مقابلة مع الأسير مجد زيادة: عن المرآة والحنين والأمل
Date:
29 avril 2022
Thématique: 

عندما فكرت في المقابلة، كان لديّ الكثير من الأسئلة التي توقعت كيف يمكن أن تكون الإجابات عنها لبناء أُخرى، استناداً إليها. إلاّ إن هذا كله انهار كلياً حين بدأت الرحلة الحقيقية. فالإجابات التي توقعتها كانت محدودة بمعرفتي وخيالي وهمومي، وحياتي وما يدور فيها. وأول ما تبيّن من المقابلة، كان حقيقة أن 20 عاماً في السجن، هي شيء لا يمكن الحديث عنه بمعايير الحياة العادية خارج السجن، وتكون الإجابات دائماً من صندوق آخر، من مكان لا تتوقعه ولا تستطيع أحياناً أن تتوقعه، لابتعادك كلياً عن التجربة، أو لعدم قدرتك على تخيّلها. وبكلمات أُخرى: هناك دائماً إجابة لم تكن تتوقعها أصلاً؛ وهناك دائماً مراجعة للسؤال على أنه سؤالنا نحن، ورغباتنا نحن، وبحثنا نحن.

وصلت إلى بيت عائلة زيادة في حي الإرسال في رام الله بهدف إجراء مقابلة مع الأسير المحرّر مجد زيادة، بعد 20 عاماً من الأسر في السجون. أعرف العائلة جيداً، الوالد محمود زيادة، والأخوات راية وحرية زيادة، كما حظيت بفرصة معرفة الأم التي توفيت قبل هذا العرس. أمّا مجد، فكنت أعرفه جيداً رغم غيابه، بذكره الدائم وقصته التي لطالما كانت تعيش في خلفية أي زيارة للعائلة، أو جلسة، أو لقاء مع الوالد الذي كان دائماً "أبو المجد"، من دون أي ذكر لاسمه الشخصي، وكأنه كان يحمل "مجد" أينما ذهب. كان الاكتشاف الأول مع الدخول إلى المنزل، فكيف يبدو مجد هذا الذي لم نعرفه إلّا بالاسم وصورة السجن؟ وحتى هنا، تكتشف إجابة خارجة عن كل ما يمكنك تخيُّله كإنسان. تكتشف أن مجد نفسه أيضاً، لم يرَ ذاته كاملاً في المرآة منذ 20 عاماً أيضاً، فمرآة السجن كصورة بروفايل صغيرة، يمكن حملها بشكل معكوس لرؤية خلفية الرأس مثلاً، لكنها لم تكن قادرة يوماً على أن تريه شكله الكامل. فتكتشف سريعاً أيضاً أن المرة الأولى التي رأى نفسه كاملاً فيها كانت بعد خروجه من السجن، ليكتشف أنه ليس سميناً جداً كما اعتقد طوال الأعوام الماضية التي تصل إلى حد العشرين.

عن الحنين والحرب الطويلة

اعتُقل مجد بتاريخ 2/4/2002 من بيت العائلة، حينها، في رام الله التحتا، انتقلت العائلة لاحقاً إلى منزلها في شارع الإرسال، أكثر الشوارع اكتظاظاً و"حياة" وأزمات سير في رام الله، فأمضت فيه حتى اليوم 17 عاماً تقريباً، الآن يقوم مجد باكتشافه، ولا يزال يطلق على السرير اسم "البرش". رام الله عموماً، مدينة إن غبت عنها شهرين، ستعود وتجدها قد تغيرت: عمارة تخرج من العدم هنا لتسد الأفق؛ شارع جديد؛ يافطة جديدة ومطعم يقدم الإفطار افتُتح بدلاً من مطعم يقدم النقانق ليلاً. فكان المكان مدخلاً اعتقدت أنه ملائم للغوص، فكلما غبنا عن هذا المكان فترة، عدنا لنكتشف كل جديد. فكيف إذا استمر الغياب 20 عاماً؟ ماذا تغيّر؟ تهرّب من السؤال في المرة الأولى ولم يقدم جواباً شافياً. فسألت مرة أُخرى: كيف ترى رام الله؟ شارع الإرسال؟ رام الله التحتا، هل زرتها؟ وكدلالة على التصميم، أضفت: ما هو شعورك عند دخولك من شارع الإرسال؟ أول زيارة إلى رام الله التحتا، فقال إن الموجود كله، العمارات وغيرها، قشور خارجية ينخرها التهميش جوهرياً، السلوك والشوارع والباطن مشوّه ومضغوط، أمّا البنايات واليافطات والألوان، فكلها قشور خارجية ليست حقيقية. فأردت التعمّق أكثر في ثنايا الغياب والحنين وسألت:

  • أيمكنك وصف الشعور؟ دخول رام الله بعد 20 عاماً؟

وهنا تحديداً، باتت الأعوام العشرون واقعاً يفرض ذاته على المقابلة والمقابل أيضاً. فقال: أنا ما زلت أحاول تشكيل انطباعاتي عن المكان. فازددت تصميماً على السؤال وقلت: ألم يكن لديك حنين إلى المكان؟ فعمّ الصمت وقال بعد دقيقة أو اثنتين: كان لديّ حنين إلى المكان في الأعوام الخمسة الأولى، وحتى العشرة الأولى. أمّا خلال الأعوام العشرين، فتتبدل الذكريات. نظر حوله وتابع: عندما تدخل هناك، يكون لديك حنين إلى المكان، إلى الأصدقاء والأجواء والتفاصيل الصغيرة في الشوارع، تشتاق وتحنّ إلى المكان الذي كبرت فيه. وتكبر أنت بمرور الوقت، يبدأ المكان القديم بالغياب لمصلحة الأماكن الجديدة التي تُبنى فيها الذكريات الجديدة. فالسجن بات هو المكان بمرور الزمن، كما اختفى المكان الذي قبله أيضاً بمرور الزمن. وهنا، تغدو عودة مجد الدورية، خلال المقابلة وكل مقابلة، إلى العائلة التي تركها خلفه في المكان الذي كبر فيه، منطقية جداً. هذه ليست جملة طبيعية، وتحتاج إلى مقابلتها مع أُخرى لتفهم معنى انعدام الحنين إلى المكان بفعل الزمن. فكان الغوص إلى طبقة أُخرى يبدو كأنه القرار المثالي للتعمق فيها بحذر، فسألت مرة أُخرى عن المكان:

  • بشكل عام، غير الحنين، هناك رغبة في أول شيء تود القيام به بعد الخروج، هل يمكنك مشاركتي فيما أردت مع خروجك من السجن مباشرة؟

في هذه اللحظة انقسم الجواب إلى اثنين، كل منهما عالم يحمل الإنسان إلى ثقل وبُعد إضافي في تأثيرات الزمن والوقت. فقال بعد أن تنهد ونحن على طاولة المطبخ برفقة العائلة التي شعرنا سوياً أننا نتعرف إليه: "في مرة من المرات، قرأت في كتاب ما، لا أذكر أي كتاب بالضبط، أن الإنسان حين يخوض حرباً طويلة جداً، يغدو أول ما يريده بعد انتهاء الحرب هو انتهاء الحرب ذاتها. عندما يخوض الواحد منا حرباً طويلة، يفقد الانتصار معناه". ومن هنا كان يقول إن رغبته الوحيدة كانت نهاية هذه المعركة والخروج، أمّا ما يريد القيام به بعد نهاية الحرب، فإنه ليس مهماً الآن. بقيت صامتاً، حتى جاء الجواب الثاني الذي لا يقل عمقاً وألماً، إذ قال: شيء إضافي، الإنسان يرغب فيما يحب القيام به. ولمعرفة ما يحب، عليه أولاً أن يجرب ويفصل بعدها بين ما يحب وما يكره، أمّا أنا فلم أجرب. لذلك، لا أعرف، فعلاً، ماذا أحب وماذا أكره أصلاً. يتوجب علي أولاً أن أجرب، لأستطيع أن أجيب عن سؤال ما الذي أحبه. هززنا رؤوسنا وصمتنا، وفي هذه اللحظة تابع: أنا لم أرَ نفسي كاملاً في المرآة طوال 20 عاماً، كنت أعتقد أنني سمين بعض الشيء، واكتشفت أن هذا غير صحيح بعد خروجي من السجن فقط، هنا في المنزل كانت أول مرة أرى فيها نفسي كاملاً. أمّا بالنسبة إلى مصطلحات دارجة ومفهومة ضمناً في زمننا وعالمنا، مثل "شير" و"لينك" و"بوست"، فإنها ليست موجودة كلياً.

في السياسة: عالم واحد

نتحول مباشرة إلى عالم واحد. تنتهي ثنائية الزمن و"الزمن الموازي" داخل السجن، كما أطلق عليه الأسير وليد دقة، حين ندخل عالم السياسة والشأن العام، يغدو الجالس أمامك كأنه لم يُسجَن يوماً، وتغدو أنت أسير رفاهية الخيارات التي نعيشها في السجن الأكبر المُدار بذات العقلية، كما يشير مجد في بداية المقابلة، قائلاً: عقلية إدارة الضفة وغزة هي ذات عقلية إدارة السجن؛ لا أعرف مَن الأول فيهما، وما هو النموذج الأول الذي طُبّق على الآخر، هل كان السجن أولاً، ثم تمت إدارة الضفة وغزة استناداً إليه، أم العكس هو الصحيح. لكن الأكيد أننا في السياسة والشأن العام نعيش في العالم ذاته، المكثف جداً في السجن وفي حياة الأسير أكثر مما هو خارج السجن. ففي الخارج، أو في السجن الأكبر، هناك رفاهية الخيارات، رفاهية ادعاء رفض السياسة، أو رفاهية ادعاء عدم الاهتمام بالشأن العام. أمّا بالنسبة إلى الأسرى في السجون الصغيرة، فإن هذه الخيارات تتقلص كلياً ليغدو الشأن العام والخاص واحداً لا يمكن عزله أو الخروج منه إلى فسحة.

يعود سبب ذلك، بحسب مجد، إلى ارتباط مصير الأسرى كلياً بالحالة السياسية العامة. وعندما سألته عن متابعة الشأن السياسي، أجاب: إن "مصير الأسرى، وظروفهم، وحتى درجة الأمل بالخروج من السجن، تتعلق كلياً بالوضع السياسي خارجاً من جهة؛ كما تتأثر الحياة داخل مجتمع أسرى السجون أيضاً بالسجن". مثلاً، إحدى أصعب الفترات خلال الأسر، كما يروي، كانت مع الانقسام الفلسطيني في سنة 2007. ومع بدء الاقتتال الداخلي في الخارج، انقسم السجن أيضاً، ويقول مجد "إن بداية الانقسام كانت من أصعب الفترات التي مرّت على السجون، إذ وصلت إلى الكوادر والقاعدة في أسفل الهرم التنظيمي، وبات الاقتتال داخل السجون شبيهاً بما يحدث خارجاً". ويضيف: "بعد مرور الزمن، بات وقْع الانقسام أقل حدةً وأقل ضرراً، وحديثاً، بات التعامل مع الملف أسهل بكثير". وهو ما يعود أيضاً إلى تعوّد الطرفين خارج السجون على إدارة الانقسام والتعايش والتنسيق خلال الانقسام، من دون حله، أو وضع نهاية له، فانعكس أيضاً على السجون.

يعيش في السجون الإسرائيلية اليوم نحو 4450 أسيراً وأسيرة، تم اعتقالهم خلال مراحل مختلفة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بعضهم مثل مجد، تم اعتقاله خلال الانتفاضة الثانية، وبعضهم قبل ذلك، منذ الانتفاضة الأولى، كالأسير نائل البرغوثي الذي أمضى 42 عاماً، وآخرون تم اعتقالهم خلال "هبّة السكاكين"، مثل الطفل أحمد مناصرة، بالإضافة إلى أسرى من "هبّة أيار/مايو"، وآخرون خلال فترات ما بين الهبّات والانتفاضات. وبكلمات أُخرى: من كل مرحلة مهمة عاشها الشعب الفلسطيني، هناك مَن بقي خلف القضبان. لذلك، خلال البقاء 20 عاماً في سجون الاحتلال، رافق مجد وزامل الكثيرين من كافة المراحل وعاش معهم، وعندما سألته عمّا لاحظه في الأسرى القدامى والجدد، وما الذي يراه، قال إن "الأزمة الحقيقية تتجسد في أننا نبدأ كل مرة من جديد، لا يوجد أي مراكمة على التجربة الفلسطينية الغنية جداً التي لدينا، كما لا يوجد أي استخلاص للعبر". مضيفاً: "إن التنظيم لا يزال هو مشكلتنا الأساسية، كل شيء ينهار ونبدأ كأننا نخترع العجل من جديد". أمّا أهم ما لاحظه في الأجيال الجديدة فكان اثنين: أولاً، الاندفاع والعاطفة التي لا تزال تسيطر على الحركة الفلسطينية من دون التنظيم العقلاني الذي يضعها في إطارها الصحيح؛ وثانياً، اختلاف الزمن ما بين الجيل الجديد الذي يدخل السجن من عالم الإنترنت والجيل القديم الذي لا يعرف ماهية الإنترنت أصلاً كعالم متكامل.

انتقلنا إلى الوضع السياسي بصورة أعمق، وهناك كان الخوف من المستقبل هو المسيطر الأساسي. وذكر مجد أن "الاقتتال الداخلي هو الهاجس الأساسي". فسألت: أكثر من الانقسام؟ أجاب "انقسامات". أردنا التعمق أكثر، فقال "هناك اليوم في الساحة الفلسطينية عدة أقطاب، جميعها تتسلح وتنسّق منفردة؛ كما هناك رؤوس أموال تملك مفاصل القوة المالية، بالإضافة إلى الكثير من التيارات التي تتجهز وتتجهز بانتظار اللحظة المناسبة التي سيبدأ فيها الاقتتال". هذا الحديث موجود في الشارع الفلسطيني خارج السجون، وليس بجديد. لكن الجديد والمهم هو شعور الأسير المحرَّر به بعد أيام من خروجه من السجن، وعن هذا يجيب: إن كل ما تعيشونه خارج السجن بشأن الوضع السياسي ينعكس كلياً على مَن يعيشون خلف القضبان، فالانقسامات تبدو واضحة داخل السجون أيضاً، والأخبار تصل، كما أن إمضاء يومين في الشارع كافٍ لملاحظة الموضوع من جانبين: أولاً، الضغط الموجود لدى الناس ويمكن الشعور به والشعور بالظلم الذي يرافقه؛ وثانياً، الحالة القيمية في المجتمع خارج السجون متدنية جداً، مقابل عزوف رهيب ومحسوس جداً عن الاهتمام بالشأن السياسي العام. والعاملان يشكلان الوصفة الأمثل لحالة اقتتال داخلي على نمط ما يحدث في أراضي الـ 48، بعيد كل البعد عن الانقسام والاقتتال السياسي. فعندما يمتزج انعدام القيم بالظلم وانعدام الحيلة، تغدو دائرة القوة لتحصيل الحق عاصفة تدور على المجتمع ذاته. وهنا يقول مجد إن "القادم أسوأ بكثير".

انتقلنا مباشرة إلى الحديث عن النظام السياسي، وبصورة خاصة السلطة الفلسطينية، إذ يقول إن أخطر ما يراه اليوم في الشارع العام هو الشعور بأن الناس لا يريدون السلطة، في الوقت الذي لا يهمهم كلياً ماذا سيحدث بعد السلطة. ويقول: الناس لا يريدون السلطة، الخطاب السائد هو ما الذي لا نريده، لكن الخطورة تكمن فيما بعد السلطة. وينتقل مجد مباشرة إلى أهمية البناء، مضيفاً: هناك خطر بأن يتحول الوضع في الضفة إلى سلطات ومراكز حكم محلي ذات نفوذ وقوة من دون سلطة أو نظام سياسي مركزي، ومن دون تنظيم، تسيطر عليها مراكز خدماتية تهتم وتنسّق، استناداً إلى حاجاتها العينية. ويقول: نتقاتل مع بعضنا البعض، مجتمع وفصائل وتيارات ومصالح ذاتية ضيقة، تخلق شعوراً مريباً بكل ما يخص المستقبل. وهذا من شأنه أن يحولنا من قضية سياسية إلى "عبيد موديرن"، جيوب جغرافية تعيش على هامش الدولة الإسرائيلية المتطورة، تحت الأوتوستراد وخلف الحاجز والجدار. ويتابع: انعدام اليقين بالنسبة إلى المستقبل، مقابل التشديد على رفض الحاضر، مرعب.

عن الأمل... والخيارات

جاء الوقت الذي يمكن البدء بالحديث عن الأمر الوحيد الذي لم أكن أحتاج إلى سؤال ليبدأ مجد بالحديث عنه، فكان يحاول الولوج إليه كل مرة من جديد، وبدوري، أحاول تأجيله، ليس تقليلاً من أهميته، بل لأنه كان حاضراً في كل مقابلة أجراها مجد، وفي كل مقابلة يجريها أي أسير فلسطيني يتحرّر بعد أعوام طويلة أو قصيرة. إنه موضوع العائلة التي كبر معها وتركها خلفه في السجن الصغير، العائلة التي كبر معها ويعرفها أكثر من منزل عائلته وعائلته ذاتها. سألته عن حال الأسرى، فكان الجواب: أي أسرى؟ السجن باحة حياة، فيها مجتمع وشخصيات ومزاجيات وفصائل وتقسيمات، ولا يمكن القول "أسرى". مضيفاً: أسرى "حماس" مثلاً ارتفع لديهم منسوب الأمل بعد عدوان 2014 وأخبار الجنود الأسرى، وبعد 8 أعوام من الانتظار بدأ هذا الأمل يتضاءل والثقة تبدو أقل؛ أمّا أسرى ما "قبل أوسلو"، فارتفع منسوب الأمل لديهم بعد الدفعة الأولى والثانية، وتضاءل بعد عدم إكمال الدفعة الرابعة. وتابع: أمّا بالنسبة إلى الأسرى عموماً، فإنهم يعيشون على أمل الإفراج، أمل بأن تتغير الأمور خارج قضبان السجن، وأمل بأن تتم إعادة بناء حالة سياسية تحملهم، تهتم بهم بالشكل اللائق. مضيفاً: الأسرى قدموا كل شيء، وعدم نسيانهم هو الأهم من كل شيء، لصمودهم وبقاء قضيتهم وقضيتنا.

حاولت الغوص في أدوات الصمود الذاتي، فسألت: كيف يصمد الإنسان 20 عاماً في السجن؟ توقعت أن يكون الخيال، المبدأ والقناعات التي تشكل وقود الصمود. صمت قليلاً، ثم سألت: هل كان هناك لحظات انكسار؟ فأجاب: طبعاً، الجميع يمرّ بحالات انكسار، لكن السجن كمجتمع حاضن، دائماً ما يرمم سريعاً. وتابع قائلاً: "الناس يعتقدون أن السجن مكان ذكوري وقاسٍ، لحقيقة أن الأسرى ذكور مع بعضهم البعض، لكن الحقيقة مختلفة كلياً". واستمر في الكلام من دون أن يمنحنا فسحة، كأنه يدافع عن بيته من أفكار مسبقة قد تكون قاتلة، وقال: السجن مكان حساس جداً، صحيح أننا جميعنا ذكور فيه، لكنك لن تجد مَن يرفع يده على الآخر في السجن طوال 10 أو 15 عاماً، لن تجد الصراخ في السجن. الصراخ هنا خارجاً، في السجن هناك تنظيم ونظام، كل ما يُستعمل يعود إلى مكانه الطبيعي مباشرة وتجده هناك، هناك حب وهناك عطف وهناك مجتمع كامل فيه من كل شيء. هنا تشعر بأنه يتحدث عن مرآة الشعب الفلسطيني المنظمة، مجتمع فيه من كل الأشكال والأنواع، مع نظام صارم وترتيب عالٍ جداً، يقمع السوء ويحضن في لحظات الألم، ليجعل من أكثر الأماكن المخصصة للإعدام، أكثر تنظيماً وحياةً وروحاً.

عدت إلى السؤال ذاته وقلت مرة أُخرى: كيف يمكن الصمود 20 عاماً؟

فأجاب هذه المرة بإصرار: الأمل بالخروج.

لكن الجواب لم يكن كافياً بالنسبة إليّ، فالأمل بالنسبة إلينا نحن، قيمة نتأملها بانتظار شيء ما لأيام أو أشهر.

فقلت وأنا أبحث في خيالي: وإن فقدتم الأمل؟

فقال من دون تردد: هذا ليس بخيار....

أجرى المقابلة، الكاتب والباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية رازي نابلسي

 

انظر