مقابلة مع روضة عودة (الجزء الرابع والأخير): حب فوق أسوار السجن
Date:
22 septembre 2021
Interviewé: 
Intervieweur: 
Thématique: 

في الجزء الأخير من المقابلة مع المناضلة روضة عودة، تستعرض لقاءها بزوجها محمد عودة في سجن الرملة، قائلة:

"كنت في سجن الرملة وكان محمد في قسم الرجال في السجن ذاته. في سنة 1972 كنت أعمل في الحقل، إذ كان الأسرى والأسيرات ملزمين بالعمل في السجن، بينما كان محمد يعمل في بناء سور للسجن في قسم الرجال يلتقي في نهايته بالسور في قسم النساء. وهناك في نقطة ربط السور بالسور كانت البدايات التي مهدت إلى ارتباطنا فيما بعد.

في أثناء البناء، صار الشباب يلوحون بأياديهم، بإشارات إلى الأسيرات. وإذ بأسير يتوجه إليّ ويسألني: أنت روضة؟ قلت: نعم، لماذا؟ فقال: أنا اسمي محمد عودة وأريد التعرف إليك. فكان ردي: "أفضل لك أن تقرأ كتاباً من أن تمضي وقتك بالنظر إلى الأسيرات وطلب التعرف". لم يكترث كثيراً لكلامي، وحين أنهى الأسرى الشباب بناء السور، ذهب وجلس تحت زيتونة قبالتي، وبدأ يقدم لي الإرشادات بشأن التدخين، فقاطعته بازدراء "ما هذا؟!"

تمّ الافراج عنه بعد انتهاء محكوميته، قبل شهر من الإفراج عني.  وحين تحررتُ حضر إلى بيت العائلة ليهنئني. ثم بدأت زياراته تتكرر بوتيرة زيارة كل يومين، وتحول الموقف الحازم في السجن إلى بداية تفاهُم وتقارُب، ومن هناك قررنا الخطوبة، ثم تزوجنا. لقد اتّبعنا قيَمنا في زواجنا، فلم أقبل أخذ المهر ولا الذهب ولا شيء. أخذت معي كل ما عندي من ملابس ولوازم، وعمل محمد بالمثل. كان معي 165 ديناراً، وهو لديه 270 ديناراً جمعناها معاً، وبدأنا بترتيب وتجهيز الدار بأثاث مستعمل "ووضعت كتفي على كتفه، هو يشتغل وأنا أشتغل"، وتسنّى لنا تحسين وضعنا شيئاً فشيئاً.

كانت تجربة فريدة، وخصوصاً في ذاك الوقت وسياقه الاجتماعي، إذ أنني من مدينة الخليل بينما محمد من أصول فلاحية، وكان سائداً أن الخلايلة لا يزوجون بناتهم من فلاحين، وكان الأصعب أن تتزوج ابنتهم من دون مهر وذهب ولا مُقدَّم ولا مؤخّر. كان أخوتي هم مَن رافقني ووقف إلى جانبي لأن الوالد توفي وأنا في السجن. كنت سعيدة إلى أقصى حد، أسعد لحظات حياتي، بلا ذهب ولا مال، المهم بالنسبة إليّ كانت السعادة التي لا يعوّض عنها شيء. واليوم "بقول لكل الصبايا احسنوا الاختيار وتزوجوا الإنسان المناسب وعيشوا حياتكم."

رواية محمد عودة  عن بناء السور في الرملة وقصة الزيتونة؟

من جهته يقول محمد عودة: أولاً كان سجن الرملة يُعتبر سجناً نموذجياً بالنسبة إلى دولة الاحتلال، لأنه في حال قدوم أي وفد أجنبي غريب كانوا ينظمون له جولة في سجن الرملة، ليكون شاهد زور على حلاوة الحياة في السجن الإسرائيلي. بعد نحو سنة أو سنة ونصف على اعتقالي أُمِرنا بالعمل في البناء في الخارج وكان عددنا نحو 40 أسيراً. كنا نخرج كل يوم صباحاً من السجن ونمرّ في تفتيشات عدة.

لم توافق الحركة الأسيرة في تلك الفترة على تشغيل أي أسير، وخصوصاً في أول الاعتقالات سنة 1967-1969. فقد كان هناك محاولة لفرض أعمال تقتل الأسرى نفسياً، كأن يعملوا مثلاً في تصنيع شبك للدبابات. وكان الأسرى يرفضون. وجرى قمعهم مرات، ثم أضربوا ودفعوا ثمناً كبيراً بالتضحيات، وبكثير من الأمراض، وبالتعرض للقمع. وعلى الرغم من ذلك ثبتوا على موقفهم بالامتناع من العمل في هذه الأشغال، بينما وافقوا على الأعمال البسيطة التي تصرّح بها الحركة الأسيرة، مثل العمل داخل السجن، والذي يعود بفائدة على الأسرى، مثل قضايا النظافة في داخل الأقسام، والمطبخ، وطهي الطعام وإعداد الوجبات.

كما تبنّوا بعض الأعمال خارج السجن، والتي تسمح بطريقة غير مباشرة بالاتصال بالمعتقلين بين الأقسام أو "المعبار"، إذ يأتي أسير من سجن آخر بالصدفة بهدف محدد ومقصود إلى الأسرى، أو بهدف صحي. كذلك وافقنا على العمل في الهواء الطلق. اتفقت مع الشباب الذين يعملون في الخارج على أن أطبخ خلال العمل وألا أعمل في بناء السور. وفعلاً كنت أطبخ كل يوم وأُعدّ ما يتاح.

حين اقترب السور الذي كنا نبنيه من سور سجن البنات الملاصق لسجن الرجال، تطلّب العمل رافعات وسقالات، ومَن يعتليها يطلّ على سجن النساء ويكون تحت ناظريه ورقابته.. كان الشعور غريباً، فأنت الأسير ترى النساء المعتقلات في السجن. كان المعتقلون يحاولون إجراء حوارات ونقاشات وأحاديث، ولو بالإشارة، بل وحتى من خلال رمي رسالة في الحقل كي تلتقطها الأسيرات. فعلى سبيل المثال تواجدت الفتيات في الحقل، وبحسبما أذكر شكل روضة فإنها كانت هناك، اعتليت قمة السور مع الشباب الذين يعملون، فقالت لي روضة بلهجة قاسية حازمة: نعم! ما الأمر!، يبدو أن فكرها كان يعود إلى  سنوات ما قبل الاعتقال، والتأثر بالفكر المحافظ في المجتمع الفلسطيني، بما معناه: كيف تسمح لنفسك بالتحدث إلى الفتيات؟ قالت لي: "أنا روضة إيش بدك؟ مين أنت؟" أجبتها: أنا محمد عودة. فردّت قائلة: "خلص روح إقرالك كتاب أحسن". من يومها بدأت أحضر كتاباً معي بعد انتهائي من إعداد الطعام، وأتسلق شجرة زيتون عالية كانت قريبة من الكوخ المخصص لتسجيل زيارات أهالي الأسرى عند دخولهم السجن.

كان أهالي الأسرى يدخلون للزيارة، ويسيرون بيننا كي نراهم ونتحدث إليهم. بعد ذلك درجت على الخروج وحدي وتسلُّق الشجرة، وفعلاً كانت روضة هناك. تحررتُ في شهر تموز/يوليو، وأُفرج عن روضة بعد فترة وجيزة، في شهر آب/أغسطس. وكما هو متّبع، الذهاب لاستقبال أي أسير أو أسيرة بعد الإفراج، ذهبت لتهنئتها وتكررت الزيارات. وفعلاً مثلما روت روضة، إن تجربتنا فريدة، وتبين أنه ليس من المستحيل أن يتحدى الإنسان ظروفه الخاصة على الرغم من أسوار القيم الاجتماعية السائدة في حينه، بل بالإمكان كسرها أمام الإرادة وتطبيق العادات الجيدة والإيجابية. فما كان يميّز الأسرى هو ثوريتهم، فالأسير ابن الثورة والتنظيم ولديه الوعي بأن الحرية هي في تحرير الأرض والإنسان على السواء.

لقد نجحنا أنا وروضة في كسر العادات والتقاليد السلبية بطريقة محترمة، وبشبه إقناع للأهل، وأقمنا مراسم لقائنا وحبنا، وحتى أننا اتفقنا على أن تكون علاقة مكشوفة تحت الشمس، وحين شعر أهالينا بهذه العلاقة غير العادية تسهلت أمورنا. كانت روضة تعيش مع أمها وأختها في البيت وحدهن وأخوتها يعيشون خارج البلاد. وقد حضروا حين تحررت، وأنا بدوري ذهبت وتعرفت إليهم وتعرفوا إليّ. بعد ذلك تزوجنا، في نطاق إمكانياتنا المادية المتواضعة، ومع الوقت ملأنا البيت بلوازمه، وملأنا حياتنا بأجمل الأولاد.

التقينا في السجن، ومن داخل الجدران أرادوا بناء المزيد من الأسوار، وبدلاً من أن يعزلونا، كلٌّ في القسم المخصص له، التقينا عن طريق الصدف التي يجمعها السجن، وعن طريق المبادرة، وباتت حياتنا مشتركة. من يومها، عصفت فينا الاعتقالات والسجون من جيل الى جيل. هذه حالنا، هذه حال فلسطين.

أجرى المقابلة، الأسير المحرر بلال عودة

انظر