أُكلتُ يومَ أُكِلَ الثورُ الأبيض: رواية أسامة العدناني
Date:
17 janvier 2022
Auteur: 
Thématique: 

مدونات أرشيفية

تعالج هذه المدونات مواد مشتقة ومستلة من أرشيف المؤسسة، وتظهر، دورياً، في هذا الموقع. تهدف هذه المدونات إلى خدمة جمهور الباحثين، عن طريق تسليط الأضواء على مواضيع أرشيفية مستترة أو مهملة.  "دخل الخازوق"، فصل مستوحى من رواية "أسامة العدناني" لنجيب نصار، التي ظهرت على صفحات جريدة "الكرمل" في 26 فصلاً سنة 1933، ولم تُنشر إطلاقاً كما هي الحال مع رواية "مفلح الغساني". هذه المدونة مستلة من مقدمة سليم تماري لكتاب "أسامة العدناني"، التي ينشرها الأستاذ فؤاد عكليك في دار "الرقمية" في رام الله (شباط 2022). ويستطيع القارئ الرجوع إلى النص الأصلي لأسامة العدناني في أرشيف الصحف للمؤسسة، والذي بدأت المؤسسة برقمنته على الموقع التالي:

 http://archive.palestine-studies.org/

 

في "مفلح الغساني" و" أسامة العدناني" نرى تشكُّل جذور الرواية السيرية في فلسطين، ومصدراً مهماً للتاريخ الاجتماعي، وخصوصاً أنها بدأت بمعالجة مواضيع لم تكن تتناولها الصحف اليومية، حينذاك، بهذه الحساسية والصراحة، ومن ضمنها الصراع الاجتماعي والقومي في مناطق أغوار الأردن، ومكافحة محاولات الاستيلاء على الأراضي من قبل المستوطنات الصهيونية والدفاع عن حقوق الفلاحين من أطماع الملاكين والإقطاعيين العرب في غور بيسان.

اتخذ نصار اسم مفلح الغساني تيمناً بالقبائل العربية المسيحية التي حكمت جنوب سورية والحجاز وشرق الأردن قبل الإسلام، وإشارة إلى علاقته المفترضة بهذه القبائل، وهو بذلك يعزز العلاقة التاريخية الوطيدة بين الغساسنة والمسلمين في بداية الفتح الإسلامي. ونجد نجيب نصار في رواية مفلح وأسامة العدناني كما نجده في صفحات "الكرمل" شخصية ظريفة وإشكالية معاً. علّمه أبوه فنون الفتوة في صباه، وكان مغرماً بركوب الخيل والعناية بها. انسحب من المدرسة ليمارس مهنته المرشد للسائحين، ثم درس المحاماة واتخذ مهنة الزراعة التي قادته لمعاينة أوضاع المزارعين البدو في أغوار الأردن. بعد الثورة الدستورية أسس جريدة "الكرمل" في حيفا وجعل منها أداة للدفاع عن أحوال المزارعين والنضال ضد الصهيونية والإشارة إلى خطرها الداهم الكامن في الحصول على الأراضي الأميرية وإخراج الفلاحين من أراضيهم. 

بالإمكان أن نعتبر "مفلح الغساني" وتكملتها رواية "أسامة العدناني" سيرة ذاتية بامتياز في سردية روائية. في مقدمته لـ " مفلح الغساني" يعترض حنا أبو حنا على استخدام تعبير "رواية" لهذا العمل، ويتهمها بالضحالة لأن المؤلف، في نظره، استخدم المصطلح كغطاء لسيرة ذاتية بالدرجة الأولى. ويذكّرنا بأن شخصيات وأماكن وأحداث "الغساني" تعالج أحداثاً وأماكن عاصرها نصار شخصياً خلال الحرب. لكن كونها سيرة مستترة لا يعني أنها ضحلة بالضرورة كمصدر للتاريخ، وفي نظري، هذه الثنائية وهمية، ذلك بأنه من الممكن اعتبار "مفلح الغساني" سيرة ذاتية ورواية أدبية في الوقت نفسه، وخصوصاً أن نصار اعتاد إعادة صوغ أحداث حياته في الهروب والتخفي والاعتقال، وسرد وقائع المحكمة العسكرية في دمشق، ومدونات التحقيق من الدرك العثماني من ذاكرته وتجربته الاعتقالية. لدينا سوابق أدبية لهذه الثنائية في "أيام" طه حسين، وفي رواية "الساق على الساق" لأحمد فارس الشدياق، وغيرها – وهما من أهم أركان الحداثة في الأدب العربي المعاصر اللذان يجمعان بين قراءة التاريخ الاجتماعي من خلال منهج كتابة السيرة.

 

الكرمل، 15 آذار 1933

 

احتوت لائحة الاتهام في سجلات التحقيق مع "مفلح الغساني" 11 بنداً، على رأسها الهروب من التجنيد، وانتقاد التحالف العثماني الألماني في الحرب، وانتقاد الحزب الحاكم – حزب الاتحاد والترقي، كما احتوت تهمة ساخرة أشارت إلى تغيير اسم ابنه، من أنور – تيمناً بالقائد الاتحادي أنور باشا – إلى أديب. وفي محاضر الدفاع فسّر الغساني/نصار هذا التغيير نتيجة تخلّي أنور باشا عن الدفاع عن ليبيا في الحرب ضد إيطاليا، وهو ما أفقده، في نظر الوطنيين العثمانيين، سمعته ومسؤوليته عن أرض الوطن لمصلحة الاستعمار.

كما تحتوي الرواية جانباً إثنوغرافياً غنياً في وصف حياة ولهجات القبائل البدوية التي لجأ إليها في غور الأردن، خلال ملاحقته من الدرك العثماني. نجد فيها وصفاً دقيقاً لحياة البدو وهم على أهبة التحول الكبير في حياتهم نتيجة تخصيص الدولة العثمانية أراضيهم، وتحويل الأراضي السلطانية (الجفتلك) إلى كبار المزارعين من فلسطين والبلاد العربية المجاورة. ويستطيع القارىء أن يستشف بصيرة الكاتب الحساسة في هذا المقطع الذي يعالج الحياة اليومية في مضارب البدو، حيث لجأ المؤلف:

"بقي مفلح على هذه الحالة السعيدة. كان مختبئاً ومبسوط يأكل مناسف وينشر حاله كل 26 يوماً. ولم يكن يزعجه شيء إلاّ التفكير في ما يمكن أن يكون قد حلّ بأصحابه الذين ساعدوه في محنته وآووه في بيوتهم، وكثرة القمل الذي كان يأكل جلده، فقد قال مرة لرشدي السردي: دونك يا رشدي الحماد المكان نظيف والهواء طيب والشمس ما شاء الله عنها، وحبال البيت مشدودة. قل للحريم أن ينشروا الهدوم على الحبال تتشمس وتتهوى".

فقال رشدي: "ليش يخوي؟"

قال له مفلح: "تنظف من القمل"

رشدي: "القمل ما هو من الهدوم"

مفلح: "القمل من وين؟"

رشدي: "القمل من يلدك (يعني من جلدك)"

ضحك مفلح لهذا الجواب، ولم يزد على رشدي لأنه علم أنه من الصعب عليه أن يغيّر قناعته."

النصف الثاني من الرواية يعالج محاكمة مفلح العسكرية في شتاء 1917 في دمشق. في طيات المحاكمة نجد التناقض في وجدان مفلح بين الانتماء العروبي والعثماني، وهو تناقض لم يظهر جلياً إلاّ خلال الحرب – ذلك بأن نصار حافظ على الالتزام بالفكرة العثمانية، أي الولاء لدولة متعددة القوميات والإثنيات مع الدعوة إلى الحكم الذاتي المبني على اللامركزية التي تحافظ على كيانات وانتماءات الأكراد والعرب، والأرمن وغيرهم في دولة واحدة يحميها الدستور. ويظهر هذا التناقض الجديد في إحدى جلسات التحقيق الـ 16.

يسأل المحقق مفلح: "طب ليش غيرت اسم ابنك؟" يقول مفلح: "اسميت ابني الثاني الذي ولد قبل الدستور بخمسة أيام "أنور" تيمناً باسم بطل الدستور أنور باشا، ولم أستبدله باسم أديب بسبب تغيير موقفي من الاتحاديين، بل لأن أنور بيك يومئذٍ غادر العرب في طرابلس وتركهم يحاربون الطليان بدون قيادة".

يقول المحقق: "وماذا كان على أنور باشا أن يفعل بعد أن صاحبت الحكومة العثمانية إيطاليا وأمرته بالانسحاب؟".

يقول مفلح: كان عليه حسب اعتقادي أن يستقيل من خدمة الحكومة ويستمر بالصراع مع الطليان حتى النهاية – ذلك خير من ترك هذه الولاية العربية تنسلخ عن جسم الدولة".

بغض النظر عن صدقية نصار في نقل وقائع المحكمة ومدى دقتها، فإن اللافت للانتباه هنا هو اهتمام محكمة الدولة بحادثة تغيير اسم ابنه وتفسيرها من جانب المحقق بأنها دلالة على تخلّيه عن ولائه العثماني، والتزامه بموقف حزب الاتحاد والترقي الذي كان بطله أنور باشا. كذلك، يشير النص إلى محاربة القنصل الألماني لمفلح/ نصار بسبب رفضه تحويل جريدة "الكرمل" إلى منبر للتحالف الألماني العثماني، ومعاداته الدخول في حرب مدمرة ضد الحلفاء ودعوته إلى الحياد.

في نهاية المحكمة، تصدر تبرئة المؤلف من تهمة التخابر مع العدو، ومن تهمة انحيازه ضد الدولة العثمانية. وهي نتيجة أظهرت، في رأي نصار، انتصاراً للعدالة العثمانية، وهزيمة لسياسة جمال باشا الإقصائية؟ وهو موقف عزاه لنصرة محمد جمال باشا (الصغير) الذي أخذ يأخذ موقفاً نقدياً من جمال باشا (الكبير)، والذي حلّ مكانه في قيادة الجيش في منتصف الحرب.

دخل الخازوق

رواية أسامة العدناني هي الوجه الآخر لمفلح الغساني في الحقبة الانتدابية، بعد هزيمة وانسحاب الجيش العثماني من بلاد الشام. وهي سيرة نجيب نصار في صراعه مع الحكومة الانتدابية وشروط وعد بلفور. اختفت الرواية 90 عاماً من الوجود بعد ظهورها بشكل متسلسل في جريدة "الكرمل" (1935-1936)، ولم يظهر لها أثر في تاريخ الأدب العربي، باستثناء فهرس الصحف الفلسطينية الذي صنفه قسطندي شوملي (جامعة بيت لحم).

تهيمن على الرواية هوية فلسطين بعيْد الحرب ووصف ما حدث عند انتهاء العهد العثماني وبداية الحكم الفيصلي. يخص أسامة (نصار) الارتباك والرؤيا السوداوية التي سادت الحركة الوطنية في تلك الفترة، وكما يقول المؤلف "أرى المستقبل مظلماً وأرى أن الولايات العربية التي كانت مرتبطة بالمملكة العثمانية ستتجزأ وتنقسم كلمة العرب ويصبحوا طوائف وممالك. ألا ترى أن فلسطين ستديرها إدارة عسكرية إنجليزية، ولبنان ستديره سلطة فرنساوية، وفي دمشق إدارة عربية جنونية قائمة على الخطب الحماسية الريائية، وفي الطرق إدارة إنجليزية هندية؟ " (8 آذار/مارس 1933 – "الكرمل").

على الرغم من معاناة العدناني جرّاء طغيان حكم جمال باشا الجائر، فإنه يعي الخسارة الكامنة في فقدان نظام دستوري كان بالإمكان أن يحافظ على وحدة الولايات العربية. مثلاً بعد أن دخلت قوات الحلفاء إلى الناصرة وأطلقت سراح الموقوفين من الجنود العرب، راقب المؤلف فرار الفرسان العثمانيين وحلفائهم من الضباط الألمان "كان أسامة يتفرج عليهم وهم هاربون، ويأسف لمغادرة الأتراك البلاد العربية دون أن يتركوا لهم آثار فيها، وقبل أن يهتدوا إلى طريق التعاون الحقيقي مع إخوانهم العرب ويعملوا وإياهم للرقي والفتوة، فتنهد وقال: هذا ما كنا نتوقعه: إما استعمار ألماني أو استعمار إنجليزي فرنساوي، وقد انهزم بهذه الهزيمة اليوم الاستعمار الألماني من أمام الغزوة الاستعمارية الإنجليزية".(السبت 11 آذار/مارس 1933).

ولا تخلو الرواية من فكاهة سوداوية ساخرة، عندما كان المؤلف شاهداً على دخول الإنجليز إلى شمال فلسطين، حين لاحظ أن الحلفاء قاتلوا في فلسطين بواسطة مجندين محليين من العملة والمرتزقة (هنود ومصريون في حالة الجيش الإنجليزي، وجزائريون وسنغاليون في حالة الجيش الفرنسي). "في اليوم الرابع كان أسامة واقفاً خارج البيت الذي يسكنه فرأى بعض رؤوس ترتفع وتهبط أمام بناية النمساوي... دنا من واحد منهم فإذا جاويش هندي يستكشف ليرى أن وجود للأعداء [كذا]، وقال "نحن طلائع المحتلين" ... ثم ما لبثت الجنود الإنجليزية والهندية والخيالة والمشاة أن صارت تتدفق على المدينة. وكانت النساء العرب من جميع الطوائف يستقبلونها بالزغاريد، وكان مع الجنود المحتلة فصائل من جنود المصريين العملة[1]  فكان هؤلاء يجيبون على زغاريد العربيات بقولهم: دخل الخازوق دخل الخازوق! ودل هذا القول البسيط على أنهم مجربون!  وقف أسامة يراقب الجنود المحتلة، ليرى هل معها جندي عربي، فرأى جنود من جميع الأجناس إلاّ العرب، فقال في نفسه: سوف نرى ماذا يكون من استقلال وحرية ثورة الأمراء الهاشميين." ("الكرمل"، 15 آذار/مارس 1933).

رواية أسامة العدناني مبتورة، تقف فجأة عند فشل الكاتب في تأليف حزب معادٍ للصهيونية، متعايش مع الانتداب البريطاني. سمّاه "الحزب الموالي" (السبت 13 أيار/مايو 1933). لكنه استطاع في هذه الفترة أن يصل إلى عدة قناعات بشأن طبيعة الحكم الانتدابي وآفاقه. أهمها أن الحكم الفيصلي في دمشق لا يمكن الاعتماد عليه في ربط فلسطين باستقلال سورية، بل لا يمكن الاعتماد عليه، حتى في الحفاظ على نفسه. وبالتالي، حاول أسامة/نصار إنشاء حزب عروبي موالٍ للإنجليز ومعادٍ للصهيونية والتفاوض مع النخب السياسية في حيفا والناصرة ونابلس والقدس على الانضمام إليه. ويبدو أن نجاحه انحصر في نابلس والناصرة، بينما جابه معارضة من النخبة المقدسية (الحاج أمين الحسيني، تحديداً) والحيفاوية التي اعتبرته مقرباً من الإنجليز واتهموه بلقب "انجلوفيل" (أي مُحابٍ للثقافة الإنجليزية). أما موقف العدناني فكان أن أية محاولة لمواجهة الصهيونية يجب أن تنطلق من تفاهم مع الحكم البريطاني، وخصوصاً مع التيارات المعارضة للصهيونية (الحاكم رونالد ستورز مثلاً).

اكتشف أسامة مبكراً أن النفوذ الصهيوني تغلغل في أوساط الحكم الانتدابي إلى جميع المستويات، وخصوصاً خلال إقامته بحيفا، حيث دوّن في 22 آذار/مارس 1933: "كان يتمتع الصهيونيين، تجارهم وجمعياتهم، بما لا يتمتع به العرب، من منح الإدارة والتفاتها، ولاحظ أن الكثيرين من الموظفين الإنجليز وخصوصاً العسكريين كانوا يستثقلون ضغط اليهود عليهم ومداخلاتهم في شؤون إدارتهم، لأن العسكري الذي يستخدم السيف لا يطيق أساليب السياسة ولا يصبر عليها. وخشي أسامة أن يقضي موقف الإدارة حيال اليهود على حب العرب العمومي للإنجليز وآمالهم فيهم، وأن [تنقلب] هذه الآمال الكبيرة وهذا الحب الخالص [إلى] كراهة ويأساً."

تميز رواية العدناني عن مفلح الغساني في غياب الجانب الإثنوغرافي السوسيولوجي وهيمنة قضايا الصراع السياسي خلال فترة الانتداب. وتعكس الرواية إحباط نجيب نصار في تأليف حزب عربي معادٍ للصهيونية، وفي استخدام نفوذه الصحافي لتحقيق هذا المأرب مقارنة بالنبرة المتفائلة التي نجدها في رواية مفلح الغساني. في كلا الحالتين نجد استخداماً خلاّقاً للرواية الصحافية التي تستخدم لغة الجرائد في استعادة وتيرة الحياة اليومية التي خاضها مثقفو مدن فلسطين في بداية القرن العشرين في البحث عن هوية تجمع بين الحداثة والعروبة والحرية الاجتماعية.

 

[1] المصريون العملة: هم كتائب العمال المُلحقين بالجيش ويقومون بالأعمال الدنيا من حفر الخنادق وخدمة الجنود المقاتلين.