الأسئلة التي تواجهها عملية بناء مجتمع فلسطيني داخل الخط الاستعماري كثيرة، وتزداد مع حجم بناء حركات وجمعيات ودوائر وأماكن ومساحات معرفية وثقافية وفنية. فالنضال ضد الاستعمار يتشابك مع نضالات في مستويات أُخرى داخل المجتمع، ومن المهم التشديد على أن هذه المستويات تشابكت في العقد الأخير مع أحداث غير مسبوقة، تخللها طرد شخصيات من تظاهرات، وصعود ثيمات وأسئلة اجتماعية وسياسية في النقاش الفلسطيني العام بشأن قضايا التحرش والمثلية، وأُخرى تتعلق بمعاني العنف، وكيف ننظر إلى طرد سياسيّ أو شخصيات عامة من التظاهرة (وهل يندرج تحت تعريف العنف غير الشرعي؟)، وهل الكلمات والتصريحات هي عنف في حد ذاتها أيضاً، إذا ما عززت شرعية الشرطة.
في المقابل، كيف ننظر إلى العنف على الصعيد الشخصي وعلاقته بالمجال العام (هل يجب الحديث عنه، أو بالأحرى الطرد على أساسه؟) والسؤال الذي يبرز دائماً، ما هي معايير فعل الطرد، ولا أقصد المعايير النظرية، بل كيف ننظر إلى تجسيدها على الأقل في الواقعتين؛ الأولى في 26 أيلول/ سبتمبر 2019، مع نهاية التظاهرة الواسعة التي نظّمها حراك "طالعات"، عندما قرر العديد من المتظاهرين والمتظاهرات طرد جعفر فرح بسبب شهرته آنذاك بأنه متحرش [وأشير إلى أن جمعية السوار النسوية، أتبعت هذا الحدث بنشر شهادة بشأن انتهاكات الأخير ضمن حملتها "16 يوماً، 16 قصة"].
الحدث الثاني وقع مؤخراً، في 5 آذار/ مارس 2021، في أثناء تظاهرة قطرية في أم الفحم، احتجاجاً على الجريمة المنظمة وتعاوُن أجهزة الدولة جميعها في إمدادها وتثبيتها، قرر أيضاً عدد من الحضور التنديد بمشاركة عضو الكنيست منصور عباس [تخللت التنديد محاولات ضرب عباس وطرده بالقوة] وذلك في إثر تصريحاته المتعلقة بتقديم الشكر إلى جهاز الشرطة في أحيان معينة، وأيضاً وصف الأسرى بـ"الإرهابيين" في أثناء مقابلة مع قناة "إسرائيلية" من دون الاعتراض على المصطلح المستخدَم في المقابلة.
من المهم أن نشدد على أن أحداثاً أُخرى كان لها دلالات شبيهة، لكن من الجهة المعاكسة، على سبيل المثال لفت انتباهي الدكتور والقانوني رائف زريق في أثناء حديثي معه بهدف إعداد النص إلى أن عبد الوهاب دراوشة أعلن انسحابه من حزب العمل في سنة 1988 في خضم الانتفاضة الأولى، احتجاجاً على القمع والاضطهاد وسياسة كسر العظم التي تمارَس بحق شعبه، خلال تظاهرة في الناصرة، فقام المتظاهرون بحمله على أكتافهم وإعلانه "بطلاً". وبالتالي النظر إلى التظاهرات كمساحات لإحياء أبطال وإماتة آخرين، أي أن التظاهرة هي مساحة "تحيي وتميت"، تنتج وتبني ذواتاً سياسية وليست فقط "مساحة للإعدام السياسي".
صعود حراك... ثم طرد؟
نلاحظ مباشرة أن المساحة المتكونة في التظاهرات في إثر قضية/ثيمة اجتماعية وسياسية فتحت مؤخراً أبواباً جديدة وممارسة غير مسبوقة، على الأقل بالحجم الذي رأيناه في كل من الحدثين، وخصوصاً أن الحراك الصاعد عموماً هو محاولة لمساءلة المجتمع، وعلاقة وأثر السياسات الاستعمارية في تشكيل مصالح لدى قطاعات داخل المجتمع، مهتمين بتحقيق مصالحهم الفردية على حساب مصلحة المجتمع. وأحيل إلى حراك "طالعات" (2019) و"الحراك الفحماوي الموحد" (2021).
صعود حراك "طالعات"، على سبيل المثال، يفجر أسئلة أكثر نقدية وأكثر ارتباطاً بديناميكية داخلية وبعلاقات القوة التي تبني مجتمعنا، وبدورها تعبّر عن البناء التحتي للنظرية والممارسة عند الحراك. وفي هذا الخصوص، عندما تصف القانونية والناشطة النسوية سهير أسعد، البناء التحتي للحراك، بأنه استعادة سياسية من الأحزاب الراسخة، وكسر احتكارهم والتعاطي معها بآفاق أوسع، وتعريفها من جديد في سياق الآلام الشخصية والجمعيّة والهيمنة في المجالات الخاصة كما في المجالات العامة، والنضال ضد علاقات القوة الداخلية، وأيضاً ضد علاقات القوة التي تفرضها وتمارسها المؤسسة الاستعمارية (متراس، 29 أيلول/ سبتمبر 2019)، والنظر إليها جميعها بتشابُك وتداخُل.
في المقابل، نرى أن النمط يتكرر في الحديث عن الجريمة المنظمة، باعتبار الديناميكية الجارية هي داخلية أساساً، مع التشديد على أهمية النسق الاستعماري والنيوليبرالي الذي ساهم في خلق المحركات الأولية للجريمة المنظمة. كمثال للديناميكية الداخلية، تحدث الكاتب ربيع نصار عن محلات للصرافة منتشرة في البلدات العربية كأحد الجوانب التي تتحرك فيها الجريمة المنظمة، ولفت إلى أن عملية الإقراض من جهتها، من الصعب سدادها بسبب شروطها وقوانينها، "في ظل هذه الشروط الصعبة، واستحالة سداد كثيرين المبالغ المرتفعة، تتدخل منظمات الإجرام لتكون اليد الحديدية لمحلات الصرافة. وفي هذا يمكن أن نجد محلات صرافة هي بالأساس تابعة لمجموعة من مجموعات الإجرام، أو أن المحلات استعانت بمنظمة الإجرام عند حاجتها من دون علاقة بنيوية بينهما." وبالتالي من المهم استيعاب النمط المتكرر في البناء التحتي المؤسس لشكل الحراك، وهي الديناميات وعلاقات القوة الداخلية وارتباطها بالمؤسسة الاستعمارية (متراس، 19 آب/ أغسطس 2018). لكنها مختلفة عن النمط في السابق؛ قرار إسرائيلي لمصادرة أراض في الجليل أو النقب أو المثلث، وينتج من ذلك تظاهرات وحراك واسع.
لا أؤكد في هذا الصدد وجود علاقة سببية بين حراكات تؤسَّس على قضايا مرتبطة بديناميات داخلية لدى المجتمع الفلسطيني مع فعل الطرد، إلّا أنني أقترح أن نحاول النظر إلى الفعل الجاري باتساع المشهد والتجربة والسياق. نشوء حراك "طالعات" مرتبط بأسئلة واسعة وعالمية، وقد تفاعلت مع الأسئلة التي تطرحها فلسطين في هذا السياق كما تطرحها أسعد في مقالتها وبيانات "طالعات"؛ الاستعمار والشرذمة وخفوت العلاقة المتبادلة بين التحرر الوطني والنسوي، ومحاولة اختراق مساحات لم تكن متاحة في السابق. وبالتالي تفاعُل "طالعات" مع الأسئلة المتعلقة بحيفا بصورة خاصة، أو المدن الأُخرى التي خرجت فيها الجموع، لم يكن ضمن استراتيجيا، بل ضمن تكتيكات أو ردات فعل نتجت من الخطاب.
إذاً عند النظر إلى المشهد بحجمه الحقيقي نرى أن فعل الطرد والأسئلة التي أفرزتها التظاهرة في حيفا، على سبيل المثال، لم تكن مقولة التظاهرة، بل وفقاً لأسعد، يحمل حراك "طالعات" في جعبته مقولة إزاء كل المساحات وعلاقات القوة ونُظُم الهيمنة والسيطرة فلسطينياً، وأيضاً ما هو أوسع من ذلك.
ويتبين أن تفاعُل المساحة مع المشاركين والمشاركات، والتي خلقها حراك "طالعات" في تلك الفترة تحديداً، جعل من فعل الطرد ممكناً. ليس فقط في إثر القوة التي كُثِّفت بفعل الحضور، بل أيضاً، وهو الأهم، في سياق حيفا؛ وأن علاقات القوة لم تعد أمراً شخصياً يتحدث فيه البعض في البارات والمقاهي، والتي توهم الشعور بـ "الاختلاف" والبديل، وفقاً لمقالة يارا السعدي (جدلية، كانون الأول/ ديسمبر 2017)، بل خرجت إلى الحيز العام في شكله الأكثر واقعية، وبالتالي فعل الطرد ينم عن شعور باختلال علاقات القوة الراسخة تجاه من يعبّر عنها في وقت معين في إثر صعود حراك.
لكن كيف ذلك؟ لماذا في هذا التوقيت تحديداً أصبحت علاقات القوة سؤالاً مطروحاً أمام المجتمع، والأهم علاقات القوة الداخلية، إذ إن زريق أشار في أثناء حديثنا إلى أن الطرد كفعل داخل المساحة، هو محاولة لتعريف المساحة وحدودها وبناء علاقات قوة جديدة، موضحاً أن فعل الطرد هو بمثابة ترسيم حدود "لمن له الحق في المشاركة؟"، ومن خلاله تُشكَّل المساحة وحدودها وتعريفها وهويتها.
سؤال التوقيت وأثره في تصور المساحة
نستطيع أن نعيد فعل طرد منصور عباس إلى ما قبل خمسة أشهر، في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر، في أثناء جلسة الكنيست المتعلقة بـ "مكافحة الجريمة المنظمة في المجتمع العربي"، إذ تحدث بإيجابية عن الشرطة، لافتاً إلى أنها استطاعت "منع جرائم القتل في بلدة معينة"، وأطّر ذلك بقوله "أعتقد أنه يجب اتخاذ مسار جديد في هذا الصدد بين المواطنين والشرطة. لا يمكننا البقاء على مواقفنا النمطية [تجاه الشرطة]، ويجب أن نعطي فرصة لعلاقة وتعاون جديدين لعملنا هذا." لم تلقَ هذه المقولة آنذاك نقاشاً جدياً على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الأحزاب وغيرها من المساحات الثقافية والمعرفية والسياسية، في حجم التغيير الذي تُحدثه هذه المقولة التي أسّس لها عباس.
السؤال الأساسي عند الاستماع إلى كلمات عباس في جلسة الكنيست: كيف ارتبطت مواقفه من الشرطة بالحركة الجماهيرية في أم الفحم لاحقاً، وعلى رأسها التظاهرة القطرية في أم الفحم في 5 آذار/ مارس في العام الحالي؟ للإجابة عن السؤال من المهم أن ننظر إلى الأسبوع الذي سبق التظاهرة القطرية، في 26 شباط/ فبراير خرجت أم الفحم في تظاهرة حاشدة، إلّا إنها تلقت فور انطلاقها رداً عنيفاً غير مسبوق من الشرطة، ووفقاً لبيان بلدية أم الفحم آنذاك، "مع انطلاق أول شعار في التظاهرة قامت الشرطة بإطلاق القنابل المسيلة للدموع والمياه العادمة والقنابل الصوتية والاعتداء بالهراوات على المتظاهرين العزل". وهو ما يعني أن تواجد عباس في التظاهرة القطرية تحديداً أصبح مباشرة يعبّر عن الشرعية السياسية للشرطة.
توالي هذه الأحداث شكّل البناء التحتي للتظاهرة القطرية التي تندرج تحت إطار الحركة الجماهيرية في أم الفحم متمثلة بـ "الحراك الفحماوي الموحد"، التوقيت في هذا السياق ينكشف أمامنا بصورة أوضح؛ ارتباط فعل الطرد بالمساحة الجديدة من جهة، ومن جهة أُخرى ارتباط الطرد بـ "المسار الجديد للعلاقة بالشرطة" الذي تحدث عنه عباس.
في هذا الصدد، يتبين أن المساحات الجديدة التي خلقها حراك "طالعات" و"الحراك الفحماوي الموحد"، تُسائل مجتمعنا وعلاقات القوة والعنف في داخله ولا تسائل فقط الاستعمار كحدث خارجي. لذلك نرى أن المساحة فجرت إمكانات جديدة متعلقة بتحرير الذوات المستعمَرة والعلاقات بينها. وهو ما جعل الاحتدام وفعل الطرد حتمياً في تلك اللحظة التي انكشفت فيها علاقات القوة التي تجسدت في رفض المشاركين والمشاركات رفع أصواتهم، إلى جانب معنّف/ متحرش/ داعم للشرطة، معروف بالنسبة إليهم. اللحظة والسياق هما الحاسمان في فعل الطرد.
لكن في المقابل، تصعد من حين إلى آخر مقولة مفادها أن فعل الطرد شكل آخر من أشكال العنف، أي أنه يتعارض مع فعل التظاهر ضد العنف. وبالتالي ما هي حدود ممارسة فعل الطرد؛ هل هناك حالات طرد من دون عنف؛ هل بالإمكان الحديث عن معايير لطرد شخصيات من مساحة التظاهرة من دون أن تُعرّف بأنها عنف؟
حديثي مع كرم جبارين، القيادي في "الحراك الفحماوي الموحد"، قد يعطينا أجوبة، إذ شدد على أهمية الاحتواء في المساحات التي تخلقها التظاهرة بقدر الإمكان مقابل فعل الطرد وترسيم حدود المساحات، لكن ذلك يُطرَح ضمن ترسيم جديد للمواقع؛ فالشخصيات والقيادات الحزبية والسياسية لم تعد "تقود الصفوف"، أو "تخصَّص لها المنصات لإلقاء الكلمات"، بل تأتي إلى التظاهرات كأفراد متماثلين في المجتمع. لافتاً إلى أن "الحراك الفحماوي الموحد" حاول صوغ علاقات القوة الراسخة من جديد داخل المساحات من خلال إفراغ المظاهر والممارسات والتقاليد داخل التظاهرة، والتي تغذي علاقات قوة معينة.
ختاماً، من المهم الإشارة إلى أن فعل الطرد ذاته لن يستطيع خلخلة علاقات القوة المجتمعية التي تتدفق أيضاً إلى حيز التظاهرات. وما تحدث عنه جبارين من الممكن أن يأخذنا إلى زوايا أُخرى من النقاش والحوار، حيث الاهتمام بالمبنى التقليدي للتظاهرة، ومحاولة إحداث تغيير هناك.