في سنة 2009 تلثَّم الفنان منذر جوابرة بكوفية فلسطينية، وطاف في شوارع رام الله حاملاً معه مجموعة من الحجارة. كان يقدمها للمارة سائلاً فيما يرغبون أن يفعلوا بها، وسرعان ما فوجئ بردة الفعل، عندما التفّت حوله قوة من الأجهزة الأمنية الفلسطينية وسألت عن هويته، وعمّا يفعل. رفض جوابرة أن يزيل اللثام عن وجهه، وأخبرهم بأنه ينفّذ عملاً فنياً أدائياً، لكن أفراد الأمن الفلسطيني لم يتركوه إلا بعد التواصل مع الجهة التي نسَّق معها، وكانت بلدية رام الله.
الثورة يقودها بطل، عمل ادائي رقمي، 2014
أما الناس، فبعضهم تحمَّس للحديث معه، وكأنه أسطورة من خارج واقعهم، وبعضهم الآخر خاف، أو ظنَّ أنها مزحة. لكن الأهم من ذلك، أن عمله الأدائي كشف تغيُّر العلاقة بين الملثَّم والمكان ضمن واقع سياسي جديد بعد أوسلو، وواقع احتلالي مستمر. هنا، بدا الملثم كأنه لم يحضر بصرياً يوماً وبقوة في الانتفاضة، أو في التاريخ النضالي الفلسطيني. يقول جوابرة "فكرت بعدها في أن أتلثَّم وأرتدي بدلة وأذهب إلى البنك لإجراء معاملات، وذلك كفكرة لعمل أدائي جديد في هذا الاتجاه، لكنها فكرة غير محمودة العواقب، وخصوصاً أنني خشيت أن يتعرض لي الحراس."
كان ذلك بعد أعوام قليلة من انتفاضة الأقصى 2000، ودلل على حدوث تغييرات جذرية في الشارع الفلسطيني، ودفع جوابرة، ابن انتفاضة الحجارة 1987، إلى مرحلة جديدة في مشروعه، والتساؤل عن المعاني التي يحملها الملثَّم بصرياً خارج السياق الفلسطيني. أخذ جوابرة المشروع إلى برلين ضمن إقامة فنية، ذلك بأنه ظن أن التاريخ السياسي للمدينة قد يكون سياقاً حاضناً لمشروعه. لكن ما إن تلثَّم ونزل إلى الشارع، حتى فزع المارة، ووصفوه بالإرهابي، وقلَّة من الناس فقط ربطته بفلسطين والنضال الفلسطيني. نقل جوابرة العمل إلى مدينة كولون الألمانية، واستخدم حجارة بيوت مهدمة من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وعمل بالآلية نفسها؛ ملثّم يوزع الحجارة على الناس ويحاول التحدُّث معهم عن فلسطين، مع توثيق المجريات من خلال الفيديو. يقول جوابرة إن ردة الفعل اختلفت في كولون، وإن وجود الملثَّم أثار حواراً عن القضية الفلسطينية والعدالة والاحتلال، وهو أمر توقع جوابرة حدوثه بشكل أكبر في برلين المنفتحة على العالم، وليس في كولون.
حافة، قماش منسوج (1)، 2019
تحاكي أعمال جوابرة حول الملثَّم، وبصورة خاصة العمل الأدائي (حجر)، أعمال الملثَّم لطارق الغصين، لكن ملثَّمه أبعد ما يمكن عن ملثَّم أيمن البعلبكي الأيقوني. ففي حين ركَّز الغصين على الملثَّم في سياق الهوية الفلسطينية والغربة، استكشف عمل جوابرة تغيُّر مفهوم الملثَّم في الشارع بعد اتفاقية أوسلو، واغترابه في وطنه، ولدى شعوب العالم التي احتضنت نضاله يوماً، وكأنه كان يبحث في داخله عن علاقته، كفلسطيني، بالمقاومة وبالواقع السياسي الجديد، وبالملثَّم الذي اختفى من الشارع.
بعد عودته من برلين، استكمل جوابرة مشروع الملثَّم من خلال سلسلة من اللوحات ذات الأحجام الكبيرة التي اتَّسمت بسخرية لاذعة، وبرزت فيها تناقضات المرحلة، وكانت ضمن مشروع "ما كان يُعرف". في هذه اللوحات، صوّر جوابرة الملثّم في 12 عملاً فنياً، مرتدياً بدلة، أو يحمل أصيصاً تنمو فيه وردة، أو يلعب الشدَّة، أو يقرأ كتاباً، أو يغطُّ في نوم عميق وهو مغطى ببطانية مزخرفة بالأزهار. طرحت الأعمال تساؤلات عن مآلات النضال والمقاومة بعد أوسلو، وإن كان الفلسطيني تحوَّل إلى النضال بالورود وبالبدلة الرسمية (بدلة السياسيين ورجال الأعمال)، وإن كانت مفاهيم الفردانية التي عززتها سياسات النيوليبرالية قد طغت على ممارسات مقاومة الاحتلال. ولخمسة أعوام أُخرى، عمل جوابرة خلالها في هذا المشروع، ارتبط في أذهان الناس بالملثَّم، وارتبط الملثَّم به.
ذاكرة النكبة/ انتظار
جوابرة الذي ينحدر من عراق المنشية قضاء المجدل-عسقلان، وُلد في سنة 1976 لعائلة هُجِّرت إلى مخيم العروب شمالي الخليل، ويسكن حالياً في بيت لحم. ولعل حضور عراق المنشية في مخيلة جوابرة والعائلة كان شبه يومي في الأعوام الأخيرة. فقد أصيب والده بالزهايمر قبل أن يتوفى في مطلع هذا العام (2022)، ورويداً رويداً، أخذت ذاكرته المضمحلة بالعودة إلى الماضي، وتحديداً إلى حياته قبل الـ 1948. يقول جوابرة "فرض علينا والدي ذاكرة ما قبل الهجرة كواقع. وكان يظن أنه يعيش في قريته، فيسألنا أحياناً عن الأرض أو الجيران، وكان علينا أن نتعامل معه كأن الزمن الذي يعيش فيه حقيقة، وأصبح مكان نشأته كطفل يشكِّل هويته الوجودية في الحياة، ويلجأ إليه عندما تتعثر ذاكرة الحاضر، فيعود عقله الباطني إلى اكتشاف أحلامه بالعودة إلى بيته وأرضه."
ما كان يُعرف (8)، 2012
يصف جوابرة مكان نشأته مخيم العروب كـ "محطة انتظار" لمستقبل مبهم يلفه الضباب، فهاجس العودة لديه دائم ومتوارث: "تعودنا أن ننتظر. كان لدينا هوس، طوال الوقت، بأننا سنرجع إلى قريتنا يوماً. ولذلك، لم نشترِ أرضاً، ولم نخرج من المخيم. كان والدي يعمل مزارعاً في أراضٍ تقع مقابل المخيم، أصحابها من بلدة بيت أمر، يزرعها ويفلحها باستمرار، لكنه لم يفكر مرة في شرائها، سواء للزراعة أو للبناء." ويضيف جوابرة: "في الثمانينيات، كان الناس يعيدون تأهيل مطبخ أو غرفة في المخيم، لكن الحركة العمرانية لم تبدأ بالظهور إلا في التسعينيات، وحينها، صار الناس يهدمون بيوت الوكالة (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين)، ويبنون بيوتاً يستطيعون مواصلة حياتهم فيها، في ظل انسداد الأفق السياسي، وما كان ‹انتظاراً› وحالة موقتة، تحول إلى رضوخ لأمر واقع، وتعايُش معه."
لا يتذكر جوابرة سبب توجُّهه نحو الفن، "ففي المدرسة"، يقول: "لم نكن نرسم، ولم يكن هناك حصص فن، وإن كانت موجودة فهي هامشية، ولم يكن هناك مَن ينتبه للطلبة الموهوبين." لكنه يتذكر أنه أحب الرسم والكتابة، وكان يحمل دفتراً صغيراً في جيبه، يكتب فيه الخواطر، كما كان سريعاً في الرسم، ومن أول رسوماته كان الملثَّم. يقول: "في تحدٍّ مع صديق، رسمت عيون ملثَّم تظهر من وراء الكوفية في محاكاة لصورة معروفة وصورة ثانية لراقصة باليه، وفزت لإنجازي الرسمتين أسرع منه." بعد المدرسة، توجه جوابرة إلى دراسة التاريخ، لكن سرعان ما غيَّر تخصّصه والتحق بجامعة النجاح الوطنية في نابلس ليتعلم الفنون الجميلة. ويضيف: "كنت تائهاً في اختياراتي الدراسية كاستمرارية لحالة التيه وعدم الاستقرار التي فرضتها عليّ نشأتي في المخيم، فلم أكن أعرف أن هناك تخصّص فن في الجامعات. واختياري لدراسة الفن جاء بالصدفة، لكن إذا عاد بي الزمن، فسأختار تخصّص الفن عن وعي."
ما كان يُعرف (12)، 2012
لم يتسنَّ لجوابرة زيارة قريته التي صمدت عاماً كاملاً بعد النكبة قبل أن تهدمها العصابات الصهيونية وتشرد أهلها في سنة 1949، وتقيم على أنقاضها مستعمرة "كريات غات" الصناعية. وعلى الرغم من عدم تناوله النكبة، أو العودة، أو المخيم، بشكل صريح في أعماله الفنية، فإن هذه المواضيع حاضرة بقوة في مشاريعه، وتحديداً من خلال الملثَّم.
في الأعوام الأولى التي تلت تخرُّجه، انهمك جوابرة بالتجريب في الألوان وعلى سطح اللوحة، لكن مع الوقت، صار يطرح أفكاراً ومواضيع تتعلق بالهمِّ الفلسطيني، باستخدام الألوان والأسطح والمواد المختلفة والفيديو والتركيب والأداء. يقول: "كنت خارجاً من بيئة تدفعني إلى التجريب للتوصل إلى إجابات تتعلق بمعنى الفن. أما وجدانياً، فقد حملت همَّ رؤية المجتمع لأعمالي وكيف سيقيّمها، وانعكس ذلك على العمل نفسه. لم أطرح السياسي في تلك الفترة على الرغم من أنه كان موجوداً بحكم التنشئة والبيئة والظروف، فقد كنت منشغلاً في استكشاف سطح العمل، وكيف يمكنني تطويره بالمفهوم الجمالي والتقني، من دون التفكير في أبعد من ذلك."
شارك جوابرة في سنة 2007 في ورشة للفنون المعاصرة نُظمت في مركز خليل السكاكيني في رام الله، أدارها فنانون من الدنمارك، وقد أثَّر فحواها، وبشدة، في مساره الفني. يقول "في الوقت الذي شعرت فيه بأن هناك سياسات تدعم وتعزز توجّه الفن الفلسطيني نحو الفردانية ومحاكاة الغرب، أصبح لدي موقف خاص وقررت المضي بعكس هذا الطريق، فالفنان صاحب قضية، ورأيت أن القضايا الجمعية يجب أن تستحوذ على تفكيري كفلسطيني."
زمن مكسور
كان لمشاركة جوابرة، في سنة 2017، في الفيلم الوثائقي "اصطياد الأشباح" للمخرج رائد أنضوني، الذي تناول تجربة التحقيق في سجون الاحتلال، والحالة النفسية التي يمر بها الأسرى خلال التحقيق وبعده، أثرٌ في انتقاله إلى مشروع "زمن مكسور". يقول جوابرة: "في سجن إرادي دام خمسة وأربعين يوماً، في أثناء تصوير [الفيلم] أُعيدَ بناء نموذج من سجن المسكوبية (الإسرائيلي) في القدس، واجتمع عدد من المعتقلين السياسيين، كما اجتمعت حصيلة هائلة من المشاعر المتناقضة وتداعياتها على الحالة النفسية اللحظية للمعتقلين السابقين، الذين أعادوا فهمهم، من خلال هذه التجربة، لإحساس العزل و‹الزمن الموازي› والتكيّف والروتين داخل السجن، وكيف ينتصر الخيال، حتى ولو بخيط صوف." لم يتعرض جوابرة للاعتقال، إلا إن هاجس الانتظار الدائم الذي أثّر في نشأته في المخيم وفهمه للعلاقة بين المكان والوقت، ساهم في تناوله للزمن في السجن، أو ما اصطلح على تسميته لدى الأسير وليد دَقَّة بـ "الزمن الموازي"، في هذا المشروع بطريقة مغايرة. فهو يؤمن بأن الوقت الذي يمر في المخيم انتظاراً للعودة، يختلف عن الوقت خارجه الذي يمضي في المنفى أو في السجن. وفي خضم ذلك كله، كان جوابرة يحاول الإجابة عن سؤال: "كيف يمكن أن يُترجم الزمن في الأسر بصرياً؟"
وجد جوابرة نفسه يمضي سريعاً إلى مشروعٍ محوره الأسر والاعتقال والعلاقة بين الزمان والمكان، واستبدل الملثَّم بشخوص معصوبة الأعين، ومد خيوطاً من الصوف طولياً بين طرفيْ اللوحة العلوي والسفلي لتشكِّل حاجزاً بصرياً يمكِّن المشاهد من رؤية اللوحة فقط إذا ما توقف أمامها لبرهة ودقَّق النظر. ويشكِّل المشروع أساساً للبحث في الزمن وفلسفته وعلاقته بالأسرى في السجن والناس خارج السجن. وقد وظّف جوابرة خيوط الصوف التي يستخدمها الأسرى في أشغالهم اليدوية المهداة إلى أهاليهم خارج السجن، وما تحمله من دلالات تتعلق بالربط ما بين السجن وخارجه. يقول: "استوقفتني مقولة الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار إن ‹الزمن هو حقيقة محصورة في اللحظة، ومعلّقة بين عدمين›، وبالنسبة إليّ، فإن الزمن لا يُقاس، ولا يمكن الإمساك به إلّا من خلال خيوط تُنسَج على قماش، أو خشب، مشكِّلةً نقطة انطلاق هشّة لبناء العمل الفني، وفي حال فَقَدَ الخيط ماهيته وقوته، فإن العمل يفقد معناه. استُخدمت خيوط الصوف في مشروع ‹زمن مكسور› كخيار حتمي ومفتوح لطرح الأسئلة واستكشاف تناقُض الصوف كمادة، ولكسر حدود المكان، ومعالجة الحساسية والخشونة، والقوة والضعف، والذاكرة والنسيان، والانتصار وهزيمة الآخر. ويبقى الزمن محصلة لحظات نمضيها الآن، بينما لا تعني ديمومتُه ديمومةَ اللحظة التي ستكسر كل هذا الحصار في يوم ما، لنُغيِّر الزمن ضمن إرادتنا الذاتية. فالزمن يتكون نتيجة لحظات مستمرة، تنبثق من مواقف ذاتية وتجريبية ينتج منها الفعل الزمني، لتكتب تاريخنا الشخصي، ويبقى الزمن ثابتاً، في حين تصبح اللحظات فتاتاً من الماضي."
زمن مكسور (9) أكريليك ومواد مختلفة على قماش، 2016
منذ تخرُّجه من الجامعة، اتخذ جوابرة من الجسد محوراً لموضوعاته. فهو يؤمن بأن فكرة الوجود قائمة على الإنسان، وبالتالي فإن محور الفن التعبيري يرتكز إلى عنصر الجسد في اللوحة، وتفاعله مع الفضاء أو العناصر المحيطة به، وأن "العمل التجريدي إن لم يكن فيه ربط إنساني، فهو عمل عدمي وفاقد لمعناه أو مبني خارج السياق." ولذا، يعتقد جوابرة أن استخدام الجسد كمركز في اللوحة ساهم في جعله رهينة لهذا العنصر، وأنه عمل على التحرر منه في وقت لاحق. لكن المتأمل بتجربة جوابرة الفنية، لا يستطيع إلا أن يرى الجسد كمحور لمعظم أعماله، وتحديداً جسد الإنسان الفلسطيني، من خلال مشاريع تتناول الملثَّم أو الشهيد أو الأسير أو المهاجر... أو غيرهم، بينما تظهر المقاومة والمقاوم كفكرة رئيسية في معظم الأحيان. فقد كان الشهيد وجدلية الموت والحياة في الحالة الفلسطينية محاور لمشروع "علو" 2017، حيث صوَّر الشهيد وكأنه يرتقي عن الأرض الممتلئة بالأسلاك الشائكة، محلقاً في السماء، وذلك ضمن طرحه لأهمية الترفُّع عن الألم والمعاناة كشرط للاستمرار والبقاء فلسطينياً. وقد فكك المشروع السلك الشائك وحوَّله إلى زخرفة متكررة على هيئة لوحة وعمل تركيبي وأدائي.
أما المشروع الرقمي "وهم"، فقد تناول فيه جوابرة "وهم التحرير" والملثَّم المجرَّد من ملامحه. وقد جاء مشروع "الثورة يقودها بطل" على هيئة ثلاث صور أدائية. وتناول العمل العدوان على قطاع غزة في سنة 2014، فنفّذ عملاً من 81 قطعة رسم فيه 72 وجهاً من وجوه الأطفال الشهداء، وطرّز مجموعة أُخرى من الوجوه باستخدام التطريز الفلسطيني على القماش. واستخدم كوفية بيضاء خيّط أزهار الياسمين عليها، وحاول أن ينسجها بسرعة كافية لالتقاط الصورة الفوتوغرافية. ونظراً إلى حساسية أزهار الياسمين، التي تذبل بسرعة فائقة بمجرد قطفها، فقد شكَّل ذلك تحدياً وجزءاً من العمل الأدائي الذي ينسج علاقة بين الطفولة والموت. وفي سنة 2018، عمل جوابرة على مشروع "أجساد مهاجرة" باستخدام الأكريليك على القماش، ومثَّلت أعماله حالة الإحباط السياسي وتأثيرها في الفلسطيني وبحثه عن فرص للهجرة من واقع لا يقوى على تغييره.
إلغاء الماضي
عند انتقاله من مشروع إلى آخر، لا يأخذ جوابرة وقتاً مستقطعاً للتفكير، أو التوقُّف عن الإنتاج، وإنما ينظر إلى أعماله السابقة، وبصورة خاصة المرحلة التي يحاول الخروج منها، ويحاول إلغاءها، ليس من تفكيره فحسب، وإنما من أمام عينيه. فعندما أراد أن ينتقل، مثلاً، من مشروع "الملثَّم" إلى مشروع "زمن مكسور"، راح يرسم أجزاء من اللوحة مغطاة بخطوط طولية، وكأنها بداية لإلغاء المشهد والبدء بمشروع جديد. أما في مشروع "حافة"، فقد قطَّع أعماله القديمة طولياً، وحاول أن يعيد تدويرها لإنتاج أعمال جديدة، فنسج بعضها مع البعض الآخر من جديد، وكأنه يصنع سجادة. يقول: "ما يربطني بالفن هو حب المعرفة والاستكشاف وعدم الرضوخ للنمطية. أحبُّ أن أتَّجه إلى ما لا أعرفه." ويضيف: "أشعر بأن الأعمال القديمة بعد أن أرسمها وأتركها لفترة زمنية، لا تعود تعبِّر عني. ففكري يتغيَّر ويتطوَّر مع الزمن، وتبقى الأعمال القديمة، كما هي، مشغولة بأفكار تغيَّرت مع الزمن. ومن خلال إعادة استخدامها، أحاول التحرر من الشحنة العاطفية التي تربطني بها، كما أساهم في إعادة تحريرها من ذاتها ومني، وذلك بصوغها بشكل جديد."
أما عما يشغل جوابرة حالياً، فهو مادة الأسمنت التي أصبحت تشكِّل جزءاً كبيراً من الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال. وفي هذا الصدد يقول: "أحاول تطويع الأسمنت واستخدامه بشكل جديد، وإخضاعه لظروف قصوى حتى أعرف إن كان سيتغير أو يتأثر، أو إن كان قابلاً للثبات."
من عزلته في بيت لحم، لا يكلُّ جوابرة في تسخير فنه لتناول الهمِّ الفلسطيني. فالتردي السياسي لم يُفقده حماسته، وهو لا يزال يلقي حجارته في البركة الراكدة لعلَّ مياهها تتحرك يوماً.