يواجه أهالي حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة منذ عشرات الأعوام معاناة قاسية تتمثل في التهجير واللجوء والاستيطان. يقطن في هذا الحي، الذي يقع على بعد كيلومتر شمالي القدس القديمة، فلسطينيون هُجّروا من أراضيهم في إبان نكبة 1948، وتحديداً من القدس الغربية وشمال فلسطين، وأيضاً تقيم بالحي 28 عائلة تنازلت عن بطاقة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين في مقابل الحصول على منزل وقطعة أرض صغيرة، حيث يصارع الأهالي مستوطنين قطنوا بينهم ويسعون لإفراغ الحي من سكانه الأصليين بعد أن استولوا على ثلاثة منازل هُجّر أصحابها الأصليون، وسكنوا فيها، لتصبح هذه المنازل نواة لمستوطنة تسعى لتهويد حي الشيخ جرّاح الذي يطلق عليه المستوطنون اسم "حي شمعون صديق".
تعيش في هذا الحي عائلات يقدَّر عدد أفرادها بـ 600 فرد، وهي عائلات الكرد وإسكافي والقاسم وغيرها، والتي هُجِّرت من أحياء مثل البقعة، ودير ياسين، ولفتا، ومن حيفا ويافا. فسكنت حينها في كرم الجاعوني وكبانية أم هارون في المنطقة الممتدة من الخط الفاصل بين القدس وحتى وادي الجوز شرقاً. وسكان الشيخ جرّاح جميعهم لاجئون فلسطينيون هُجِّروا من أرضهم ومزارعهم سنة 1948، فعائلة الكرد جاءت لاجئة من حيفا، وعائلة صباغ حضرت من يافا، وعائلة الدجاني أتت لاجئة من بيت دجن ومن يافا، وعائلات الداهودي وأبو عرفة وغيرها من العائلات قدِمت لاجئة من أحياء القدس الغربية.
وبدأت هذه العائلات كفاحاً قانونياً منذ قرابة 40 عاماً في محاكم الاحتلال، ولا يزال مستمراً على الرغم من رفضها الاعتراف بحقوق أهالي الشيخ جرّاح الذين اشتروا البيوت ودفعوا ثمنها. علماً بأنهم سكنوا فيها بموجب اتفاق دولي بين الحكومة الأردنية ووكالة الأمم المتدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" سنة 1956، إذ مولت "الأونروا" بناء 28 وحدة سكنية، بينما منحت الحكومة الأردنية كل عائلة قطعة أرض، في مقابل تخليها عن بطاقة اللاجئين وعدم حصولها على الخدمات التي تقدمها "الأونروا" التي دفعت ثمن بناء المنازل.
بدأ مسلسل الإخلاء والتهجير لسكان الحي عندما قامت سلطات الاحتلال في سنة 2009 بإخلاء ثلاثة منازل تعود إلى عائلتي الغاوي وحنون. واستمرت حياة العائلات الفلسطينية في المنطقة حتى سنة 1972 كالمعتاد، إلى أن ادّعى اليهود ملكية الأرض، فكلفت العائلات محامياً يهودياً بالقضية بسبب إضراب المحامين الفلسطينيين حينها عن العمل مع الاحتلال، وبعد عشرة أعوام تقريباً توصل المحامي والمستوطنون إلى اتفاق على أنهم يملكون الأرض في مقابل أن تستأجر العائلات الفلسطينية منازلها مدة 99 عاماً، وقد وقّع المحامي اليهودي الاتفاقية نيابة عن العائلات من دون علمها.
وبعد 15 عاماً، أي في نهاية تسعينيات القرن الماضي، توفي المحامي اليهودي فكلف الأهالي محامياً عربياً بالقضية، وسنة 2002 نجح محامي المستوطنين باستصدار قرار بإخلاء عائلة الغاوي من منزلها في الحي، لكن في سنة 2006 نجحت العائلة في العودة إلى منزلها بعد تقديم التماس إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، وبعد عامين بدأت الجمعيات الاستيطانية بخطوة لإخلاء المنازل ونجحت في إخلاء ثلاثة منازل تعود إلى عائلات الكرد وغاوي وحنون، وسكن مكانها مستوطنون. وفي سنة 2012 قررت محكمة الاحتلال أن اتفاق المحامي اليهودي مع المستوطنين (بأن ملكية الأرض للمستوطنين والفلسطينيون مستأجرون فيها) يسري على جميع العائلات الـ 28، وطلبت من عائلة الصباغ إخلاء منزلها، وفي سنة 2019 صدر قرار نهائي بإخلاء منازل تعود إلى عائلات الكرد والقاسم والجاعوني وإسكافي، بينما تنظر المحاكم في مصير 3 منازل أُخرى سيصدر قرار بحقها لاحقاً.
يذكر محامي الدفاع عن أهالي حي الشيخ جرّاح سامي إرشيد، أن سلطات الاحتلال، وفي السنة التالية لاحتلال القدس، أي سنة 1968، سنّت قانوناً مخصصاً للاستيلاء على أراضي القدس الشرقية، وبينها حي الشيخ جرّاح، وحرمان المواطنين الفلسطينيين من أراضيهم ومن حقوقهم الشرعية في القدس. ويتيح القانون التهويدي لكل يهودي يزعم أنه يملك عقارات في القدس الشرقية إعادتها إليه من الفلسطينيين، في حين حُرم مواطنو القدس الشرقية الذين يحملون هوية القدس من العودة إلى منازلهم التي هُجّروا منها في القدس الغربية سنة 1948، وليس لهم حق المطالبة بحقوقهم التي فقدوها قبل سنة 1948. وأوضح إرشيد أن قضية الشيخ جرّاح بدأت عندما زعمت جمعيتان استيطانيتان أنهما أصحاب الأرض المقام عليها حي الشيخ جرّاح منذ سنة 1875 في إبان حكم الدولة العثمانية، وطالبتا بتسجيل الأرض باسميهما، فتم تسجيل رقبة الأرض لهما من دون علم أحد من سكان حي الشيخ جرّاح أو إخطارهم بعملية التسجيل. ويشير إرشيد إلى أن المحكمة سمحت للمحامين بالاطلاع على ملف تسجيل الأرض باسم المستوطنين فقط في سنة 2011، وقال: "بعد الاطلاع على هذا الملف نعتقد أن التسجيل خاطئ، وأن ادعاءهم امتلاك الأرض كذب. وأضاف "رفعنا دعوة وطالبنا فيها بردّ تسجيل الأرض وعدم تسجيلها لمصلحة المستوطنين، لكن المحكمة رفضتها بحجة التقادم ومرور أكثر من 15 عاماً على تسجيل الأرض، ففي محاكم الاحتلال أصبح التسجيل نهائياً ولهم حق المطالبة بإخلاء المنازل من قاطنيها الفلسطينيين".
وأوضح أنهم أخلوا ثلاث عائلات في سنة 2009 وسكن منازلها مستوطنون، وهناك نية لدى الشركة الأميركية التي تملك العقارات حالياً وتخطط لبناء حي استيطاني بعد شراء الأرض من الجمعيات الاستيطانية، ليضم الحي 600 وحدة استيطانية بدلاً من الـ 28 وحدة سكنية عربية.
كان من المقرر أن تقوم المحكمة الاسرائيلية العليا بالنظر يوم أمس الإثنين الموافق 10/5/2021 في طلب استئناف مقدم من أربع عائلات من الشيخ جرّاح من أصل 13 عائلة لديها قضايا، لكن تم تأجيل عقد المحكمة إلى موعد لم يحدَّد بعد، في الوقت الذي رفض محامي العائلات المقدسية طرح المستوطنين بعمل تسوية بين سكان حي الشيخ جرّاح وبين الجمعية الاستيطانية، في مقابل دفع أجرة السكن شرط أن يتنازلوا عن حقهم في هذه البيوت، وأن هذه الأملاك خاصة بالمستوطنين، ويطالب المحامي باعتراف محكمة الاحتلال بحق المواطنين الفلسطينيين بالسكن في هذه البيوت بناء على اتفاقية الحكومة الأردنية ووكالة الأونروا. وجاء قرار التأجيل بطلب من المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية أفيحاي مندلبليت، كي يقرر ما إذا كان يريد أن ينضم إلى الملف المنظور أم لا، وأشارت مصادر إعلامية إلى أن المستشار سيقدم للمحكمة مغلفاً مختوماً (سرياً) بداخله رأي قانوني للجهات المختصة في تداعيات الملف.
يبدو أن تأجيل المحكمة العليا النظر في طلب الاستئناف جاء تحت ضغط التحرك الشعبي الفلسطيني في حي الشيخ جرّاح في القدس، المساند لعائلات الشيخ جرّاح التي تتمسك بحقها في منازلها ورفض استيلاء المستوطنين عليها، والذي يشكل الضمانة الأساسية لحق العائلات في التمسك بمنازلها، وما نجم عنه من حملات تضامن واسعة أيضاً على الصعيد الدولي. علماً بأن القوانين الإسرائيلية التي تشكل الأساس لمزاعم المستوطنين بإخلاء العائلات المقدسية غير قانونية، وتندرج في إطار عمليات التطهير العرقي والإخلاء والترحيل القسري التي تمارسها حكومة الاحتلال، وهي منافية لأحكام القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة سنة 1949، الخاصة بحماية المدنيين، كما أنها تشكل جريمة حرب بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وتستوجب المسؤولية والعقاب.