يذكر التاريخ أن قطاع غزة تعرّض للتدمير نحو سبع مرات على مر التاريخ، وفي إحدى المرات لم يتبق سوى رجل وكلبه، بحسب الروايات. وفي كل مرة كانت غزة تعود تلك المنطقة الساحلية الأكثر جمالاً وبهاءً وقوةً من سابقتها. ولاسمها الذي يعني أرض الغزاة ما يجعلها عرضة للغزو دائماً، وخصوصاً أنها في موقع يربط بين قارتين، آسيا وأفريقيا.
لكننا لن نتحدث عن التاريخ ولا عن الجغرافيا في هذا المقال، بل عمّا يجري وجرى خلال الأيام القليلة السابقة، التي مرت كالشهور على أكثر من مليونيْ مواطن عزّل وفقراء، في أغلبيتهم، لكنهم يمتازون بأنهم شعب فتي، فأعمار أكثريتهم شبابية، وثمة جيل جديد يقاوم هذه المرة، وربما كان هذا الجيل الذي مرت عليه عدة حروب، ابتداء من سنة 2008، ومنهم أصغر أولادي، من مواليد سنة 2000، وبلغت العشرين من عمرها قبل أشهر، لكنها تتذكر ما جرى في العدوان الأول على غزة على الرغم من صغر سنها، ولا تتوقف عن الترديد: ماما.... هاي المرة مش زي كل مرة.
قالت ابنتي إن العدوان هذه المرة يختلف، ربما الشعب أصبح أكثر إنهاكاً، لكنه يمتلك إرادة الحياة ولم يبق لديه ما يخسره، فحينما يرتفع صوت القصف نسمع أصوات الأطفال يهللون في كل مكان، ونسمع التكبيرات من البيوت، وأحياناً نسمع الزغاريد، وحين يهدأ القصف يخرج الناس لتشييع الشهداء ويبكون ويتعاطفون ويتساءلون عن القادم، وينتظرون، فمهما كان لم يعد هناك ما يخسرونه.
غزة المنهكة اقتصادياً جرّاء الحصار، والمنهكة من حيث عدم توفّر الرعاية الصحية لمرضاها، وخصوصاً مع توقف التحويلات في الفترة الأخيرة بسبب جائحة كورونا، فلا بد من أن تجد مريضاً في كل بيت ولا حيلة لأهله في توفير العلاج، وفي كل بيت هناك خريجون عاطلون من العمل يقتاتون من مصدر دخل هزيل للأب أو أحد الأبناء، أو من مساعدات من الأقارب.
عجيب هذا الشعب، فعندما توقف القصف في اليوم الأول لعيد الفطر كان الأطفال ينطلقون بملابسهم الجديدة الزاهية ويتجولون في الطرقات وهم يلهون ببعض الألعاب البسيطة، ومنها البالونات الملونة، بل حرص بعض الآباء على طرق أبواب الأقرباء المحاذين للتهنئة بالعيد على الرغم مما كابدوه في الليلة السابقة من قلق وخوف وتوتر جرّاء القصف .
عجيب هذا الشعب في الداخل وفي الخارج؛ لم يتوقف هاتفي عن الرنين لحظة لتلقّي مكالمات الأقارب والأصحاب وأصدقاء افتراضيين كونت معهم علاقات خلال أعوام، وأكثرهم من الفلسطينيين، والنسبة الأكبر في الترتيب هي من المصريين. لقد كان ذلك مبهجاً، التعاطف الشعبي الذي حصلت عليه كأم في غزة رفع من معنوياتي لدرجة كبيرة، بل ساعدني على الجلوس أمام جهاز اللابتوب وبطاريته تلفظ أنفاسها لأكتب هذه السطور؛ لقد مرت ساعات طويلة ولا كهرباء لدينا، وأصبحت الحياة قاسية مع ندرة الماء أيضاً، وعدم قدرتنا على الوصول إلى الأسواق أو حتى إلى محل البقالة القريب من البيت، فالخروج من البيت مغامرة لأن الطائرات التي تحوم فوق رؤوسنا تقصف أي هدف متحرك، وأي شخص ليس بأمان، وكذلك مَن يستقل سيارة خاصة أو عامة، أو مَن يستقل دراجة هوائية أو نارية.
أكرر أن هذا الشعب عجيب على أرض الغزاة، لديه قدرة على الوقوف، وأنت لا تعرف السر ولن تعرف، لكنها ربما الخبرات المتراكمة منذ عهود وعصور قديمة، وربما لأنه لم يعد لديه ما يخسره، فعلى سبيل المثال هناك منطقة الرمال التي دُمِّرت، هذه المنطقة هي الواجهة السياحية والتجارية لغزة وتقع فيها أجمل المحلات، وفيها الأبراج السكنية، والتي تقع فيها أيضاً المحلات والمؤسسات ومكاتب وكالات الأنباء، وحين كنت تسير في هذا الشارع قبل العدوان لم تكن لتصدق أنك في غزة المحاصرة، نظراً إلى مظاهر الجمال والرقيّ والمحلات التي تعرض في واجهتها أرقى الماركات الأجنبية من الملابس والأحذية والعطور ومستلزمات النساء، لكن هذا الحي ناله الدمار، والموجع أن هناك الكثير من الشباب الذين افتتحوا مشاريع صغيرة في هذا الحي باستئجار محلات صغيرة وإنشاء مشاريع لبيع الهدايا ومستلزمات الأفراح وغيرها من البضائع الرخيصة التي كانوا يأملون بأن تدرّ عليهم دخلاً بعد أن عانوا جرّاء البطالة، وأصحاب هذه المشاريع، في معظمهم، ادخروا المال لأعوام، وبعضهم حصل على قروض، أو على مصوغات أمه أو زوجته كهبة أملاً بفتح باب للرزق، لكن تدمير حي الرمال دمر أحلامهم.
يمكنك أن تختصر الوضع، هنا موتى أصبحوا لا يعلمون ولا يشعرون، وهناك مرارة فقد أحبتهم وعوائلهم، أو فقد البيت والمأوى الذي يعادل الروح، وهنالك مَن فقدوا مصدر الرزق، ومَن لم يصِبه من كل هذا شيء فهو لا يزال يترقب، لا يعرف ما الذي سيصيبه في الساعات القادمة، ولا يدري كيف سيكون الفقد بالنسبة إليه، الخسائر تطال الجميع، والجميع يرفض العبودية والذل والاحتلال عن بعد. الشعوب تتضامن بحرارة، والدول تقف ما بين عاجزة، أو متواطئة، أو داعمة لعدوان وحشي على شعب أعزل يتعرض للتدمير والموت والتشريد.