تخطّ الجامعات بصورة عامة أهدافها الاستراتيجية، استناداً إلى حاجتها وحاجة البلد الذي تعمل من خلاله، ومن أجله. تقوم الجامعات ومعاهد التعليم العالي بدراسة الواقع والتحديات التي تواجه البلد، كما تضع خطة واستراتيجيات للمساعدة وتقديم المعرفة اللازمة لتطوير قطاعات وأفكار جديدة، ومناقشات أفكار عالمية حديثة، وتصدير أفكار محلية من شأنها مساعدة حركة إنتاج المعرفة في العالم. هذا ما تقوم به الجامعات بصورة عامة. أمّا الجامعات الفلسطينية، فإن معاناتها انتقلت الآن إلى مرحلة جديده سيحدد فيها الاحتلال، عملياً، حاجات السوق الفلسطينية وهوية المحاضرين الذين من شأنهم المساعدة على سدّ هذه الحاجات، بالإضافة إلى الفحص والمقابلة قبل السماح لأي محاضر بالتدريس في جامعة فلسطينية، أو في معهد تعليم عالٍ في الضفة الغربية. وبكلمات أُخرى: نزع قدرة المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية على التخطيط الاستراتيجي للمدى البعيد؛ وكذلك حرمانها من أي قرار مستقل يتعلق بتبادل المعرفة واستقطاب الخبرات. كما يقرّ أن: المصلحة الإسرائيلية هي حاجة التعليم العالي في الضفة الغربية، بدءاً من التطبيع، ووصولاً إلى التعاون الإقليمي.
جاء هذا بقرار جديد أصدره مكتب منسّق أعمال حكومة الاحتلال في الضفة الغربية. وعلى الرغم من أن التحكم في الأكاديميا الفلسطينية والسيطرة عليها ليس بجديد على الاحتلال الذي تحكم في تأشيرات الدخول وإمكانيات البقاء في الضفة الغربية، فإن وجود مثل هكذا قرار منصوص ومرتب ومحدد، يُعد مرحلة جديدة قرر فيها الاحتلال تنظيم سيطرته ودوافعه وشروطه للتحكم كلياً في الأكاديميا الفلسطينية، وفي علاقتها بالعالم الواسع على صعيدين: المحاضرين الأجانب، والطلاب الأجانب أيضاً. ستحاول هذه المادة قراءة إسقاطات هذا القرار، بعد سرد سيرة نضال الأكاديميا الفلسطينية والفلسطينيين من حَمَلة جواز السفر الأجنبي ضد السياسة التي كانت قائمة ولم تكن مُقرّة رسمياً، على طريق فهم حجم وأهمية مثل هكذا قرار، أدت السياسة المتبعة قبله إلى إغلاق كليات كاملة في جامعة "بير زيت"، على سبيل المثال وليس الحصر. فأن يقرر الضابط في الإدارة المدنية مَن يستطيع تدريس الفلسطييين، وفي أي موضوع، كما يقرر إلامَ يحتاج الفلسطيني أن يدرس، بالإضافة إلى عدد محدد من الطلاب الأجانب المسموح لهم بالتعلم في الجامعات والمعاهد الفلسطينية في الضفة الغربية، فهذا بمثابة حكم إعدام على كل ما يسمى "معرفة حرة".
المصدر: أرشيف ملصق فلسطين
التأشيرة كأداة سيطرة على التعليم
في سنتيْ 2017 و2018، لاحظ جميع المحاضرين "الأجانب" في جامعة "بير زيت" أن الاحتلال رفض تجديد تأشيرات الدخول التي بحوزتهم. العدد الكبير الذي رفض، في ذات الوقت دلل، حينها، على أن الموضوع أبعد ما يكون عن "الفردي"، وأن سياسة إسرائيلية جارفة هي الدافع وراء عملية الرفض الجماعي هذه للمحاضرين العاملين في الجامعة. أمّا معهد إدوارد سعيد للموسيقى، التابع لمجلس أمناء جامعة بيرزيت، فبلّغ عن زيادة بنسبة 200% في حالات رفض التأشيرة في الفترة ذاتها. وهذا ليس حصراً في جامعة بيرزيت أو معهد إدوارد سعيد، إذ تشير دراسة نشرتها وزارة التعليم الفلسطينية إلى أن ما يعادل نصف المحاضرين "الأجانب"- 32 من أصل 64 محاضراً- في ثماني جامعات فلسطينية رُفضت طلبات تجديد تأشيراتهم، أو رُفض دخولهم إلى الأراضي الفلسطينية، أو تم منعهم من الدخول إلى الضفة الغربية. وهنا، من المهم الإشارة إلى أن أغلبية هؤلاء المحاضرين ليست من "الأجانب"، بل هم فلسطينيون يحملون جواز السفر الأجنبي. هذا بالإضافة إلى حالات كثيرة من الصعب الحصول على عددها الدقيق، تم فيها منح تأشيرة دخول لفترة لا تصل إلى فصل دراسي واحد، أو طلب إيداع مبالغ مالية خرافية تتعدى عشرات آلاف الشواقل وتصل إلى 80000. ويظهر من رسالة مركز "عدالة" إلى المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية ووزير الداخلية ومنسّق أعمال الحكومة، أنه في جامعة بيرزيت وحدها، ومن بين 26 محاضراً، تم رفض منح تأشيرة لـ12 محاضراً، و20 محاضراً واجهوا عوائق جدية أمام تجديد التأشيرة، أو السماح بالدخول إلى الضفة الغربية.
في أعقاب هذا الاستهداف الواضح الذي بدأ في سنة 2017، بحسب عدة محاضرين في جامعة "بيرزيت"، وأيضاً استناداً إلى مركز "عدالة" الذي تبنّى الموضوع، إلى جانب مؤسسة "الحق" وجامعة "بيرزيت"، بدأ العمل على عدة أصعدة: تبنّت حملة "الحق في التعليم"، التي انطلقت في سنة 1988 في جامعة بيرزيت، القضية على صعيد العلاقات العامة والتواصل مع الدبلوماسيين؛ وتبنّى كلّ من مؤسستيْ "عدالة" و"الحق" المسار القانوني؛ كما ساندت حملة "الحق في الدخول" التي تُعنى بسيطرة الاحتلال على المعابر ودخول فلسطين، عبر التوجه إلى الدبلوماسيين والجهات الأجنبية. أمّا على الصعيد العملي، فتوجهت "عدالة"، إلى جانب عدة رسائل من دبلوماسيين ومؤسسات أكاديمية دولية، مثل "الجمعية البريطانية للدراسات الشرق الأوسطية" و"الجمعية الأكاديمية لحرية التعليم في الشرق الأوسط"، إلى الاحتلال لوقف منع المحاضرين الأجانب من التعليم في الجامعات الفلسطينية، وطلب تفسيرات بشأن عمليات الرفض التي تحدث بشكل جارف، ومن دون معايير محددة، بالإضافة إلى موضوع تأشيرات "السياحة" التي تُمنح لمن يصل إليها، وعددهم قليل بالنسبة إلى المرفوضين ولا يتجاوز الآحاد. وكان الجواب موحداً عن جميع هذه التوجهات بالقول إن الاحتلال يقوم "بالعمل على الموضوع" لتنظيمه، بدلاً من النظام القائم العام جداً الذي لا يحدد أي معايير مفصلة بخصوص دخول المحاضرين أو الطلاب "الأجانب" للعمل أو الدراسة في الضفة الغربية.
قبل القرار الجديد، شكلت هذه السياسة الأداة التي من خلالها سيطرت قوات الاحتلال الإسرائيلي على التعليم في الضفة الغربية. وما يثبت حقيقة أن السيطرة على التعليم بحد ذاتها تشكل هدف السياسة، هو حقيقة أن أحداً من المحاضرين الذين تم رفض تأشيرة دخولهم أو تجديدها، لم يكن متهماً بأي قضايا "أمنية" كما تشير رسالة "عدالة" المرسلة إلى المستشار القضائي للحكومة. أمّا ما يثير الاهتمام أكثر، وبحسب محاضرين اطّلعوا على مجريات القضية، فإنه حقيقة أن مَن منح تأشيرات دخول خلال الفترة السابقة، كان المحاضرين الموظفين على برامج تدعمها جهات أجنبية، تمولها وترتب أمور التأشيرة، في مقابل توظيف الجامعة المباشر الذي رفض بصورة جارفة، وخصوصاً المحاضرين من أصول فلسطينية، أو المحاضرين "الأجانب" الذين تربطهم علاقة عائلية أو زواج بفلسطينيين من الضفة الغربية، فتم رفضهم، مرة استناداً إلى منع "لمّ الشمل"، وأُخرى استناداً إلى رفض "المحاضرين". ولذلك، يبدو الفصل بين الموضوعين واضحاً جداً في نص القرار الجديد.
القرار الجديد: مأسسة السيطرة
القرار الجديد تحت عنوان "إجراءات الدخول" إلى الضفة الغربية، جاء بمثابة رد على السياسات غير المحددة التي قامت بها قوات الاحتلال. وفيه حددت، عملياً، المسموح والممنوع بالنسبة إليها، كما كشفت، على ما يبدو، ما كان في خلفية قراراتها التي تبدو للوهلة الأولى عشوائية. فتحت البند المحدد بـ"تأشيرات خاصة"، وأوضحت سياساتها بخصوص المحاضرين "الأجانب" والطلاب الجامعيين "الأجانب". وجاء في القرار، عملياً، نقطتان في غاية الأهمية بخصوص المحاضرين في الجامعات الفلسطينية، ومَن ستسمح له إسرائيل بالتدريس فيها إذا استوفى الشروط التالية: أولاً، سيتم منح التأشيرة في حال اقتنع الضابط المخوّل بالقيمة المضافة التي سيقدمها المحاضر/ الباحث إلى التعليم العالي الفلسطيني، اقتصاد الإقليم، التطبيع والتعاون الإقليمي؛ ثانياً، حائز درجة دكتوراه كحد أدنى، ومتميز في مجاله. أمّا مَن يحدد معنى "القيمة المضافة"، فإنه الضابط ذاته في الإدارة المدنية التابعة للاحتلال والحكم والعسكري. ومعنى القرار، عملياً، هو أن: الضابط في الإدارة المدنية يقرر حاجات السوق الفلسطينية، وحاجات الأكاديميا الفلسطينية، والمواضيع التي عليها أن تدرسها وذات قيمة أكاديمياً، وبالتالي يقرر مَن عليه أن يدرس في الجامعة لتحقيق ما يعتبره "قيمة مضافة". هذا بالإضافة إلى حد أقصى حدده القرار بـ100 محاضر و150 طالباً أجنبياً.
بهذا القرار، انتزعت إسرائيل، عملياً، من الأكاديميا الفلسطينية قدرتها على العمل والتخطيط في المدَيين البعيد والقصير: أولاً، نزعت عن الأكاديميا الفلسطينية حريتها في التخطيط الاستراتيجي في المدى البعيد، إذ ومن خلال البند الذي يشير إلى "القيمة المضافة التي سيقدمها المحاضر للدراسات العليا" تحدّد، عملياً، من خلال المنسّق ماهية "القيمة المضافة"- الحاجة والمطلوب والضروري للحالة الفلسطينية، وكذلك توجهات المجتمع؛ وثانياً، القدرة على التخطيط القصير المدى، إذ تُمنح التأشيرة لمدة عام واحد فقط يُجدَّد بطلب جديد للإدارة المدنية التابعة للاحتلال، وهو ما يجعل من وجود المحاضر مؤقتاً وتحت سيف الترحيل الدائم، وينزع عن الجامعة قدرتها على التخطيط للمدى القصير، حتى لعامين أو ثلاثة، هذا في مقابل التأشيرة التي تُمنح لمحاضر أجنبي في الجامعات الإسرائيلية وتكون مدتها خمسة أعوام، يستطيع خلالها مرافقة طلابه طوال اللقب الأكاديمي كحد أدنى. هذا بالإضافة إلى أن على الطلب الجديد أن يقدَّم بعد مضي 9 أشهر على خروجه من المنطقة. هذا بالإضافة إلى أن القرار يحدد التطبيع والتعاون الإقليمي كقيمة إضافية، وهو ما يؤشر إلى أن إسرائيل تريد للأكاديميا الفلسطينية أن تعمل بصورة تتناقض كلياً مع مصالح الشعب الفلسطيني ذاته، المتناقضة مع ما يُعرف إسرائيلياً كما يبدو في القرار أنه "قيمة مضافة". هناك تناقُض، بحكم الاستعمار، بين ما يريد الشعب الفلسطيني وما تريد إسرائيل أن يريد الشعب الفلسطيني، وهو ما يظهر بشكل صارخ في القرار الجديد.
أمّا الجزء الثاني من القرار، والذي يتعلق بالطلاب الأجانب، ويحدد عدد الطلاب الأجانب المسموح لهم بالدراسة في المعاهد والجامعات الفلسطينية بـ150 طالباً، يخضعون لمقابلات في السفارات الإسرائيلية قبل التصريح لهم بالدراسة في الجامعات الفلسطينية، فإنه ينزع عن الدراسات العليا في فلسطين كل إمكانية للمضي قدماً في أي برامج "تبادُل طلاب" وشراكة مع جامعات أجنبية لسببين: العدد المحدد بـ 150 طالباً أجنبياً هو لكافة المعاهد والجامعات التي يزيد عددها عن 45 معهداً وجامعة، ولكافة الدرجات الأكاديمية، الأمر الذي يجعل التبادل صعباً جداً من حيث العدد وإمكانية الدخول؛ التعامُل مع الموضوع هو تعامُل فردي، بحسب الطالب، ولكل طالب محدد بحد ذاته وليس كبرامج كاملة. ومن المهم الإشارة إلى أن كافة التصاريح والتأشيرات تُمنح بعد أن يحصل الفرد الطالب على دعوة من السلطة الفلسطينية، وهو ما يعني أن إسرائيل، عملياً، تضع نفسها فوق السلطة، وفوق المؤسسة الأكاديمية، كمرجعية أخيرة تحجّم السلطة في مجال الوسيط ليس أكثر.
أزمة جدية، تم تأسيسها كوضع قائم
لا نقاش في أن الحق في التعليم حق أساسي من حقوق الإنسان، كل إنسان. لكن هذه المقولة تبقى عامة جداً، مقارنة بأسئلة مهمة جداً تدور حول معنى التعليم والدور الذي يؤديه التعليم والمعرفة، عموماً، في حركة المجتمعات وتوجهاتها وقوتها. فكيف إذا كان الشعب الذي نتحدث عنه شعباً يعيش تحت وطأة آخر وأكبر مشاريع الاستعمار الاستيطاني في العالم؟ إن المعرفة هنا، إنتاجها ودراستها واستهلاكها، تتخذ أهمية مضاعفة على عدة أصعدة: الانفتاح على تجارب أُخرى في العالم؛ تعلُّم لغات التواصل مع شعوب العالم؛ إنتاج معرفة قادرة على دراسة واقع الاستعمار الاستيطاني؛ تخريج أفواج في عدة مجالات ضرورية للتطور الاجتماعي، وبصورة خاصة في مجال العلوم الإنسانية، تكون سنداً للمجتمع في صراعه مع الاستعمار. فالجامعات ومعاهد التعليم العالي كانت ولا تزال إحدى أهم المؤسسات الريادية التي تعيش علاقة عضوية مع مجتمعها: تدرس ظروفه، وتسانده في صراعه على الحرية، عبر تقديم معرفة شاملة وتجارب عالمية وتاريخ طويل، وفي المقابل، يقوم هو بالالتحاق بها وتجديدها بصورة دائمة ومستمرة. وفي هذا السياق، يتحول "الحق في التعليم" من حق جامد في كراسة حقوق الإنسان، إلى ضرورة في سياق التحرر من الاستعمار، ووسيلة لا غنى عنها لإدراك الحقوق. ولطالما شكّل التجهيل ومستوى التعليم المتدني أحد أهم ركائز بقاء الديكتاتوريات، وأحد أهم الأمور التي حافظ عليها الاستعمار، كل استعمار، كوصفة الإبقاء على العبودية.
عملياً، هذا ما تستهدفه إسرائيل من قرارها. فالسياسة المتبعة منذ أعوام طويلة، وصلت بالجامعات الفلسطينية، بحسب محاضرين فيها، إلى إغلاق كليات كاملة بسبب انعدام الخبرات اللازمة في فلسطين لتقوم عليها وتعززها، وخصوصاً في مجالات الفلسفة والتاريخ واللغات والعلوم الإنسانية. ففي مجال اللغات، هناك حاجة ماسة جداً إلى محاضرين يتحدثون اللغة كلغة أم، إن كانت إنكليزية أو أي لغة أُخرى، على سبيل المثال، أمّا في القانون، فهناك حاجة ماسة أيضاً إلى استقطاب مختصين، بهدف إجراء محاضرات، أو تدريبات، أو غيرها، وكذلك في الفلسفة والتاريخ، إذ إن هناك حاجة إلى تبادُل معرفة لا تستطيع الترجمة إتمامها بالطريقة اللازمة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى برامج التبادُل الطلابي الأكاديمي، فهل يمكن للطالب الفلسطيني أن يبقى في حدود ما تريد له إسرائيل أن يعرفه، أو أن يتعرف إليه؟ إن هذا القرار هو بمثابة خلق واقع جديد تكون فيه الأكاديميا الفلسطينية عبارة عن هيئة ومخزن لتدريس ما تريده إسرائيل: التعاون الإقليمي كمصلحة إسرائيلية وحرب على فلسطين؛ الاقتصاد في المنطقة كمساندة لمحاولات إسرائيل الاستفادة منه وبناء ذاتها كقوة إقليمية؛ كما أن التكنولوجيا الدقيقة من شأنها أن تخرّج عمالة رخيصة للسوق الإسرائيلية التي تعاني جرّاء نقص في الأيدي العاملة ورواتب ضخمة يمكن حلها من خلال تشغيل عمالة فلسطينية بمبالغ تافهة، وتعطُّش إلى العمل بسبب البطالة وانعدام البنية التحتية التكنولوجية.
لا يمكن فهم هذا القرار إلّا ضمن قراءة الواقع السياسي العام في فلسطين: الدفع الإسرائيلي نحو حسم الصراع، وتحويل الفلسطيني في مناطق (أ) إلى ساكن يلبّي حاجات السوق الإسرائيلية في البناء والزراعة، والآن في الأكاديميا. أمّا وجود بند "دعوة من السلطة الفلسطينية"، فهو ليس إلّا لشرعنة القرار الذي يسيطر على التعليم في فلسطين كلياً. هذا بالإضافة إلى أن القرار يحول دون وصول شخصيات أكاديمية مهمة لرؤية الواقع الفلسطيني في الضفة الغربية والاطلاع، عن قرب، على كل ما يعانيه الأكاديمي من حصار وصل إلى حد محاولة إسرائيل، اليوم، الحصول على مفاتيح الجامعات. إنها مرحلة إضافية في حرب باتت إسرائيل تمأسس فيها الظلم كوضع قائم منصوص عليه في قرارات الحكم العسكري التي تمنح الضابط في الإدارة المدنية، الآن، الحق في تقرير شكل المعرفة التي تنتَج في فلسطين.
المصلحة الإسرائيلية والمصلحة الفلسطينية هما أمران متناقضان، جوهرياً: كل تقدّم إسرائيلي هو تراجُع فلسطيني. هذا ما يبدو واضحاً في كل شيء تقريباً: السياسة والاقتصاد والأمن والعلاقات الدولية، كما المشهد الجغرافي. وهو ما ينطبق أيضاً على المعرفة، إذ في الوقت الذي كانت الجامعات الإسرائيلية نصيراً ومسانداً للمشروع الاستعماري في فلسطين منذ الدور الذي أدته الجامعة العبرية في جرد السكان قبل النكبة، تحضيراً لتهجيرهم، ووصولاً إلى الدور الذي يؤديه معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب في مجال صوغ العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وحتى العلاقة العضوية بين جامعة حيفا وسلاح البحرية الإسرائيلي، حيث تشكل مركز أبحاثه الخاص تقريباً. هذا في الوقت الذي كانت الجامعات الفلسطينية ولا تزال عنواناً لإنتاج المعرفة التحررية وبيتاً لمئات الأسرى المناضلين والدراسات التحررية. لا توجد معرفة مفصولة عن سياقها وموقعها ودورها التاريخي، وكذلك عنواناً لكل مَن يرفض هذا الظلم من العالم، بدءاً من نعوم تشومسكي الذي تم رفض دخوله إلى فلسطين لإلقاء محاضرة، وصولاً إلى ستيفن هوكينغ. أمّا ما تريده إسرائيل من الدراسات العليا الفلسطينية بهذا القرار، فإنه يتعدى مرحلة الحياد، حين تضع التطبيع كأحد شروط قبول المحاضرين الأجانب، وتطالبها بأن تكون في حالة عداء مع قضيتها الأساسية.