أحاطتني بذراعها بدفء و قالت لي: "مفاجأة"!، كانت كلمتها هذه أشبه بإلقاء حجر في ماء راكد، صخبٌ ترددت أصداؤه في خواء الزمن الذي كُبِّل بالمكان قرابة عام من عمري.
كانت نهاية الأسبوع في أواخر نوفمبر؛ في تلك اللحظة ورد سؤال واحد جعل قلبي يهوي حقاً: "شو بدها تكون المفاجأة لبنت في السجن، واليوم السبت، يعني عطلة ‹الدولة› اللي ساجنتها، وفش محاميين يزوروا السجن اليوم، يعني لو شو ما صار برا ما رح نعرف، وحكمي صدر ومشي الحال." كان احتمال أن تأتي المفاجأة من داخل السجن يؤول إلى الصفر لشدة رتابة الحياة وروتينها الثابت.
هذا المشهد محاولة لتفسير معنى "كثافة الثانية"، لأن الأمر كله لا يحتاج إلى دقيقة لتخبرني به، وكل هذا توارد إلى ذهني في برهة من الزمن لا تكاد تُذكر من عمر الإنسان أصلاً. لكنه الفرق بين دقيقة إنسان مسجون، وآخر في الهواء الطلق.
كنتُ حينذاك في سجن هشارون بعد أن أجلتنا إدارة مصلحة السجون من سجن الدامون في إثر حرائق الكرمل.
تلك كانت ذراع صابرين ابنة عمي، وذاك كان صوتها، وما كنا نعرف أننا بعد عام سنفترق مجدداً بلا وداع، وبكاء الفراق بلا وداع أثقل على النفس، أشدُّ إيلاماً لأنه يظل مستيقظاً طوال الوقت.
يتعامل عقلي مع الألم الإنساني بالطريقة نفسها التي أتعامل بها حين أتخيل الجرح الملتهب - بيولوجياً وليس مجازياً، وما يسببه من ألم يجعل الشخص يتخيل أن أي اقتراب منه سيزيد الأمر سوءاً والألم إيلاماً، وليس أن العافية تليه. هذه الفكرة المجردة التي نتجت من أعوام الدراسة تحولت إلى مبدأ في التجارب الإنسانية المؤلمة. لا شيء يشفيك مثل أن تواجه ألمك مهما كان شديداً. هذه المواجهة تجعل منك إنساناً حقيقياً جداً، شجاعاً ساخراً وقادراً على الانفلات بسرعة من أي قيد واستعادة حريتك، ممتلكاً قوة ذاتية تساعدك على اجتياز كل ما يمر بك من خيبات. هذا ليس تشاؤماً، بل هكذا هي الحياة، قاسية، وخداع النفس يتأتى حين ندّعي أن الحديث عن وجهها الآخر هو تشاؤم ويأس.
ماذا كانت المفاجأة؟ من المؤكد أن عقلك لا يزال يتساءل عنها، وربما ضجرت من شخص عابث يكتب لك قطعة من ذكرياته. كنتُ أسيرة محكومة بالسجن الفعلي عشرة أشهر، وقد مضى على جلسة النطق بالحكم بحقي أكثر من شهرين، وكنتُ في تلك الجلسة أمعنت النظر في كل تفاصيل سجن عوفر، من باب أنها آخر مرة، وظننت أنها حقاً هكذا، وعندما التفتُ إلى صابرين لأعرف ما هي المفاجأة، قالت لي: "بكرة إلك محكمة!"
وهويت كلِّي، شعرت بلحظة جوفاء خاوية تبتلعني، يا إلهي . محكمة وبوسطة وعوفر وبرد، والآن وأنا أكتب من دون أن أدرك لماذا أكتب سوى أنها هواية، أسترجع ضاحكةً شكلي وقتها، على الرغم من أنه في تلك اللحظة كان همّاً فوق الهم.
كيف كان شكلي؟ حسناً، سأخبرك.
حين خرجنا من الدامون لم يكن معنا غير ملابسنا التي كنا نرتديها، وهي ملابس الصلاة وتحتها البيجاما، وفوقها سترة صوفية لها قصة، وجاكيت يقال أنه شتوي تقدمه إدارة مصلحة السجون، بُنّي مقيت مكتوب عليه بالعبرية "شاباص"، وهو اسم "مصلحة السجون". لا يمنح الدفء أبداً بالمناسبة، وكانت ماركة الحذاء "DIADORA" ، وبالخلف زميلاتي، وضعت في جيبي سبع حبات تمر، ولفة محارم، ومصحفي، ومسبحة. هكذا وصلنا إلى معتقل "عوفر".
عند الثانية بعد منتصف الليل، وحين كان البرد كما تقول أمي: "بيقص العظم"، جاءت السجانة وأخرجتني من الغرفة لأواجه يوماً مجهولاً! لم أشعر بالطمأنينة لأكثر من 24 ساعة متواصلة لأنني لا أعرف سبب خروجي إلى المحكمة، والاحتمالات التي يمكن أن تخطر في بالي سيئة، في النهاية، كانت تلك الرحلة رحلة عذاب نتيجة خطأ في النظام المحوسب لوحدة نقل الأسرى (نحشون).
يومها رافقتني عبلة العدم، فحكموها ثلاثة أعوام، وتحررت مؤخراً، لكن صورتها حين عادت إلى الزنزانة وهي تقول "حكموني ثلاث سنوات" ما زالت تقتحم وعيي كثيراً وتتركني في أرق وألم.
على باب سجن هشارون انتهت الرحلة إلى المحكمة قرابة الحادية عشرة ليلاً، كنتُ منهكة من التعب والبرد والأسى، فليل السجون والبوسطات حين يتسلل من ثقوب نوافذها هواء البلاد ليلٌ شجي يستدعي كل ما في القلب من شوق وحنين، وكنت أهرب من قسوة قيود يديَّ وقدميَّ إلى عالمي الداخلي.
عند البوابة كان السجان يدقق الأسماء، قال لي أنني نُقلت إلى الغرفة رقم 16، فاستقبل عقلي المعلومة من دون أن أوحي إليه بأية طريقة بأنني فهمت ما قاله، قال لي: "شيش عيسرة، يعني خمس طعش وواحد."
عندما دخلت إلى الغرفة، ونتيجة صخب اليوم، ضحكت ضحكة هستيرية طويلة ساخرة، بينما كانت صابرين وهيفاء وصباح ينظرنَ إليّ يحاولن فهمي. بادرتهن بالقول: "الحكمة من عذاب اليوم كله أن أعرف أن الـ 16 هي خمس طعش + واحد"، ليختنق صوتي وتمتلئ عيناي دمعاً وأواصل حديثي: "نقلوني بالخطأ"، وكان هذا أفضل احتمال سيئ.
رب ضارة نافعة
كان الهواء بارداً "يقص العظم"، وعاصفاً وجافاً، التهمت الحرائق أشجار أحراش الكرمل، تلك التي كنا جيرانها في سجن الدامون. جفَّت بفعل الهواء وجوهنا، وصار النطق بالكلمة يكلفنا تشققات في شفاهنا تنزف دماً. صحونا قرابة السابعة والنصف صباحاً على قرار إدارة السجن بنقل ميسون من سجن الدامون إلى سجن هشارون بعد أقل من يومين على صدور حكم بحقها بالسجن خمسة عشر عاماً.
هزنا القرار جميعاً، صمتنا صمتاً مطبقاً، ولأول مرة في حياتي رأيت الدمع في عيني ابنة عمي صابرين التي كانت تدفن بكاءها في داخلها على الرغم من كل الشدائد التي مرت بها.
كان السجانون مستنفَرين، ضابط القسم يستعجل ميسون بفجاجته المعهودة، قلوبنا تعتصر من الأسى، نساعدها في ترتيب أغراضها.. وبسرعة، قيّدوا يديها وخرجت من دون أن تقول أية كلمة، بينما كنت أقف واجمة قرب باب الحجرة أنظر إليها وأتساءل متى سيكون اللقاء؛ إنها خمسة عشر عاماً يا ربنا! خرجت ميسون، فصار القسم وكأنه هوى في دوامة من العدم!
مرّت ساعات قليلة ثم أعلنت إدارة السجن حالة الطوارئ بسبب اشتداد الحرائق في الكرمل بمحاذاة السجن، وقبيل الخامسة مساء بلّغونا أن نستعد للإجلاء خلال دقائق، وإلى حين انحسار الحرائق.
حدث كل شيء بعجالة، قيّدونا، كل أسيرتين معاً، يدي اليمين مع اليد اليسار لأسيرة، قدمي اليمين مع قدمها اليسار؛ يا للهول لا أدري كيف نسيت مَن كانت رفيقة القيد تلك الليلة، كيف! أهي نور؟ أم روان؟ أو ربما هنادي، لا أدري!
سبع ساعات فصلت بين إجلائنا عن سجن الدامون ودخولنا إلى سجن هشارون، انتظار وبوسطات وليل البلاد الجارح، والبوسطات تشق طريقها بنا في مجاهل بلادنا التي لا نعرفها؛ مررنا من عسفيا إلى معتقل الجلمة، ثم رأيت يافطة تشير إلى الناصرة، لا أدري أين كنت ولا إلى أين يأخذوننا! عند منتصف الليل، وبعد مشقة طويلة، دخلنا إلى القسم 11 في سجن هشارون، وهناك، كلما دخلت واحدة منا، كانت تنادي ميسون بأعلى صوتها: "نحن هنا ميسون، جئنا..، "ميسووووون.." فترد علينا من وراء باب زنزانتها المقفل: "نعم، يا أهلا وسهلا!"
كل أسيرات القسم اللاتي كنَّ مشدوهات بألم نقلها في الصباح التحقن بها في المساء، وبقينا ستة أيام في سجن هشارون.
كل صباح كنا نلتف حول ميسون في الساحة، وقد يكون غريباً لو قلت أنني كنت أشعر في تلك الأيام بأننا كلنا في زيارة عائلية لميسون، شيء دافئ كان يتسلل إلى قلبي على الرغم من كل ما شهدته في تلك الأيام من بؤس. بقيت أفكر، كم كان لطف الله عظيماً تجاه قلب هذه الفتاة التي ما رأيت منها في أيام سجني إلا صدقاً واضحاً، ولطفاً بالغاً وتفانياً أصيلاً في العطاء؛ ميسون، عذبة القلب، ثاقبة الفكر!
البوابة مانعة النسيم
نسيم الليل ساحر، لكنه لا يخترق باب زنزانة في السجن، ولا تحس به نسرين على برشها الآن، وهي تفكر في يوم الأم السادس على التوالي الذي تغيب شمسه عليها وهي وراء أسوار وأسلاك وأبواب تحول بينها وبين أطفالها السبعة الذين يكبرون بعيداً هناك في غزة المحاصرة، ويحلمون بصباح يبدأ بوجه أمهم وصوتها، واستدراجها إلى مفاجأة عيد الأم كما يفعل سواهم من الأبناء مع أمهاتهم في أصقاع العالم كله.
نسرين حسن (أبو كميل)، الأم التي اعتُقلت عن حاجز إيرز شمال قطاع غزة في سنة 2015، حين كان ابنها الأصغر أحمد رضيعاً لم يتجاوز الثمانية أشهر، اليوم صار أحمد في المدرسة، وبدت على فراس معالم الرجولة، وأميرة باتت أماً لأخوتها، وصبية "مثل فلقة القمر". لكن نسرين لم ترَ من كل هذا أي شيء، فهي ممنوعة من أن يزورها أبناؤها وزوجها نظراً إلى أنهم من غزة. إنها تعرف أنهم يكبرون من نبرات أصواتهم عبر الراديو، ومن بضع صور تسمح إدارة السجون بإدخالها لها بواقع خمس صور كل شهرين!!
والآن، تحضرني صورة نسرين، بسمرتها الصافية وعينيها العميقتين، وهي تلحق بخطوات سريعة سناء الحافي في ساحة السجن في آب/أغسطس 2016، كأنها تريد أن تخيط جرح زمنين، زمنها الباقي في السجن وزمن سناء الذاهبة إلى حريتها في غزة، فتقول لها والدموع تنسكب من عينيها نهراً: "وْصِيْتِك الأولاد يا أم أيمن، ولادي يا أم أيمن".
تأتي السجانة، تفتح الباب، تأخذ سناء إلى بوسطة تقلّها إلى غزة، تبقى نسرين في ساحة القسم، تبكي وتواسي نفسها بأن سناء الآن في طريقها إلى أولاد نسرين، تحمل لهم بعض الهدايا التي صنعتها أمهم لهم في سجنها، تحتال على قهرها، وتأنس بما يتقد في صدور الأمهات من حب دافئ، في صقيع سجن قاس..