عرض "شجرة التين" لرائدة طه: عودة للمكان الأول
Date:
12 octobre 2021

بهدوء، تعيد الفنانة المسرحية رائدة طه أسئلة الذاكرة الشخصية، وتبحث عن أشكال الغياب التي فرضتها الظروف السياسية والاجتماعية، وبصوتها الممتد على احتمالات عودتها إلى فلسطين تقرأ قصة البحث اليومي عن جذور الحكاية الفلسطينية في عرض السرد القصصي "شجرة التين"، الذي أُقيم في 29 و30 أيلول/سبتمبر، بتنظيم من "دار النمر للفن والثقافة" في بيروت.

اتّبعت طه الأسلوب المونودرامي المسرحي، بالأسلوب المميز ذاته لمسرحيتها السابقة "ألاقي زيك فين يا علي"، وكذلك مسرحية "٣٦ شارع عباس- حيفا". اختزلت طه تجربتها الشخصية وكثفتها في العروض الثلاثة التي كان آخرها "شجرة التين". ورائدة طه شاهدة على مرحلة دقيقة من الحياة السياسية الفلسطينية، فهي ابنة الفدائي علي طه الذي استشهد في إثر عملية خطف طائرة إلعال الإسرائيلية إلى مطار اللد في سنة 1972، للمطالبة بتحرير أسرى فلسطينيين. درست الصحافة في الولايات المتحدة، وعملت سكرتيرة صحافية إلى جانب ياسر عرفات في تونس. وبعد اتفاقية أوسلو تسنّت لها العودة مع السلطة الفلسطينية إلى فلسطين.

ومن خلال الحكايات يطرح العرض سيرة مدينة القدس في فترات تغييرات طرأت على المدينة. وبواسطة السرد تبني رائدة طه ذاكرة لاستعادة الممكن من جذور الحكاية الشخصية التي عاشتها في فترات متفاوتة من حياتها. فتبدأ بسيرة الطفولة المطمئنة في بيوت القدس، وتنتقل إلى الخروج من المدينة في سنة 1967، ثم احتلال المدينة وهجرة أهاليها، وحتى "العودة"؛ عودتها الشخصية المتداخلة والضبابية إلى المدينة بعد أعوام طويلة، والتي ترى فيها حكاية غير مكتملة ومفتوحة على أسئلة من دون إجابات، أهمها سؤال عمّا إذا كانت هذه هي "العودة" التي انتظرتها، وكيف وجدت نفسها غريبة في المكان الذي وُلدت فيه.

 تبحث طه من خلال العرض عن والدها المناضل علي طه الذي نرى من خلال حكايته تكثيفاً واضحاً لتجربة فلسطينية تعيدنا إلى فهم ما أضعناه هناك في فلسطين وما زلنا نبحث عنه في داخلنا كفلسطينيين. يضيء السرد القصصي على احتمالات مفتوحة تطرحها رائدة طه، فنرى فيه حكاية فلسطينية تبدأ بشجرة تين في أحد بيوت القدس بالقرب من الزاوية الأفغانية، حيث نشأتها الأولى، فتقص حكايات عن فترة عندما كانت المدينة منفتحة على التعدد الثقافي والاجتماعي، وتنتهي بغياب كبير يفتح أبواب أسئلة لانهائية عن التهجير القسري والبحث عن الهوية، وعن التغييرات التي يفرضها الزمن.

تقول رائدة طه لموقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية: "إن تغيُّبنا عن المكان نتيجة الظروف القسرية التي فرضها الاحتلال جعلنا نعيش حكاية قاسية جداً تستحق أن تُحكى، وأن نعيد بناءها من واقع تجربتنا، لأن الاحتلال ليس احتلالاً للأرض والبيوت وبيّارات البرتقال فقط، بل هو أيضاً تفكيك للنسيج الاجتماعي. وهنا تكمن مهمة الثقافة في إعادة بناء الحكاية التي يمكن من خلالها استعادة الذاكرة الجماعية في مراحل متعددة من حياة مدننا وتجاربنا. صحيح أننا لا نملك حياة واحدة أبداً، لكنْ تجمعنا هوية واحدة هي فلسطين، ولا نملك سوى أن نروي حكايتها".

تعيد رائدة طه صوغ التجربة الجماعية من خلال تجربتها الشخصية، إذ يتشابه التعبير عن حياة فلسطينية متداخلة، كما تتشابه فيها إلى حد بعيد الآثار القريبة والبعيدة التي تركها الاحتلال في داخلنا. فمن الزاوية الأفغانية في القدس التي بدأت منها رائدة طه عرضها، وحتى عمّان، والعودة إلى القدس بعد أعوام  طويلة، نرى في العرض حكاية لاجئ يعود من دون أن يعود تماماً. نرى فيها حكاية حياة غير مستقرة تنبض دائماً بالبحث المستمر عن معاني الأشياء الناقصة التي تركتها في داخلنا ظروف الاحتلال وتجربة التهجير وأحلام العودة، كما تصور تناقضات الغربة ومعانيها المتعددة بالنسبة إلى الأمكنة.

ويرى العرض في العودة أيضاً نوعاً من أنواع الغياب، ليس غياب المكان نفسه كما تراه رائدة طه في عرض "شجرة التين"، بل غيابنا نحن عن المكان. فعودتها في السرد القصصي تطرح أسئلة المكان، وكأن المكان مفتوح على غياب هائل لأصحاب الأرض. لذلك يبقى عرض "شجرة التين" عرضاً للأسئلة الصعبة التي تمكّننا من قراءة الواقع الفلسطيني من خلال الحكاية. فالحكاية تعيد سرد الأسئلة التي تحكم حياتنا، وأهمها كيف حدث كل هذا الغياب؟ متطرقةً إلى معاني العودة والأرض والبحث عن الذين هُجِّروا من فلسطين. من جهة أُخرى، العرض هو دفاع عن الحياة الطبيعية التي يبحث عنها الفلسطيني دائماً. تقول رائدة طه: "لولا الظلم والإجرام لما خسرت حياتي وأبي، ولما بحثت عن حياة طبيعية؛ لذلك، العرض أيضاً هو بحث عن العادي فينا وما نحتاج إليه من "الطبيعي" في حياة معقدة يفرضها الاحتلال علينا باستمرار".

وترى رائدة طه في المسرح سلاحاً، وفي السرد القصصي الفلسطيني تحديداً استعادة للذاكرة والإضاءة عليها، فأغلبية القصص التي قدمتها في العرض هي قصص نساء فلسطينيات أجرت طه معهن مقابلات، واستعادت منهن حكايات شخصية في مراحل متعددة. وهنا يتحول المسرح إلى عملية انعكاس بين الشخصي والعام، فيضيء الضروري من الذاكرة ويسمح بالاقتباس منها، بما يشبه المحاولة لجمع شظايا الحكايات التي تشكل بطريقة ما الصورة الأكبر. وتأتي أهمية المسرح من جهة أُخرى، كونه سرداً توثيقياً مستمراً للحكايات، يمكن من خلاله تأكيد الحق في امتلاك حكاية تستحق أن تُروى لبلاد ضائعة ومحاولة استعادتها.

عرض "شجرة التين" هو من هذه العروض التي تحاول استعادة الدور الحقيقي للمسرح، كونه أرضاً مفتوحة على حكايات لا تنتهي، مؤكدةً من خلاله أهمية السرد القصصي، وأهمية الحكاية، كونها جوهر ذاكرة جماعية نعيشها باستمرار، يمثل انعكاسها بين الشخصي والعام جوهر تناقضات حياتنا، وفهماً دقيقاً لحقيقة احتلال مستمر للبلاد.