لا تكتسب المذكرات واليوميات قيمتها من شخصية صاحبها ومكانته وموقعه الذي ينقل منه روايته فحسب، وإنما أيضاً من محتواها التاريخي والفترات الزمنية التي تغطيها، فكاتب المذكرات واليوميات هو مؤرخ من حيث لا يدري ولا يقصد. لكن ارتباط التأريخ بالأولى ليس كارتباطه بالثانية، فعلاقة الذاكرة بالتاريخ، كما يقول فرانسوا هارتوج، ظلت "معقدة ومتغيرة ونزاعية"، والذاكرة، وإن كانت تمثل نقطة مرجعية للتاريخ اليوم، إلّا إنها حتى وقت قريب، كانت بالنسبة إلى البعض غير مؤتمنة، فكاتب المذكرات يستذكر حوادث الماضي ليعيد تشكيلها وفق سياقات الحاضر ومعطياته، بينما التاريخ "لا يعد علمياً ما لم يكن حاضراً". وبخلاف ذلك، اعتُبرت اليوميات منذ وقت مبكر رديفاً للتأريخ، إذ تمثل شهادة مؤرخة بخط يد صاحبها، يتزامن فيها فعل الكتابة مع وقوع الحدث، وتفسير الكاتب له في حينه.
في آخر إصدارات سلسلة ذاكرة فلسطين، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقدم كتاب "داخل السور القديم: نصوص قاسم الريماوي عن الجهاد المقدس" للباحث بلال شلش، والذي أُسندت إليّ مهمة تحريره، نموذجاً مثالياً للمقارنة بين اليوميات التي هي بنت لحظتها الراهنة، والمذكرات التي تخضع لشروط الذاكرة وإمكاناتها، وتحكمها التحولات الطارئة على مواقف صاحبها وأفكاره واتجاهاته، من خلال دراسة تحقيقية لنصّين دوّنهما قاسم الريماوي في فترات زمنية متباعدة؛ الأول تقريره عن الجهاد المقدس الذي خطه بيده في سنة 1949، وأرسله إلى الحاج أمين الحسيني، والثاني روايته الجديدة عن الجهاد المقدس في مقالاته المنشورة في صحيفة "الدفاع" سنة 1970، وصحيفة "الدستور" سنة 1972، إذ يعيد الريماوي في نصوصه المتأخرة كتابة التاريخ بأثر رجعي، فتغيرت رؤيته للوقائع، وتقييمه للأشخاص، وتفسيره لماجريات الأمور، وفقاً لموقعه الجديد كسياسي أردني، بعد أن كان في أثناء تدوين نصه الأول مقاتلًا في صفوف الجهاد المقدس إلى جانب عبد القادر الحسيني.
هذه التباينات بين المذكرات واليوميات قد يتنبه إليها القارئ كما يلاحظها المحرر، لكن ثمة أمور أُخرى لا يتسنى لغير الأخير إدراكها، تتمثل في التغايرات الدقيقة بين نصوص اليوميات المنشورة بصورتها النهائية، وتلك المخطوطات البكر التي تصل إلى يد المحرر ليكون هو قارئها الأول وحكَمها الوحيد، فقارئ اليوميات إنما يقرأ نصاً أنيقاً معروضاً بثوبه الرسمي المتكلّف، أمّا المحرر فيقف بين صاحب اليوميات وذاته بما يكتبه لها من مواقف يومه وأحداثه، وما يفضي إليها به من أفكار وانطباعات وانفعالات، من دون انتقاء أو تحفظات، فإذا كانت اليوميات تتقدم على المذكرات بلحظيتها، وعدم خضوعها لأحكام الذاكرة وتقلبات الزمان وتبدل المواقف، فإن اليوميات المخطوطة تتقدم على تلك المنشورة بسلامتها من مقص المحرر الذي يؤدي دور الرقيب هنا.
لا تقتصر مهمة محرر اليوميات على تقصّي سلامة اللغة، والتحقق من منطقيتها، وتزويدها بالهوامش التوضيحية اللازمة، فثمة مهمات أُخرى تفرضها عليه خصوصية العمل على هذا النوع من النصوص، تبدأ من محاولة فك خطوطها وتحليلها، وبذل الجهد في فهم ما استُشكل من ألفاظها أو اختلط من حروفها، واستتمام مواضع النقص فيها بالبحث عمّا فُقد من أجزائها، ثم معالجتها لتتوافق مع القيود الأيديولوجية التي تفرضها ثقافة المجتمع وقيمه، والاعتبارات المحددة لسلوك أفراده، فقد يضطر المحرر إلى استبعاد بعض الألفاظ والعبارات المخالفة لِما توافق عليه الناس في مجتمعه، أو تلك التي من شأنها أن تثير النعرات والخلافات بين أشخاص أو أطراف يرِد ذكرهم في هذه النصوص، أو ما قد يتسبب بمنع الجهات الرسمية نشر الكتاب، مع التزام الإشارة إلى مواضع الحذف والاجتزاء. أضف إلى ذلك كله تقيُّد المحرر بقيود النشر ومعاييره المتعلقة بعدد صفحات الكتاب، وهو ما يُلزمه اختصار اليوميات المطولة، إذ ينتقي منها الأجزاء الأكثر ملاءمة، ويستبعد ما يراه أقل أهمية من غيره، ليبقى محفوظاً في أرشيف صاحبه أو يُعاد نشره في إصدارات لاحقة.
وإلى جانب دوره التفاعلي المتعلق ببنية النص وشكله، تنكشف لمحرر اليوميات خفايا لا يعرفها غيره، بعضها ظاهر في نص اليوميات المقروءة غير القابلة للنشر، وبعضها خفي يستشعره من جملة أسلوب صاحب اليوميات بحكم قراءته المتكررة والمتمعنة للنص بغرض تحريره، فيدرك مثلاً أن اليوميات، على أهميتها وأفضليتها، لا تخلو من سمة التخيّل، ولا تنجو من ذاتية صاحبها، إذ يرى ما يشهده من حوادث بعين عقله، وبحكم موقفه وموقعه، وبما ينحاز إليه باختياره، أو يميل إليه بطبعه، فليس كل ما يُدوَّن في لحظته يتسم بالموضوعية والحياد. ويدرك أيضاً أن اليوميات ليست متشابهة، حتى وإن تشابهت صفة مدونيها ومواقعهم، وتقاربت أزمنة تدوينها، فثمة عوامل أُخرى تحكم محتواها واللغة التي كُتبت بها، أبرزها يكمن في الإجابة عن سؤال لماذا يكتب صاحب اليوميات يومياته؟ فإذا قارننا مثلاً بين نموذجين عملت عليهما ليوميات رجلين من رجالات الدولة الأردنية؛ عدنان أبو عودة وأكرم زعيتر، وكلاهما شغلا مناصب سياسية ودبلوماسية، واستفاضا في تدوين يومياتهما في فترات معينة، ندرك تفاوتاً بيّناً بينهما في شكل التدوين وأسلوبه، فأكرم زعيتر يُظهر اهتماماً بالغاً بتزويق لغته وتزيينها وتحسينها؛ فيجيد الابتداء والختام، ويعتني بالتوصيف، ويطرّز الجمل ويَزِنُها، والشواهد على ذلك غير قليلة في يومياته، على غرار وصفه لأحمد خشبة باشا في يوميته بتاريخ 6/10/1949: "وهو حسن الحديث، جذاب القول، فصيح العبارة، لا تعوزه النكتة"، ووصفه لهاشم الأتاسي، في يوميته بتاريخ 23/3/1957: "فسرّني أن أراه على ما أعهد؛ رباطة جأش، وقوة ذاكرة، وسلامة تفكير." وبمثل افتتاحه ليوميته المؤرخة في 31/12/1961 بقوله: "ينتهي هذا اليوم عام 1961، وأودعه في غير حرارة ولا أسف عليه"، واختتامها بقوله: "ورأيت الزبد من البعض، وسرّني أنه جفاء، واعتززت بما اكتسبت، ولم آسف على ما فقدت."
بخلاف ذلك، كُتب أغلب تدوينات عدنان أبو عودة بصيغة أقرب إلى الكتابة التقريرية الوظيفية، وملاحظات العمل العاجلة، فنراه يفتتح معظم يومياته بصياغات، مثل زارني فلان، أو زرت فلاناً، أو قابلت فلاناً، أو يبدأ بها بتحديد الوقت والمكان، فيقول مثلاً: "في الحادية عشرة، زرت دولة الرئيس في مكتبه"، و"الساعة الرابعة والدقيقة الثلاثون، من بعد ظهر يوم 25/4/1977، زارني في بلير هاوس البروفيسور وليم كوانت"، و"اجتمعت في الساعة الخامسة، من بعد ظهر يوم الإثنين، الموافق 5/6/1978، بوزير خارجية الاتحاد السوفياتي بالوكالة"، وهكذا. وفي كثير من المواضع يلخص الحدث على هيئة نقاط، كما في تلخيصه انطباعات السكرتير الأول للسفارة الأميركية عن زيارته إلى الضفة الغربية بتاريخ 4/8/1974، وتلخيصه للقائه هانز فيشنفسكي بتاريخ 17/7/1979، ولقائه أبا إسماعيل الرمحي بتاريخ 7/7/1980، وقس على ذلك الكثير. فأي غاية كان ينتقي لها زعيتر ما يكتبه في يومياته؟ وأي غاية كان يرصد لها أبو عودة تفصيلات لقاءاته ومشاهداته؟
تُكتب اليوميات لغايات عدة، إحداها أن يكتبها صاحبها لغاية النشر بعد مماته، أو التأسيس لمذكرات قد يكتبها في حياته، فهو يكتب بوعي حاضر لما ستؤول إليه هذه المدونات، وهذا شأن أكرم زعيتر الذي كان يعيد النظر مراراً فيما يكتبه، وهو ما يظهر في المواضع التي يشطبها في مخطوطاته ليعيد صوغها مرة أُخرى بما يتواءم مع ظروف حياته الجديدة، وهذا ما يؤكده ابنه سري في الإشارة إلى أن والده كان منكباً على إعدادها للنشر قبل وفاته. في حين كان عدنان أبو عودة يدوّن يومياته لأسباب ذاتية مغايرة، فإلى جانب الاستفادة من ملاحظاته بالعودة إليها كلما تطلب الأمر، صرّح عدنان أبو عودة في غير مناسبة بأنه كان يريد أن يجعل منها وثيقة يدافع بها أبناؤه عن أنفسهم بعد وفاته، إذ كانت تلاحقه اتهامات عدة من أطراف فلسطينية.
ختاماً، لا تزال المكتبة العربية تفتقر إلى المزيد من كتب السيرة واليوميات والمذكرات، وخصوصاً ما يغطي منها المراحل الممتدة من الفترة التي تبعت النكبة الفلسطينية سنة 1948، ونشوء الدول الوطنية الحديثة. وتتفاقم هذه المشكلة حين يتعلق الأمر بالذاكرة الفلسطينية، إذ فُقد الكثير من المخطوطات التي كانت محفوظة لدى القادة الفلسطينيين خلال الحروب والملاحقات والتنقلات من بلد إلى آخر، بينما لا يزال بعضهم، أو ورثتهم، يخشون نشر ما تبقى لديهم من مخطوطات ووثائق.