تجربة لا مفر منها ...هي الحكاية تبدأ من "هناك جنود، هناك احتلال لا تقترب"... يبدأ الوعي عندك بعدم الاقتراب والحفاظ على مسافة فاصلة. ثم تسير الأيام لتكتشف ألاّ مفر من التقليص التلقائي للمسافة.
منذ أكثر من مئة عام والحكاية تتكرر بأشكال مختلفة أو متشابهة وتكاد تكون أحداثها قد جرت في كل بيت. ما أكثر لحظات الظلم الذي مر بها شعبنا ... أي شعور بالظلم يدفعك إلى الدفاع عن نفسك الفردية والجماعية، حتى وإن كنت الطرف الأضعف. فالحق لا يستمع لا للأقوياء باستبدادهم ... ولا للضعفاء باسترحامهم ...... الحق يستمع لمطالبيه مهما طال الزمن. فالحق هو الحق. نحن كأسرة فلسطينية بدأت حكايتنا المباشرة في سنة ٢٠٠٤.
كانت أُولى تجاربي حين رأيت جنوداً مدججين بالسلاح يتقدمون لاقتحام بيتنا واعتقال أخي الكبير. لم ولن أنسى تلك اللحظة المحفورة عميقاً في الوجدان، وكيف اختبأت من ورائه، وكيف كان وداعه لنا وداع الشجعان بقبلات أمي وزغاريدها، والزغاريد في مثل هذه الحالة كانت تظاهرة إرادة. لم يكن لهذا المشهد حينها سوى أن يسكتنا، ولنبدأ السير في مرحلة جديده كالمراحل التي مرت بها آلاف العائلات الفلسطينية. سرقت فلسطين، ونهبت، واحتُلت، ولم يعد أهلها يعيشون فيها. وعلى الرغم من عيشنا تحت مطرقة ما سبق، شعرنا بأن الاحتلال بدأ يدق أبواب كل بيت فلسطيني. وقبل أن نلملم جراح فراقنا الموقت من الأخ الكبير، سرعان ما عاد الاحتلال لاعتقال أخ ثانٍ. حينها جاءت قوات لاعتقاله، لم تكن مؤلفة من جنود الاحتلال أنفسهم الذين داهموا من قبل، لكنها بالنسبة إلينا كانت ذاتها، ولم تختلف على الرغم من تغيير الأشخاص. لا يختلف حامل سلاح مرتزقة عن زميله، ولا يختلف فلسطيني عن فلسطيني كصاحب حق. كل مواطن فلسطيني حتى وإن لم يذق شخصياً طعم الاقتحام والمداهمة والترهيب والاعتقال، فقد ذاق مُرَّها وآلامها والمعاناة التي تتركها، من خلال ما حدث لأحد أفراد أسرته، أو من أي محيط اجتماعي.
بعد مرور بضعة أعوام تم اعتقالي أول مرة من البيت في سنة ٢٠٠٩، ومنذ لحظة الاعتقال ابتدأت مشاعر وأفكار متناقضة ومتسارعة تدور في ذهني. وعلى الرغم من الخوف والتوتر والمفاجأة فإنك في هذه الأثناء لا تملك سوى أن تظهر تماسكك أمام أهل البيت كي لا تقلقهم عليك. دخلت إلى مركز تحقيق الشاباك "المسكوبية" في القدس، وتواصلت التحقيقات مدة خمسين يوماً، وتم التحقيق معي بالأساليب "المعتادة" التي يتعرض لها كل أسير فلسطيني من حرمان النوم والشتم والإهانات والضغط النفسي والتهديدات، حتى وضع الزنازين ومبنى المسكوبية يبثّ شعوراً لدى الأسير بأنه لن يقوى على المواجهة وحده.
تمّ نقلي بعد هذه المرحلة إلى السجن للعيش مع الأسرى، وهناك تعرفت على القدامى منهم الذين مر على اعتقالهم عشرات السنين، وما يفوق عمري، وتعرفت على واقع السجن المرير. وبدأت أتعلم من الأسرى كيف يصنعون الفرح وكيف يواجهون السجان في تحويل هذا الواقع المرير إلى ساحة مواجهة. كما تعلمت كيف تكسر إرادة السجان وتحبط مسعاه لتفريغ الأسير من محتواه الوطني والنضالي والإنساني. كان ذلك بالقراءة والجلسات الثقافية والتثقيف السياسي وممارسة الرياضة بانتظام. كل ذلك كي يخرج الأسير من السجن وهو محافظ على عقله ووعيه وجسمه. تعلمت كثيراً من الأسرى الذين كان لهم الدور الكبير في صقل وتشكيل وعيي وشخصيتي.
خرجت من السجن بعد عامين... ثم عدت إليه، إذ جرى اعتقالي مرة ثانية بعد سبعه أشهر. اقتادوني هذه المرة إلى مركز التحقيق في سجن عسقلان، حيث تواصل التحقيق معي على مدى ستين يوماً. وعلى الرغم من أن ظروف الاعتقال وطبيعته وسطوته كانت نفسها كما في المسكوبية قبل عامين ونصف العام، فإنها كانت مختلفة بالنسبة إليّ؛ إذ استحضرت كل ما تعلمته من الأسرى في هذا الاعتقال وشعرت بالقوة، وبأن الإرادة القوية والواعية تستطيع أن تحصنك أمام العدو. خرجت من زنازين التحقيق فوجدت الأسرى يخوضون معركة الأمعاء الخاوية، فلم أتردد في المشاركة معهم على الرغم من تعب التحقيق.
صهر المشاعر
ظروف الإضراب قاسية جداً. تذهب إليه ولا تملك سوى فرشاة أسنان وغيارَين ومنشفة. أمّا أنا فقد دخلت الإضراب ولم يكن معي سوى ملابس السجن والغيار الذي ألبسه. أمضيت الإضراب وأنا أتقاسم مع الأسير محمد الريماوي منشفته، كان الريماوي مريضاً وأصر على المشاركة في الأضراب. وكان الجزء العلوي من المنشفة له والجزء السفلي لي، يحاول كل واحد منا ألاّ يبلل جزء الآخر، وقد أبرمنا عقداً شفوياً بهذا الصدد وذلك من باب الترفيه الضروري خلال الإضرابات.
كانت أيام الإضراب وساعاته طويلة ومتعبة ومرهقة يسودها هزال الجسد وازدياد القلق والترقّب بانتظار لحظة النصر. وفي الوقت ذاته هي أيضاً أيام دافئة تنصهر فيها كل المشاعر ويتوحد الأسرى بطريقة إنسانية عالية ورفيعة. التقيت خلال الإضراب بأحد إخوتي المشارك في الإضراب أيضاً، وهو لقاء جاء بعد ست سنوات، وعلى الرغم من وجودنا في السجن وظروف الإضراب القاسية، فإنه كان يتعامل معي على أنني الأخ الأصغر، فيغسل ملابسي على الرغم من تعبه، وفي هذه الفترة كنا أربعة أخوة في السجون. وكانت معاناة الأهل في الزيارات لا تقلّ عن معاناة الأسرى بل توازيها وتكاد تكون أقسى... هذه التجربة التي لا مفر منها في ظل وجود الاحتلال فكل فلسطيني كفرد كما كل عائلة عرضة لها، لكنها تجربة غنية ومكثفة، وعلى الرغم من قساوتها، فإنها تعلّم الإرادة والصمود، وتؤكد أن حياة الأسرى وأوضاعهم داخل السجون تستحق مزيداً من الاهتمام لأنهم يجسدون أعلى قيم الإنسانية.