رسم جمال عبد الرحمن محمد زبيدي، المولود في مخيم جنين عام 1956 "شجرة نضال" عائلته، التي يجمع فيها الأجداد والآباء والأبناء والبنات والأحفاد بين شهداء، وأسرى، وجرحى، وأسرى منتزعين حريتهم بأيديهم، ومبعدين، وملاحقين، ومهدومة منازلهم، ومنخرطين في ثورات سابقة ولاحقة، ومشاركين في انتفاضتَي الحجارة والأقصى، وشهداء محتجزة جثامينهم لدى الاحتلال في ثلاجات الموتى.
وأحدث أوجاع العائلة كانت مع ابن أخيه داود الذي أصيب برصاصة متفجرة في بطنه خلال اقتحام قوات الاحتلال للمخيم في 13 أيار/ مايو الجاري، ونُقل إلى مستشفى ابن سينا المجاور، حيث أكد الأطباء أن الرصاص المتفجر تسبب بنزيف حاد في الأمعاء والأوعية الدموية. فاضطرت عائلته المغامرة إلى نقله إلى مستشفى داخل مدينة حيفا، والقبول بشروط سلطات الاحتلال كعدم وجود مرافق له، بعد تقديمهم 22 وحدة دم لإنقاذ حياته من دون جدوى. وأحاطت بسيارة الإسعاف المتوجهة إلى المستشفى قوات من جيش الاحتلال، كأنهم يلقون القبض على جسده وهو في الهزيع الأخير.
مخيم جنين، تصوير عبد الباسط خلف.
تابعت الأسرة بقلق شديد خبر اقتحام عضو الكنيست المتطرف من حزب "الصهيونية الدينية" إيتمار بن غفير المستشفى، وتحريضه على تصفية داود، بـ"إعدامه" على كرسي كهربائي! وقد حدث ذلك من دون أن يحرك هذا التحريض على قتل مصاب وأسير يُحتضر داخل مستشفى، وتحت سيطرة قوى الأمن الإسرائيلية، ساكناً لدى الحكومات والمؤسسات الدولية، معيداً إلى الأذهان قصة إعدام الشاب عبد الفتاح الشريف وهو مصاب ولا يقوى على الحركة من جانب الجندي "أزاريا" الذي تحول إلى "بطل" إسرائيلي.
قال جمال: وصلتنا أخبار عن تحسن حالة داود عند الثالثة فجراً، لكننا لا نعرف ما الذي حدث بعد ذلك بإعلان سلطات الاحتلال وفاته، وتحفظها على جثمانه الطاهر، تاركة أبناءه الثلاثة، طه 14 عاماً ولما 12 عاماً وزكريا 3 أعوام، وعموم عائلة الزبيدي في ذهول.
وُلد الشهيد داود في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1980 في مخيم جنين، وأمضى 15 عاماً في سجون الاحتلال على فترات متباعدة، في حين أبصر والده (أخو جمال) النور في قرية وادي الحوارث المدمرة القريبة من الساحل الفلسطيني في عام 1948.
استطاع جد الشهيد داود، عبد الرحمن، برفقة أحد الضباط المصريين الأسرى الاستيلاء على سلاح حراس سجن شطة، وتمكنا من الفرار برفقة 60 أسيراً نحو جنين عام 1957، عبر مرج ابن عامر وبيسان، وأقام الجد بمخيم الحصن شرق الأردن، ثم انتقل إلى ألمانيا، واغتاله "الموساد" الإسرائيلي هناك. وقبل ذلك كان عبد الرحمن قد أصيب في قدمه خلال ثورة 1936، واعتُقل وحُكم سنوات طويلة، لكنه تحرر بعد هجوم أبو درة، أحد أقطاب الثورة، على سجن عتليت في تموز/ يوليو 1938.
وكرر حفيده زكريا (شقيق داود) محاولة التحرر التي قام بها جده، ونجح في انتزاع حريته مع خمسة أسرى بالهروب من سجن جلبوع في أيلول/ سبتمبر 2021، قبل أن يُعاد إلقاء القبض عليهم وأسرهم بعد أسبوعين تقريباً من تنسمهم الحرية.
واصل جمال حديثه عن شقيقه محمد (والد الشهيدين داود وطه والأسير زكريا، وزوج الشهيدة سميرة) مشيراً إلى أنه تعرض للاعتقال بعد عام على هزيمة حزيران/ يونيو 67، وأمضى سنة في المعتقل، ثم أعيد اعتقاله إدارياً عام 1988 على الرغم من إصابته بالسرطان، وتوفي في أيار/ مايو 1993، وهو في الخامسة والأربعين.
بدوره لم يسلم جمال نفسه من استهداف سلطات الاحتلال، فقد اعتُقل عام 1979، هو وشقيقه إبراهيم، وأمضيا سنة ونصف السنة في عدة سجون، وتوفي والدهما وهما في الأسر، فيما أُبعد إبراهيم عام 1980 إلى الأردن بعد إطلاق سراحه مباشرة. واعتُقل جمال 7 مرات إدارياً في انتفاضتي 1988 و2000.
كذلك اعتُقل ابن أخ جمال، عبد الرحمن (شقيق الشهيد داود)، عام 1987 لستة أشهر قبل أن يكمل 14 عاماً، وتكرر اعتقاله عام 1989 بتهمة محاولة قتل إسرائيلي، وحُكم 6 سنوات، وأُصيب في رجله في سن الثالثة عشرة، ثم أُبعد إلى أريحا تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، ومُنع من دخول جنين، ثم تكرر اعتقاله 3 مرات.
تعرض زكريا للإصابة في وجهه جرّاء انفجار عبوة ناسفة كان يعدّها في كانون الثاني/ يناير 2002، فشوّه الانفجار وجهه، واستقرت الشظايا في عينه، كما شارك مع إخوته في صد عدوان نيسان/ أبريل 2002، وأصبح ملاحقاً من الاحتلال. واستشهدت أمه سميرة في 4 آذار/ مارس 2002 عن 52 عاماً، ثم لحقها أخوه طه في 6 نيسان/ أبريل 2002، يوم موعد زفافه المفترض، واعتقل الاحتلال شقيقه يحيى وحكم عليه 17 عاماً، ثم حكم على أخيه جبريل 12 عاماً، وبعد تحرره تزوج ثم عاد إلى المعتقلات مرة أُخرى مدة 16 شهراً.
وما زال نعيم ابن جمال وراء القضبان بحكم تراكمي مدته 5 سنوات، أمّا ولده الآخر يوسف فاعتُقل أول مرة 20 شهراً، ويمضي الآن حكمه الإداري الرابع، بينما أمضى نجله ابن نعيم، محمد، 5 سنوات في الاعتقال.
واستشهد زياد العامر ابن عليا (أخت جمال وعمة داود)، وكان أحد قادة كتائب شهداء الأقصى عام 2002، واعتُقل أولادها الأربعة: عماد، ومحمد، ومؤيد، وأحمد. ونفذ إبراهيم أبو شادوف، ابن أخت جمال الأُخرى (نصرة) عملية في محطة القطارات بحيفا في تموز/ يوليو 2001، ويقضي ابنها الثاني إسماعيل 30 عاماً في السجن، والثالث محمد يقضي 5 سنوات، وتبعهم نبيل وطارق وقسّام. أمّا بيت جمال فقد نُسف عام 1988 في أثناء هدم بيت شقيقته الملاصق لمنزلهم. كما جرى هدم منزل ابن أخيه زكريا في نيسان/ أبريل 2002، وتكرر هدم بيت زكريا خلال مطاردته.
وفي ختام حديثه رفض جمال تمييز عائلته عن غيرها من العائلات الفلسطينية في النضال، ويؤكد أن عائلة الزبيدي "قدمت كأي عائلة فلسطينية".
بالأمس القريب تداول أبناء فلسطين تعزية المناضل زكريا بأخيه داود من خلف القضبان، أظهر فيها رباطة جأشه، وشكر المعزين، وتلا آيات قرآنية تحث على الصبر والصمود، وتكرّم الشهداء. أمّا جدران المخيم فقد استقبلت صوراً جديدة لشهداء نكبة لا تنتهي، ولعائلة الزبيدي التي لها باع طويلة في مقاومة لا تنتهي إلاّ بالحرية.