دعم المؤسسات الثقافية المقدسية بالشعارات: أزمة الحكواتي المالية نموذجاً
Date:
24 septembre 2021

يعاني المسرح الوطني الفلسطيني في القدس "الحكواتي" أزمة مالية خانقة أسوة بمؤسسات ثقافية مقدسية كثيرة تواجه الوضع ذاته، بحسب ما يؤكد الكثيرون من المراقبين والمهتمين بالشأن المقدسي. وتتمثل الأزمة التي تفاقمت بعد جائحة كورونا في عدم توفُّر التمويل الكافي للمصاريف التشغيلية للمسرح، بينما يتوفر التمويل المحدود لبعض المشاريع. هذه الأزمة التي تعصف بكافة المؤسسات الثقافية المقدسية تهدد بتوقفها وإغلاقها وتهميش الثقافة الفلسطينية في المدينة لمصلحة الأسرلة، ولا سيما بعد انتقال معظم النشاطات الثقافية إلى رام الله منذ توقيع اتفاقية أوسلو، والذي تلاه انتقال التمويل.

أبو الفنان المسرحي المقدسي أحمد أبو سلعوم كتب في منشور له على صفحته على موقع فايسبوك عن المسرح الذي تأسس في سنة 1984: "المسرح الوطني الفلسطيني ‹الحكواتي› من معالم القدس وفلسطين، ومنارة الفن والثقافة، وفلذة ضميرنا الإبداعي، يئن تحت وجع الحاجة إلى الدعم ... أعرف أن أوضاعنا موجوعة ومأزومة بصورة عامة... لكن ذلك لن يشفع لنا ولا لشعبنا، ولا للقدس، ولا لهويتنا، ولا لأطفالنا وكبارنا، غيابه لا سمح الله، الحكواتي بيتنا، خيمتنا، حصننا، لا تطفئوا أنواره، لا تهدموا أسواره."

ولم يكن أبو سلعوم وحده مَن تناول أزمة "الحكواتي"، فالفنان عامر حليحل فعل الأمر نفسه، وكتب في منشور له على فايسبوك أيضاً: أن يمر المسرح الوطني الفلسطيني بأزمة مالية، هذا عادي جداً، كل المسارح الوطنية في العالم هي مشاريع غير مربحة، ودائماً تخسر المال من أجل تقديم الفن، ودائماً هناك مَن ينقذها من أزماتها المالية، الدولة أو رأس المال الوطني مثلاً، لكن أن يمر المسرح الوطني الفلسطيني- الحكواتي بأزمة مالية، يتم بسببها إلغاء مهرجان الطفل وعروض أُخرى، وعدم دفع رواتب موظفيه جرّاء هذه الأزمة، ولا تقوم أية جهة رسمية فلسطينية، أو رأس مال فلسطيني بإنقاذ المسرح خلال 48 ساعة، فهذا لا ينمّ إلا عن أزمة بلد كامل."
وأضاف: "تحرقني فكرة إغلاق المسرح الوطني الحكواتي كثيراً، فهذا المسرح وطني، ليس كمؤسسة أو كمشروع دولة، إنما وطني، ﻷنه صُنع وبُني بأيادي فنانين فلسطينيين وطنيين، حفروا الصخر من أجل بنائه وتطويره، وكان دوماً المشروع المسرحي الأهم في تاريخ المسرح الفلسطيني، ويجب أن يبقى كذلك.... منصة الحكواتي حضنت الأغلبية الساحقة من فناني فلسطين، كبُر فيها الكثيرون، وانطلق منها كثيرون، ويجب أن تجد مَن يحميها، يحميها فعلياً ودوماً.. ﻷنها ببساطة مشروع وطني".
وتابع: " تربطني بالمسرح الوطني علاقة جميلة جداً مليئة بالفن، والنظر نحو مستقبل فني مشرق، وخصوصاً بعد إغلاق مسرح الميدان، بيتنا في حيفا. فالمسرح الوطني أعطاني مساحات لتجارب مسرحية، لم تكن لها حاضنة إنتاجية لولاه، "قناديل ملك الجليل"، و"صاحب الكرمل"، ونحن بصدد إنتاج جديد مستقبلي عن الموسيقي المقدسي واصف جوهرية، لكن العلاقة بجمهور المسرح المقدسي هي الأهم دوماً، كانت وستبقى، ومَن كان قريباً مني في الأعوام الأخيرة، سمعني أقول مراراً إن الوقوف على خشبة الحكواتي ولقاء جمهوره هو من أمتع ما يمكن للممثل أن يطلبه في حياته المهنية… لا تحرمونا هذه المنصة، لا تسمحوا للمسرح بأن يُغلق."

ويقرّ مدير "الحكواتي" الممثل المسرحي عامر خليل بأن أزمة المسرح التاريخية قائمة باستمرار أسوة بمؤسسات القدس الأُخرى، مضيفاً: "بحكم وجودنا في المدينة المقدسة يصعب أن نحصل على تمويل من السلطة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه نرفض الحصول على تمويل إسرائيلي، لذا، فإننا نعاني على الدوام، وبصورة خاصة فيما يتعلق بتغطية المصاريف التشغيلية".

ويوضح "أية مؤسسة تريد دعم مشاريعنا، هي لا تغطي النفقات التشغيلية التي كنا أصلاً نعتمد لتغطيتها على مداخيل قاعتيْ المسرح اللتين تتسع كل واحدة منهما لـ 300 شخص، وكنا نعمد إلى تأجيرهما في كثير من الأحيان".

وبحسب خليل، فإن 80-90% من الفعاليات الثقافية في القدس كانت تقام في "الحكواتي"، لكن بسبب جائحة "كورونا" ومنع إقامة فعاليات فيه، فمنذ 20 شهراً لم يدخل أي شخص إلى المسرح، بمعنى أنه لا يوجد دخل. ويقول: اليوم نحن في أزمة، صحيح أن لدينا مشروعان، أحدهما مدعوم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والآخر مدعوم من الفرنسيين، لكن أياً منهما لا يغطي نفقاتنا التشغيلية؛ ويتابع: حصولنا على مشاريع جديدة ممولة يشكل أزمة بالنسبة إلينا، لأن كل تمويل جديد يغطي مشروعاً، بينما يُحجم عن تغطية النفقات التشغيلية، فكيف لنا أن ندفع رواتب الموظفين الذين ينفّذون هذه المشاريع. ومن هنا كان اعتمادنا على تأجير قاعاتنا، لكن الأمر متعذر الآن بسبب الجائحة.

حل الأزمة في أحد جوانبه، من وجهة نظر خليل، يتمثل في تحرُّك الجهات الرسمية الفلسطينية للضغط على الأطراف الدولية لتغيير سياساتها على صعيد التمويل.

لم يُخفِ خليل امتعاضه ورفضه التمويل المشروط، بما في ذلك الأوروبي منه، الذي يشترط توقيع وثيقة لنبذ ما يُعرف بـ "الإرهاب"، ويتساءل: لماذا يُفرض علينا توقيع مسائل تمثل وجهة نظر الممول وليس وجهة نظرنا نحن.

ويؤكد خليل أن التمويل المخصص للمؤسسات الثقافية في القدس قليل جداً نظراً إلى ظروف تتصل بشروط التمويل، معرباً عن أسفه لعدم التفات المؤسسات الفلسطينية والعربية إلى دعم المؤسسات الثقافية في المدينة المقدسة.

"الحكواتي" حتى الآن يستطيع دفع رواتب العاملين فيه، ونصفهم مرتبط بالمؤسسة منذ أكثر من 37 عاماً؛ ويقول خليل: لا وجود لأية ديون علينا، وحتى الآن لدينا مشاريع نعمل عليها، ويمكننا دفع الرواتب كاملة حتى الشهر المقبل، لكن قد يتعذر الأمر بعد ذلك.

ويقول خليل: من الواضح أن القدس والثقافة ليستا على سلّم أولويات الكثيرين، بما في ذلك المؤسسة الفلسطينية الرسمية.

وفي تعقيبه على الموضوع نفسه، يقول رئيس التجمع السياحي المقدسي رائد سعادة إن "أزمة الحكواتي وبقية المؤسسات المقدسية متراكمة عبر السنوات، وهي مرتبطة بعدة عوامل، إذ يُفترض أن يكون للقدس قيمة معينة بالنسبة إلى المجتمع الفلسطيني لذا، يُمنع أن تكون هذه القيمة ذات طابع شعاراتي، أي ليس لها مغزى وعمق، وألا تكون مرتبطة بدعم قطاعات حيوية فيها، مثل الثقافة".

ويضيف عاملاً آخر، هو فقدان المدينة مركزيتها وقوة حضورها لمصلحة مدن أُخرى، مثل رام الله، بحكم كون الأخيرة مركز ثقل السلطة وتركّز الكثير من المؤسسات والاستثمارات فيها، وهو ما يهدد بتحويل القدس إلى الهامش، أو كما يسميه سعادة، "حارة"، كما هي الحال بالنسبة إلى يافا التي باتت مُلحقة بتل أبيب.

ويقول: انتقل المركز اليوم من القدس إلى أماكن أُخرى بسبب الأوضاع السياسية والافتقار إلى خطة واضحة بشأن كيفية التعامل مع مركزية القدس، وبالتالي باتت أشبه بحارة، كما حدث مع يافا التي اضمحلت من مدينة فلسطينية لها هوية وطنية إلى حارة مرتبطة بتل أبيب.

ويدلل على ما ذهب إليه باحتواء القدس قبل 20 عاماً على 38 فندقاً، ليتقلص هذا العدد الآن إلى النصف، مضيفاً: "هناك مخطط إسرائيلي يستهدف القدس، مقابل بعثرة الأفكار والاستراتيجيات التي تحاول استعادة قوة القدس، أما مؤسساتها فتعاني بشدة كما هي الحال بالنسبة إلى الحكواتي، ومؤسستيْ المعمل للفن المعاصر، والحوش، وغيرهما".

ويرى أن طبيعة الأنشطة الثقافية تؤدي دوراً في قوة حضور المؤسسات الثقافية في القدس، مبيّناً أن هناك نزوعاً نحو الموسيقى، بعكس المسرح الذي يمثله "الحكواتي"، والفن التشكيلي الذي تمثله مؤسستان مقدسيتان فقط.

ويقول: هذا العدد القليل من المؤسسات يُفترض أن يكون له سند، موضحاً أن المشاريع الموجهة لأغلبية المؤسسات في شتى القطاعات موسمية، ولا تغطي النفقات التشغيلية، وهو ما يعتبره معضلة.

ويردف: النفقات التي تتحملها المؤسسات المقدسية مرتفعة مقارنة بسائر المدن بسبب الإجراءات الاحتلالية، الأمر الذي يجعل استدامة الكثير من هذه المؤسسات مهددة، بيْد أنه لا يجب أن يغيب عنا أن السلطة الفلسطينية لديها مشكلة في العمل في القدس، بحكم الأمر الواقع المفروض من الإسرائيليين الذين يعنون بتهميش القدس وعزلها، و"أسرلة" كافة جوانب الحياة فيها، ودفع أهلها إلى الرحيل.