شيرين أبو عاقلة: "فرصة ضائعة" أخرى؟
Date:
20 mai 2022

تحلّ الذكرى الرابعة والسبعون للنكبة هذه السنة في خضم تسارع للأحداث فلسطينياً وعربياً ودولياً. وعلى الرغم من تداخل الأحداث وضبابية المشهد على الصعد كافة، فإن ما شهدته الساحة الفلسطينية مؤخراً شكّل فرصة كبيرة لإعادة قضية فلسطين إلى الواجهة، ولا سيما اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي صباح الأربعاء 11/5/2022.

إنها "لحظة تاريخية"، وبقدر ما هي مؤلمة، فإنها، في المقابل، فرضت احتراماً واهتماماً عالمياً. وهنا يأتي دور الجانب الفلسطيني لكي يُحسن الاستفادة من هذه اللحظة التاريخية.

لا شك في أن "اللحظة التاريخية" تكون في الغالب حدثاً مفاجئاً يفرض تغييراً في مسار الأحداث، ومَنْ يُحسن تلقف هذه اللحظة في الوقت الملائم، يستطيع أن يحوّل المسار لمصلحته. ولنا في التاريخ عبرة، إذ طالما استفادت القوى السياسية من لحظات تاريخية معينة، فقلبت مسار الأحداث لمصلحتها، وفي مقدمة هذه القوى العدو الإسرائيلي.

أمّا الفلسطينيون (على مستوى القيادات) فيمكن القول إنهم أخفقوا إلى حد كبير في الاستفادة من "لحظات التاريخ"، التي تحوّلت إلى مجرد فرص ضائعة، وتطول اللائحة قبل النكبة وبعدها، ويكفي التوقف عند بعضها:

  • ألم ينتهِ الإضراب العام الذي أعلنه الفلسطينيون مع انطلاق ثورة 1936 الشعبية المجيدة، التي قدمت مئات الشهداء والمعتقلين المنتفضين في وجه وعد بلفور ومخطط الوطن القومي اليهودي في فلسطين، باستجابة القيادات السياسية الفلسطينية والنزول عند رغبة الملوك والزعماء العرب بإنهاء الإضراب في 10 تشرين الأول/ أكتوبر بعد ستة أشهر من إعلانه؟

وكانت النتيجة صدور تقرير لجنة بيل في سنة 1937 الذي أوصى بتقسيم فلسطين، فرفضه الفلسطينيون واستأنفوا ثورتهم. لكن القيادات الغارقة في خلافات الزعامة العائلية أنهت الثورة سنة 1939 وقبلت بمؤتمر هزيل في لندن عشية الحرب العالمية الثانية، فأضاعت فرصة تاريخية، وأضاعت معها تضحيات أبناء قرى فلسطين ومدنها.

  • ألم تشعل الانتفاضة الأولى في سنة 1987 شرارة ثورة جديدة، وتسمّر العالم أمام أطفال الحجارة وهم يواجهون أعتى قوة عسكرية في المنطقة؟ وهي الانتفاضة التي أجبرت الولايات المتحدة على البحث عن مخرج لائق، بعد أن تصدرت فلسطين الخبر اليومي عربياً وعالمياً. لكن مصير انتفاضة الحجارة لم يكن أفضل من ثورة 1936.
  • ألم يتصدر مشهد إعدام الطفل محمد الدرة وسائل الإعلام العالمية خلال انتفاضة الأقصى سنة 2000؟ وخاض الفلسطينيون انتفاضة جديدة جمعت حولها الشعوب العربية المتعاطفة مع قضية فلسطين، وأحرجت الإسرائيليين وحلفائهم، وتصدرت فلسطين وقضيتها مسرح الأحداث من جديد، ولم تتم الاستفادة من هذه "اللحظة التاريخية"، بل استفادت إسرائيل فاجتاحت في سنة 2002 الضفة الغربية وعادت القضية إلى نقطة الصفر.
  • ألم تنسحب إسرائيل من قطاع غزة في سنة 2005، فيحتفل الفلسطينيون بالتحرير، قبل الانجرار إلى نزاع داخلي يؤدي إلى انقسام فصائلي لا ينتهي؟ انقسام سيمنح إسرائيل فرصة شن حروب متتالية على قطاع غزة، بينما يغرق الفلسطينيون في خلافاتهم وانقساماتهم.
  • ألم تتحول هبّة القدس انتصاراً لمحاولات الاستيلاء على حي الشيخ جرّاح منذ عام مضى إلى حدث عالمي، فيتصدر "الشيخ جرّاح" محركات البحث على شبكة الإنترنت، ويفرض المرابطون هناك تعاطفاً واهتماماً عربياً ودولياً؟ فرصة ذهبية لا تعوّض أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام. لكن كسابقاتها ضاعت بعدما شنت إسرائيل حرباً جديدة على قطاع غزة، وعاد الفلسطينيون إلى سياسة الانقسام والاتهامات المتبادلة، فخبا الاهتمام وعادت الأمور إلى ما قبل الهبّة وطويت الصفحة.

أمّا هذا العام، فشكلت جنين عنوان المرحلة، إذ نادراً ما يمر أسبوع من دون أن تستهدفها قوات الاحتلال عبر اقتحامات واعتقالات واغتيالات. ومع تصاعد الأحداث يزداد منسوب العمليات الفردية، ويرتفع عدد الشهداء والأسرى.

ويأبى شهر النكبة أن يمر من دون أن يترك أثراً دامياً مؤلماً، فتسقط شيرين أبو عاقلة شهيدة على أرض جنين في عملية اغتيال واضحة موثقة شاهدها العالم بأم العين. ومن دون سابق إنذار، تتحوّل شيرين إلى حدث عالمي، فتشكل عملية الاغتيال "لحظة تاريخية" تشد أنظار العالم، على مدى يومين، إلى فلسطين. وهو أمر لا يُستهان به وسط انشغال عالمي بالحرب الروسية – الأوكرانية والأزمات الناتجة التي تهدد العالم.

وفي جولة سريعة يمكن رصد أهم المواقف التي جاءت كردة فعل على استشهاد شيرين أبو عاقلة، وهي بمجملها صبّت بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، في مصلحة الفلسطينيين وقضيتهم.

دولياً:

  • في بيان صادر عن الأمم المتحدة، مساء الأربعاء، تقدم الأمين العام للأمم المتحدة السيد غوتيريس بأحر التعازي لأسرة شيرين أبو عاقلة، وتمنى الشفاء العاجل لزميلها الصحافي علي السمودي. كما دعا السلطات المعنية إلى إجراء تحقيق مستقل وشفاف وضمان محاسبة المسؤولين عنه، مؤكداً أن الصحافيين يجب ألاّ يكونوا أبداً هدفاً للعنف.
  • دعا مسؤولون أمميون إلى فتح تحقيق بالحادث، بمن فيهم: المدير الإقليمي لصندوق الأمم المتحدة لسكان الدول العربية؛ المديرة العامة لليونسكو؛ المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط؛ منسقة الشؤون الإنسانية للأرض الفلسطينية المحتلة.
  • أعضاء في مجلس الأمن يستنكرون بشدة "مقتل الصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة وإصابة صحفي آخر في مدينة جنين الفلسطينية" ويدعون "إلى إجراء تحقيق فوري وشامل وشفاف وعادل ونزيه في مقتلها"، كما شددوا على ضرورة ضمان المساءلة.
  • الاتحاد الأوروبي يدين العملية بشدة، ويطالب بتحقيق معمق ومستقل بشأن ملابسات الحادث. ويعتبر أنه من غير المقبول استهداف الصحافيين في أثناء أداء عملهم، ويشدد على ضمان سلامة الصحافيين الذين يغطون حالات النزاع وحمايتهم في جميع الأوقات.
  • المواقف الأميركية وفي مقدمتها تصريحات الرئيس جو بايدن، ووقوف أعضاء في الكونغرس الأميركي دقيقة صمت تحية لشيرين.
  • المواقف الأوروبية في العديد من الدول وهي في مجملها طالبت بتحقيق شفاف لكشف الحقيقة.

عربياً:

  • المواقف العربية الرسمية التي شجبت العملية، وحمّل بعضها الجانب الإسرائيلي المسؤولية
  • التعاطف الشعبي العربي الكبير، وليس أدل على ذلك حجم التعليقات المؤيدة على مواقع التواصل الاجتماعي، ووقفات التضامن والاحتجاج. وهي مواقف أظهرت أن الشعوب العربية بحاجة إلى "لحظة تاريخية" كي تعبّر عن تأييدها لفلسطين وشعبها.

إعلامياً:

  • أولت وسائل الإعلام العالمية والعربية قضية شيرين اهتماماً غير مسبوق، فأفردت صحف، مثل "الواشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" حيزاً لخبر "مقتل شيرين" وما جرى خلال جنازتها حتى لو تبنّى عدد من هذه الوسائل الرواية الإسرائيلية. يضاف إلى ذلك ردة فعل عدد من الفنانين العالميين، ولا سيما الأميركيين الذين دانوا عملية اغتيال شيرين، غير عابئين، ربما بردة فعل إسرائيلية لاحقة تجاههم. 

فلسطينياً

  • على المستوى الشعبي، استطاعت شيرين برمزية استشهادها أن تجمع الفلسطينيين بكل أطيافهم السياسية في موقف موحد، يشجب ويحزن ويغضب ويطالب بالمحاسبة، وليس أدل على ذلك ما جرى خلال تشييع جنازتها في مدينة القدس. ولم يختلف الأمر على المستوى الرسمي، إذ تبنت السلطة الفلسطينية قضية شيرين، ونقلت فضائية فلسطين إلى العالم مراسم الجنازة الرسمية وخطاب الرئيس محمود عباس في تأبينها. 

في المقابل رسم المشهد تخبطاً إسرائيلياً إلى حد ما، في مواجهة المطالبات الدولية بإجراء تحقيق سريع. فينتهي المشهد باعتراف إسرائيل بالمسؤولية عن عملية الاغتيال، أمّا المحاسبة فأمر آخر.

إزاء كل هذه المعطيات، وفي لحظة تاريخية قد لا تتكرر، هل سيستفيد الفلسطينيون؟ وكيف يمكن أن تُترجم هذه "اللحظة" فتعود القضية الفلسطينية لتأخذ مكانها عربياً ودولياً؟

الخيارات كثيرة، وأهمها:

  • الاستفادة من المواقف المؤيدة والتوجه إلى الهيئات الدولية ذات الصلة، ولا سيما أن عملية الاغتيال وقعت على أرض محتلة واستهدفت صحافية، وهي مسألة تدخل ضمن اختصاص القانون الدولي الإنساني الذي يؤمن الحماية خلال النزاعات المسلحة للأفراد غير المشاركين في النزاع.
  • التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية في حال صنّفت عملية الاغتيال كجريمة حرب.
  • عرض القضية أمام مجلس حقوق الإنسان، الذي علّق عضوية روسيا فيه بعد توجيه اتهامات إلى القوات الروسية بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.

هذا على المستوى القانوني، أمّا على المستوى الفلسطيني، فالسؤال الأهم: ألم يحن الوقت لقيام هبّة شعبية بمشاركة سياسية تعيد فلسطين إلى الواجهة؟ وألم يحن الوقت لإنهاء الانقسامات الداخلية لمصلحة القضية، أم سنظل إلى ما لا نهاية "ملوكاً للفرص الضائعة"؟ بينما في فلسطين والشتات شعب بات لسان حاله يصرخ وسط تخبط وتشرذم داخلي، وتخلٍّ عربي، وعدم اهتمام دولي: يا وحدنا!!