصف.
خلال سنوات دراستها في جامعة حيفا، طلبت منها المُحاضِرة إجراء مقابلات ميدانية مع الأطباء العاملين في"القدس الشرقية" لغرض بحثي عن السياسات الطبية المتبعة في مستشفيات شرقي القدس. وهناك تعرفت إلى زوجها الطبيب غابي كيفوركيان، وهو ابن حي الأرمن في البلدة القديمة في القدس المحتلة. وأنجبت ابنتها الأولى، قبل أن تتخرج. ومع بداية سنة 1982، انتقلت للعيش في مدينة القدس، وتحديداً في حي الشيخ جرّاح، لمدة سنتين، ثم استقرت في الحي الأرمني داخل البلدة القديمة، ومن هنا بدأت طريق الرحلة الخاصة بشلهوب- كيفوركيان تتجه من حيفا نحو القدس.
تصف شلهوب-كيفوركيان تجربة الزواج والانتقال للعيش في الحي الأرمني في القدس المحتلة، قائلة إنه "كان من الصعب أن يتقبلني الأرمن عموماً في البداية، إذ أنني من أصول عربية، ولوني أسمر وليس أبيض، ولست بمستوى جمال النساء الأرمنيات... الأرمن كانوا إشي كثير حلو بحياتي، والدة زوجي كانت ضحية المذبحة الأرمنية، والدتي ووالدي ضحايا النكبة الفلسطينية. أنا وعائلتي نتاج نكبتين مختلفتين بالمعطيات، لكنهما على المستوى الإنساني متشابهتين، ومن هنا جاء ارتباطي بمذبحة الأرمن. فهي جزء من كياني وتحليلي، وأعتبر نفسي أرمنية وأفهم جيداً في التاريخ والألم الأرمني، وبناتي أرمنيات فلسطينيات."
هنا بدأت رحلة شلهوب-كيفوركيان في الدراسة في الجامعة العبرية، قُبلت هناك لدراسة المحاماة والخدمة الاجتماعية، فاختارت الخدمة الاجتماعية، نظراً إلى خصوصية ظروفها كأم لأطفال في عمر صغير، لتُنهي التخصص في عامين، وتبدأ فوراً بالعمل في الشؤون الاجتماعية في القدس المحتلة. عملت شلهوب-كيفوركيان مع عائلات فلسطينية معروفة في القدس، وهو ما ساعدها على تكوين رؤيتها الوطنية، وتحديداً بعد معايشتها ومشاهدتها السياسات الاستعمارية الإسرائيلية المستخدمة في شرقي القدس.
تقول شلهوب-كيفوركيان "حينها، أهل القدس جميعهم لم يكن لديهم تأمين صحي، ولم يتقنوا اللغة العبرية، عملت وأنا شاهدة على تفاوت وتمييز كبيرين، ومنهجيات قمع مخيفة، وسحب هويات." وفي إثر ذلك، قررت شلهوب-كيفوركيان دراسة الماجستير في القانون، وتحديداً علم الإجرام، في الجامعة العبرية، أما الدكتوراه فقد خصصتها لموضوع العنف ضد المرأة شرقي القدس. جاء ذلك في سياق اهتمامها الخاص بمواضيع الطفولة، وتكوين الهوية، والمرأة وقدرتها على الحماية والاحتواء، وخصوصية الأب ، والجمعانية الفلسطينية.
أمّا عن العلاقة الخاصة التي نشأت بين شلهوب-كيفوركيان ومدينة القدس عامة والبلدة القديمة خاصة، فهي مليئة بالحب والارتباط الوجداني، فتقول "أنا جزء من البلدة القديمة، أتنفس هذه الشوارع، أحبها وأخاف عليها، أشعر بأنني الوحيدة التي تستطيع منع المحتل من سرقتها، أمضي ساعات طويلة في المشي في البلدة القديمة، وكل كتاباتي مبنية على ما أشاهده بعيني المجردة وألاحظه. عندما أسافر وأعود، أول ما أقوم به هو المشي في شوارع البلدة القديمة، وكأنني أُطمئن الشوارع بأنني عدت لأنقل أخبارها والانتهاكات التي حدثت فيها وعليها."
عن "المخفي" و"اللامحكي" في الإنتاج المعرفي الخاص بشلهوب-كيفوركيان
تحاول شلهوب-كيفوركيان عبر عملها الأكاديمي تفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي والصهيونية، بواسطة دراسات أكاديمية ونظرية جادة، تكشف الجرائم التي قام بها، ولا يزال يقوم بها هذا المشروع تجاه الأرض والإنسان الفلسطينيَّين، وتعتمد في ذلك على المنهج الإثنوغرافي كأداة بحثية أساسية تبدأ دائماً العمل من خلالها، تقابل المبحوثين في أماكن تواجدهم، تقرأ عيونهم، وتحلل لغة أجسادهم، وتنقل أصواتهم، والأهم أنها تستكشف المخفي واللامحكي في تجاربهم.
تستهدف شلهوب-كيفوركيان فئات المجتمع المهمشة مُحاولةً تحويل الهامش إلى مركز، ومُضيفة بُعداً جديداً وساحراً إلى الأجندة التاريخية الأصيلة لدراسات التابع التي ظهرت على يد الباحث الهندي راناجيت جحا، استكمالاً لنهج كتابة التاريخ من الأسفل. فتتحدّث بصوت النساء، والأطفال، والأسرى والأسيرات، والمُستعمَرين والمُستعمَرات، والمُعنَّفين والمُعنَّفات، وهدفت إلى إنتاج معرفة فلسطينية أصلانية تتحدى هيمنة المعرفة البيضاء الاستشراقية، وتشكل نداً للإنتاج المعرفي الصهيوني.
تتميز نادرة شلهوب-كيفوركيان بجهدها الدائم في فتح حقول معرفية جديدة، كما أنها تصوغ دائماً في مؤلفاتها ومقالاتها مقاربات نظرية أصيلة لفهم واقعنا الفلسطيني. فسألت: ما هو الفراغ أو الفجوة المعرفية التي تحاول نادرة شلهوب- كيفوركيان تعبئتها في الأكاديمية والإنتاج المعرفي الفلسطيني؟ هل شعرت بأن المعرفة الغربية لم تساعدك في قراءة وتفكيك الواقع الفلسطيني؟
ترد شلهوب-كيفوركيان، قائلة إن البحث العلمي الجدي يحتاج إلى منهجيات بحث جدية، وإعادة إنتاج المناهج البحثية البيضاء، هو عملية غير مجدية. أعتمد على ما يقوله لي جسد وعيون المستعمر/ة ، الإنتاج المعرفي من وجهة نظري هو الإنتاج المعرفي الذي أراه في الحقل، الإنتاج المعرفي الأصلاني المُوَطّن، الذي له وطن وهو فلسطين. تعرضت للانتقاد كثيراً، فعند إنتاجي لكتابي الأول سنة 1989 الذي تحدث عن قتل النساء/ اهتممت بما تقوله النساء، وليس ما تقوله النظريات والأبحاث العلمية الغربية عن النساء في السياق الاستعماري. أجلس معهن، أسمعهن، أرى أعينهن، أجسادهن/ وهن جزء من خوالجي... النساء هن كتبي الخاصة... وكذلك حال الأطفال، أعتقد أنهم بحاجة شديدة لاهتمامنا وانتباهنا لأنهم مستقبل فلسطين، هم المستقبل الخاص بالمشروع الفلسطيني. أما المشروع الاستعماري الاستيطاني فينفّذ سياسة ‹اللاطفلنة›، ومن هنا أعمل حالياً على دراسة بحثية خاصة بالطفل أحمد مناصرة."
أما عن خصوصية الأكاديمي/ة في السياق الفلسطيني، فتقول شلهوب-كيفوركيان إننا "ذاهبون باتجاه مستقبل يحتاج إلى باحثين/ات، ومعالجين/ات، وناشطين/ات تقودهم بوصلة أخلاقية وأكاديمية. ومن هنا أقول إن الأكاديمي/ة الفلسطيني/ة يفترض أن يكون ناشطاً/ة ، لا يجلس وراء مكتبه ويكتب عن الناس من برجه العاجي، عليهم أن يشعروا ويخبروا بما يكتبونه، أعتقد أن الأطفال يسيرون ويجب علينا أن نسير خلفهم. والحب هو سيد الموقف، أنا أتحرك بطاقة الحب... طاقة الحب لدحض الاستعمار والكتابة ضده وليس التماهي معه."
هنا، كان لا بد لي من فهم المنهجية الجديدة التي تحاول شلهوب-كيفوركيان العمل عليها منذ أعوام، والتي تجدها ظاهرة بوضوح في كتاباتها البحثية، وهي منهجية البحث في اللامحكي/المخفي فسألتها: من أين جاء اهتمام نادرة شلهوب-كيفوركيان بمنهجية البحث عن المخفي "اللامحكي"، كيف وصلت إلى اعتماد هذه الأداة المعرفية، على الرغم من صعوبتها واستثنائيتها؟
كانت الإجابة مدهشة بالنسبة إليّ، فقد كشفت لي عن حساسية مفرطة تملأ قلب وعقل هذه الإنسانة، وهنا أعني الحس المرهف الذي تمتلكه وتوظفه بمنتهى الذكاء فيما تنتج من معرفة، فقد حدثتني عن عملها البحثي الجديد وهو بعنوان "الغميضة"، نعم، لعبة الغميضة التي نعرفها جميعاً وقد اختبرنا أنفسنا باللعب من خلالها ونحن أطفال...
تقول شلهوب-كيفوركيان: "اليوم أعمل على لعبة الغميضة، وكلما أقول ‹الغميضة› يسخر مني الجميع. القصة بدأت بعد استشهاد شيرين أبو عاقلة بأيام/ كنت في طريقي لشراء الخبز من باب العامود، رأيت طفلة صغيرة تنادي على صديقتها ‹فطوم فطوم، إنزلي خلينا نلعب غميضة›. وبالقرب منها مجموعة من الجنود الصهاينة، فقامت الطفلة بإعلاء صوتها وقالت ‹إيش يعني إذا قتلوا شيرين أبو عاقلة، بدناش نلعب، إيش يعني إذا مَلوا المقابر بعظامنا، مش رح نلعب.› الأطفال يعرفون كل متر في البلدة القديمة، ومن خلال هذه اللعبة، هم يقولون لأنفسهم: هذه البلاد لنا، نحن نعرف كل حجر فيها، نحن نعرف أين نختبئ، نحن نحفظ خريطة البلاد، حتى ولو أغمضنا أعيننا، وفي الوقت ذاته نحن نمارس حقنا في اللعب. هذا إنتاج معرفي مقاوم يعيد قراءة الفلسطيني بقوته، بطاقاته، بلعبه."
الجامعة العبرية، طريقٌ وعر، لكنه مهم
تعمل البروفيسورة نادرة شلهوب-كيفوركيان كأستاذة مرموقة في الجامعة العبرية وفي جامعات عالمية، وتُعتبر إحدى الباحثات الرائدات على المستوى الدولي في دراسة الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال، ومنظومة الاستعمار الاستيطاني. في سنة 2019، كانت ألقت محاضرة في جامعة كولومبيا في نيويورك بشأن حياة الفلسطيني اليومية، ولا سيما الأطفال تحت الاحتلال، عرضت خلالها نتائج أبحاثها بشأن الموضوع، وبيّنت القمع الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني من طرف ماكينة الاحتلال الإسرائيلية العسكرية والأمنية والاستعمارية-المدنية، من خلال استحضار صوت الفلسطيني في هذا الواقع، وتحليله ضمن منظومات نظرية تتعلق بمفاهيم الاستعمار الاستيطاني، مشددة على دورها الأكاديمي في نقل الحقيقة، ودورها الإنساني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي من خلال المعرفة الجادة.
في أعقاب ذلك، تعرضت لحملة شعواء من التحريض عليها، شاركت فيها وسائل إعلام إسرائيلية وسياسيون إسرائيليون طالبوا بمحاسبتها وحتى إقالتها من الجامعة، فضلاً عن تنصُّل الجامعة العبرية من الوقوف إلى جانب حقها في الحرية الأكاديمية وحرية التعبير. ومن هنا، يتبادر إلى أذهاننا جميعاً سؤال مفاده "ما هي أسباب وجود شلهوب-كيفوركيان في الجامعة العبرية التي تُعتبر امتداداً للمشروع الصهيوني، بل وأول قلاعه الموجودة في البلاد"؟
تصف شلهوب-كيفوركيان وجودها كمحاضرة في الجامعة العبرية بأنه سلاح ذو حدين، فهي تعيش في تحدّ دائم في وسط لا تشعر بالحب فيه، ولا تمتلك أي صداقات في الوسط الأكاديمي الخاص بالجامعة العبرية، بل هي قريبة من المجتمع الأكاديمي الفلسطيني، لكن ظروف حياتها ونشأتها في الداخل الفلسطيني المحتل، وتعلُّمها في الجامعات الإسرائيلية، ووجودها الدائم في المساحات المعسكرة، حكم عليها بنوعية معينة من المستقبل المهني. فتقول "لا يوجد ثقة بيني وبين الطلاب، فبمجرد أن أقول إن اسمي نادرة، يظهر التوتر والقلق على وجوههم، أتعرض لكثير من الهجمات، وفي أحد الأعوام، وقّع ما يقارب 36 طالباً من أصل 91 كتاباً يطالب بإيقافي عن التعليم في الجامعة ... هذا واقع، وأنا أدفع ثمنه غالياً، في الكثير من اللحظات كنت أشعر بأنني أتواجد في قبر، وليس في مكتبي الخاص داخل الجامعة."
ومن جانب آخر، ترى شلهوب-كيفوركيان الجانب المشرق من وجودها في هذا الحيز، قائلة "وجودي في هذه الأجواء يساعدني على أن أكون حادة أكثر في قراءتي وتحليلي للأمور، وتساهم في تقديمي إنتاجاً معرفياً نقدياً يتحدى الإنتاج المعرفي المهيمن الذي يقمع دائماً الفلسطيني المُستعمَر، ينفينا ويعتبرنا في سياق اللاشيء، اللانساء، اللاأطفال، وقد وُجد لإنقاذنا بكل استعلاء، وهو إنتاج معرفي ثقافي استشراقي كولونيالي. ومن هنا تنبع الحاجة إلى وجود قراءات نقدية ومناهج بحث وأساليب نقدية تتحدى الكتابات البيضاء المهيمنة والرؤية المسطحة للواقع."
تعيش شلهوب-كيفوركيان واقعاً مركباً ومعقداً، حالها كحال معظم الفلسطينيين، وتحديداً كحال فلسطينيي الأراضي المحتلة سنة 1948، الذين يضطرون إلى التعامل مع الكثير من التناقضات البنيوية في جميع تفاصيل حياتهم. يمكننا رؤية هذا التناقض بصورة جلية في مهمة شلهوب-كيفوركيان الأكاديمية واضطرارها إلى التعامل مع الطلاب الصهيونيين الذين يشكلون فئة المستوطنين في المجتمع الإسرائيلي. ولدى شلهوب-كيفوركيان وجهة نظر خاصة في موضوع الاستثمار في الطالب، بغض النظر عن هويته السياسية، فهي مؤمنة بضرورة وأهمية دورها المتجسد في تقديم سردية مختلفة عن فلسطين لهؤلاء الطلاب، ومساعدتهم على بناء نظرة نقدية تجاه ما يعيشونه.
فتضيف "أواجه الكثير من النقاشات الصعبة بيني وبين الطلاب. في إحدى المحاضرات، كنت أحدثهم عن إحدى كتاباتي عن القدس المحتلة، فاستوقفتني إحدى الطالبات قائلة: ليست محتلة، إنما محررة. وذلك انطلاقاً من رؤيتها الدينية التوراتية، وأنا رؤيتي استيطانية استعمارية إحلالية. والرؤيتان مختلفتان كلياً، لكن هذا لا يعني أنها ليست طالبتي ومسؤوليتي كمحاضرة الاستثمار في طلابي، وتذكيرهم الدائم بجرائمهم." أما المشهد الأكثر إيلاماً، فقد حدث خلال فترة 2004-2005 خلال عمل شلهوب-كيفوركيان البحثي المكثف عن موضوع هدم البيوت في القدس المحتلة، وتواجدها كمحاضرة في الجامعة العبرية. كانت الأخيرة مهتمة جداً بإشراك الطلاب في كل ما يتعلق بجريمة الهدم التي تنتهجها حكومة الاحتلال كسياسة تهجير لأهل القدس.
قامت شلهوب-كيفوركيان بوضع تسجيل صوتي لصوت الجرافة التي تقوم بتنفيذ الهدم وعرضه داخل القاعة لمدة 17 دقيقة متواصلة. وبعد مرور عدة أيام، جاء أحد طلابها ويدعي "آفري" إلى مكتبها الخاص، ليخبرها بشيء ما. فما كان منها إلا أن استقبلته لتسمع ما لديه، مع ملاحظتها الدائمة لوجود هذا الطالب الغريب في محاضراتها، إذ أنه كان دائماً يجلس مستمعاً ولا يشارك في الحديث. اعترف آفري لشلهوب-كيفوركيان بتأثيرها القوي فيه، إذ أنه خرج من المستوطنة التي يعيش فيها، وانتقل للعيش في مكان آخر، واستكمل قائلاً: "أريد أن أعتذر لك، لأنني أنا الذي كنت أقود الجرافة التي هدمت البيت." بكت شلهوب-كيفوركيان كثيراً بعد مغادرة آفري المكتب، بكت، وسألت نفسها "لماذا أنا هنا، ما الذي أفعله هنا"، لكنها تُذكّر نفسها بعد كل جلسة تخوض فيها نقاشاً محتدماً ينتهي بإخراس كل الأصوات المعادية، بأنها موجودة لتدافع عن قضيتها، مهما بلغ الثمن من صعوبة وألم.
أعدت المقابلة: لمى غوشة