عن أي أسرى ومعتقلين، وعن أي غرف سوداء، نتحدث ونكتب ونرسم وننحت ونصوِّر؟
عن أولئك الذين كافحوا، ويكافحون، من أجل الحرية والعدالة والكرامة والحقوق السياسية والتاريخية، والذين دفعوا من أجل ذلك أجمل سنوات عمرهم في الغرف السوداء، وفي السجون والمعتقلات، في كل مكان في هذا العالم؛ إناثاً وذكوراً، أصحاب بشرة بيضاء وسوداء، صغاراً وكباراً، من الشمال والجنوب، من الغرب والشرق.
نتحدث ونكتب ونرسم وننحت ونصور عن الأسيرات الفلسطينيات اللواتي وُضعن داخل الغرف السوداء، عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني الممتدة والمنتشرة على طول البلاد وعرضها، عن أبطال نفق الحرية في سجن "جلبوع" الذين أعادوا رسم الخريطة عبر انتزاعهم حريتهم، ولو إلى حين، عن البطل الذي استجوبه المحقق وسأله: كيف عرفتم أن حفر النفق قد انتهى؟ فأجابه: "عندما رأينا الشمس بلا قضبان،" فكان هذا الجواب أكبر تجليات معنى الحرية وأكثرها وضوحاً، عن أطفال فلسطينيين انتُزعوا في عمر الورود من أحضان أمهاتهم وآبائهم وأُطبقت عليهم سراديب الليل.
نتحدث ونكتب ونرسم وننحت ونصوِّر عن أصحاب أطول إضراب عن الطعام في تاريخ السجون في العالم، عمّن تجاوزت سنوات سجنهم الأربعة عقود، عمّن صدأت وتخلّعت أبواب زنازينهم الفولاذية وتم تغييرها واستبدالها أمام أعينهم، عمّن كتبوا وألّفوا في الأدب وعلم الاجتماع والتاريخ، والنظريات السياسية في ظروف بالغة التعقيد، فكان لإنتاجهم قيمة معرفية غنية على الرغم من قلة الإمكانات، عن أولئك الذين كرسوا أوقاتهم للقراءة والتعلّم والدراسة الجامعية، ونجحوا في تحصيلهم العلمي والجامعي، عن الذين تركوا أطفالهم صغاراً وعانقوهم خلف القضبان شباباً داخل السجون لا خارجها، عن الشاب اليافع الذي دخل السجن مناضلاً يبحث عن أبيه الرفيق المعتقل منذ عشرات الأعوام، عن الأسيرات في أعالي الكرمل في سجن الدامون المطلِّ على بحر حيفا دون أن يرونه، ودون أن يعرفن عنه سوى رطوبته المرتفعة في صيف فلسطين، لأن الجدران والأبراج والحراس وظيفتهم الحؤول دون الأسيرة والبحر، عن الأسيرة التي رفضت سلطات الاحتلال إطلاق سراحها المشروط والمؤقت لوداع ابنتها الشابة والمشي في جنازتها على الرغم من كل المناشدات الحقوقية والدولية، فقالت "حرموني من وداعك بقبلة فها أنا أودعك بوردة"، عن الآباء الذين استشهد أبناؤهم ولم يُسمح لهم بوداعهم، عن نحو مليون فلسطينية وفلسطيني خاضوا التجربة، تجربة الاعتقال والصناديق السوداء، كأنها مركب اجتماعي وثقافي يصهر الشعب الفلسطيني ويعيد صوغ قيمه الجمعية.
نعم، عن كل هؤلاء، ومن أجل كل هؤلاء، رسم نحو ثلاثين فنانة وفناناً ونحتوا "تفاؤل" الأسيرات والأسرى، رسموا ونحتوا دروب حريتهم، وسلَّطوا الضوء على التعذيب الذي تعرضوا، وما زالوا يتعرضون، له، وعكسوا، في أعمالهم، الآمال والأحلام التي حفروها بأظافرهم على جدران زنازينهم.
فمن تونس، أرسل رؤوف الكرّاي تحياته وقبلاته إلى أبطال نفق الحرية، وأعاد كل من ميثم عبدال من الكويت وخالد جرار وشادي زقزوق من فلسطين الاعتبار لوظيفة الملعقة، كأداة للحرية لا للطعام فحسب.
ومن لبنان، رسم أيمن بعلبكي "الملثّم" مرتدياً قناع الحماية من الغاز، ليذكّرنا بقوات القمع في السجون التي ترش سمومها القاتلة على الأسرى.
ومن بلجيكا عبرت سوزان غروثيوس عن تضامنها مع قضية الأسرى عبر مساهمتها الفنية، وكذلك فعلت كل من أنغريد روليما وهانس أوفرفليت من هولندا، وماريا منريك من إسبانيا.
أمّا سيروان باران الكردي العراقي ومحمد صالح خليل الفلسطيني، فيبرزان أشكال التعذيب وفنونه التي مورست بحق هؤلاء الأسرى والأسيرات منذ البدايات، وكيف تطورت وتحوّلت إلى علوم أتقنها المحققون.
وصوَّر لنا بشير مخول، من خلال فيلم قصير، ما يتعرض له الأسرى لدى استجوابهم من تعذيب وحشي وقاسٍ، لنعيش هذا التعذيب ونشعر به كما لو أنه يُمارس علينا أيضاً.
وفي حين رسمت منال محاميد زهرة الحرية التي تمثل جوهر الحكاية، رسمت هدى فودي طيور الحرية وقد انتُزعت حريتها.
وكشف جواد إبراهيم عن وظائف أُخرى للقماش غير تلك التي نعرفها، إذ استخدمته سلطات الاحتلال لتعصيب عيون الأسرى والأسيرات، حتى باتت العصبة بلونيها الأبيض والأزرق وبمختلف مقاساتها، معروفة من مئات الشابات والشبان الفلسطينيين.
وأعاد إبراهيم المزين تذكيرنا بأمهات الأسرى والأسيرات اللواتي دفعن من أعمارهن أجمل سنواتها في انتظار حرية أبنائهن وبناتهن، وتتبع بشار الحروب جدران الزنازين مقتفياً أثر معتقلي سجن الفارعة على طرف غور الأردن، الذي أُخلي بعد "اتفاق أوسلو"، ليذكّر الأسرى بما كانوا يكتبون على جدران زنازينهم في هذا السجن، والذي أطلق عليه الفلسطينيون اسم "المسلخ" بسبب الجرائم المروعة التي ارتُكبت في غرفه السوداء.
وعن اقتفاء الأثر، سافر عاهد أزحيمان من جنوب فلسطين إلى شمالها ليرى ما يراه المعتقلون الفلسطينيون من الثقوب الصغيرة في سيارة "البوسطة"، داخل الصندوق الأسود البارد شتاءً والحار صيفاً، التي تقلهم من سجن إلى آخر، أو إلى المحاكم العسكرية والمستشفيات، مصوراً صحراء فلسطين وسهل مرج بني عامر وساحل البحر الأبيض المتوسط.
واشتغل الفنان هاني زعرب على ثيمة الوقت، معيداً للوقت قيمته وأهميته، ومبرزاً كم هو ثقيل على صدور الأسرى والأسيرات، الذين ينتظرون وينتظرون أن تدق ساعة الحرية أخيراً.
وأصرّ منذر جوابرة على ألاّ ينتزع السجن براءة الأطفال والمراهقين، فرسم أحلامهم الطفولية الأسيرة، في حين رسمت أسمى غانم مالكوم إكس بالزي الموحَّد الذي يرتديه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال لتذكيرنا بكونية المطالبة بالحرية في فلسطين وفي بلاد أُخرى في العالم.
ولمعاني النباتات في فلسطين حضورها في هذا المعرض، إذ استحضر عبد الرحمن قطناني الزيتونة وما ترمز إليه في الوعي الفلسطيني، كما استحضر عامر الشوملي الصبّار الذي كان زاد أبطال نفق سجن "جلبوع" في طريقهم نحو الحرية. وصوّر رائد عصفور الأسلاك الشائكة بصورة احترافية، كذلك رسم محمد أسعد سموقان هذه الأسلاك في لوحته التي تحمل اسم "مقاومة".
أما عيسى ديبي فرسم داوود تركي يقدم مرافعته أمام المحكمة الإسرائيلية في حيفا في شباط 1972، هذه المرافعة التي أسمتها الصحافة العبرية في حينه "خطاب داود تركي". ولم تمنع ظروف السجن القاسية والقاهرة، ولا قلة الإمكانات واقتصارها على ما هو بدائي، ريشة فنانين معتقلين من الإبداع، فرسم الشيخ رائد صلاح وأمجد غنام في سجنهما، واستخدم حاتم غرايبة غطاء فراشه ليرسم لوحة "زيت الحرية" في سجن الرملة سنة 1978.
إن هذا المعرض الجماعي الذي تقيمه مؤسسة الدراسات الفلسطينية هو تحية لأسرى وأسيرات الحرية أينما وُجدوا، وهو يأتي بالتزامن مع الذكرى السنوية ليوم الأسير الفلسطيني الذي يحييه الشعب الفلسطيني في 17 نيسان/أبريل من كل عام، والذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في سنة 1974.
ويعكس هذا المعرض رسالة مؤسسة الدراسات الفلسطينية من خلال إبراز ما أنتجته عبر مسيرتها الطويلة، من خلال مدوَّناتها وموقعها الإلكتروني وبرنامجها النشري ومجلاتها وأرشيفها ومجموعاتها الخاصة، في مجال الدفاع عن قضايا الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.
وتجدر الإشارة إلى أن المؤسسة ودار النمر ساهمتا في هذا المعرض بمجموعة من الملصقات من مركز التوثيق والمعلومات في المؤسسة ومن مجموعة رامي النمر.