بغض النظر عن الأسباب والظروف التي دعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى إصدار مراسيم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية على التوالي في أيار/مايو وتموز/يوليو المقبلين، وعن التوافق المفاجئ بين القيادات والفصائل الفلسطينية، وخصوصاً حركتي "فتح" و"حماس" على إجرائها قبل إنهاء الانقسام أو حتى التوافق على الإجراءات والقوانين والضمانات التي تكفل نزاهتها وشموليتها واحترام نتائجها، فإن المواطن الفلسطيني العادي لم يكن أمامه إلاّ الترحيب بإجرائها على الرغم من عديد النواقص والمحاذير والشكوك حولها التي كانت ولا تزال، ولا سيما ما آلت إليه التجربة المريرة السابقة، لكن الرهان على أن الانتخابات قد تغير المشهد المقيت.
ولأن الحالة الفلسطينية كانت وما زالت استثناء تكيّفنا عليه، (وليس بالضرورة أن تكون عملية التكيُّف إيجابية،( بفعل عوامل كثيرة وتاريخ طويل وواقع معقد. وفي مقدمة هذه العوامل الاحتلال وعدم إنجاز التحرر الوطني والاستقلال وواقع الشتات الفلسطيني والقدس، يضاف إليها الانقسام وما أفرزه من تداعيات وتأثيرات محلية وإقليمية ودولية أضرت بالقضية الفلسطينية على أكثر من صعيد، ولا أظنها خافية على أحد، إلى جانب العديد من النواقص والتعديلات التي كان من الممكن تلافيها أو تضمينها خلال السنوات الماضية كخفض سن الترشح لإتاحة الفرصة أكثر للمشاركة الشبابية كما تَغَنَّى البعض، أو تطبيق النسبة الأعلى للكوتا النسائية كما أُقر سابقاً، ورفع القيود عن الترشح لفئة الموظفين والاقتراع للموجودين خارج الوطن وغيرها من القضايا الإجرائية التي تعزز الثقة، ناهيك عن الاستجابة لدعوات إنهاء الانقسام وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير لا التراجع عن قرارات مؤسساتها.
وعلى الرغم من ذلك، فالانتخابات وإن كانت محدودة وجزئية تبقى استحقاقاً شعبياً وديمقراطياً ودستورياً ضرورياً لتجديد الشرعيات والمرجعيات المتآكلة. وفي الحالات الطبيعية كان ينبغي أن تجري دورياً، وأن يتم السماح بالمشاركة السياسية الشعبية ولو شكلياً أو جزئياً للخروج من حالة الإحباط والغضب الشعبي الذي وصل حدوداً غير مسبوقة فقد فيها الفلسطيني الثقة بأي إجراءات بما فيها الانتخابات ذاتها للخروج من الوضع المأزوم الذي أوصلنا إليه، ولسان حاله يتساءل عن الجديد الذي حل حتى أصبح إجراء الانتخابات في أيار القادم ممكناً؟ ولماذا فشلت كل المحاولات السابقة على الرغم من عدم حدوث تغيير داخلي يبرر تأجيلها لأكثر من عشر سنوات توقف فيها الزمن الفلسطيني . وثمة من يرى أن السلطتين المتنفذتين والمهيمنتين على جناحي الوطن باتتا تخشيان الانفجار الشعبي في وجهيهما إلى جانب سحب البساط العربي والاستقطاب الإقليمي في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة والجمود الفلسطيني القاتل، فالتقت مصلحتهما لتجديد شرعيتهما وسيطرتهما، وهو أحد السيناريوهات المتوقعة من نتائج الانتخابات إن حدثت.
في الضفة الغربية تريد السلطة إثبات استمرار وهجها كحركة مؤسسة وكبيرة تملك المال والسلطة والوظيفة، وأن الشرعية المتآكلة والرضى العربي والدولي لم ينفدا بعد، وأنها عبر الانتخابات ستستعيد وحدتها الداخلية وعافيتها ولتزيد من تفردها بالقرار والمقدرات والخروج عن الإجماع متى يحلو لها... بينما تستند سلطة الأمر الواقع في غزة إلى إرث سابق بحصولها على أغلبية مفاجئة قبل 15 عاماً ما زال يراود قيادتها، وإلى أن العامل الديني وكاريزما التمسك بالمقاومة المسلحة المحدودة لهما فعالية سحرية وحصانة تبيحان فرض أمر واقع في أي زمان ومكان. فلا حوارات الأحمد- أبو مرزوق كانت عبثية ولا لقاءات الرجوب - العاروري أتت بجديد، لكن الوقائع على الأرض أثبتت لكلا الطرفين أن التفرد والحصانة المطلقة ليسا السبيل الأمثل للحكم أو لقيادة شعب نصفه مشرد والنصف الآخر تحت الاحتلال فضلاً على أنه لا يقاد عن بعد.
أمّا التيارات الديمقراطية والتي لم يبرز لها أي تأثير خلال الأعوام الخمسة عشر العجاف من تاريخ الانتخابات السابقة على الرغم من عدد المبادرات والتقارير التي انتجتها فإنها وبسبب الثنائية الاستقطابية، لم يعد خطابها يستقطب أغلبية المجتمع الحائر، فضلاً عن أن الحراكات الاجتماعية والسياسية والمبادرات والمطالبات الكثيرة ومنها النسائية والشبابية والنقابية ولجان المقاومة الشعبية.. الخ، لم تصل إلى حد التبلور والتحرر من القيود السلطوية، بل مُنعت وقُمعت، يضاف إلى كل ذلك عدم ظهور قيادات شعبية جديدة سواء داخل الأحزاب أو خارجها لتشكل نافذة أمل أو حالة ضغط فاعلة تبشر بأن القادم أفضل.
لكن، وعلى الرغم من عدم إنجاز الكثير من الاستحقاقات التي كان يمكن أن توصلنا إلى أجواء سياسية واجتماعية أفضل لإجراء الانتخابات، فإنه ليس من الحكمة الدعوة إلى تأجيلها حتى تتحقق تلك الشروط والاستحقاقات، لأن الشياطين تكمن في التفاصيل التي كانت سبباً رئيسياً في إطالة أمد الانقسام. وفي رأيي، كما يقال أن تأتي متأخراً، وأضيف إليها وناقصاً، خير من ألاّ تأتي أبداً أو بعد موات سريري.
قد يكون ما سيميز هذه الانتخابات إن أُجريت بنزاهة وصدق واحترمت نتائجها، أن تؤسس لحالة دائمة، يكون فيها نهج الانتخابات الدورية معتمداً، وتسري عدواه على جميع المؤسسات والاتحادات والنقابات، وتفضي إلى التوافق على إعادة انتخاب المجلس الوطني وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية في آب/أغسطس – أيلول/سبتمبر المقبلين بمشاركة كل القوى والفعاليات الفلسطينية وفق برنامج كفاحي وطني مشترك وعلاقات ناظمة متينة تعيد إلى المنظمة والقضية الفلسطينية حضورها في أوساط التجمعات الفلسطينية كافة، داخل الوطن وخارجه أولاً، وفي مقدمة الاهتمام العربي والدولي كما كانت سابقاً للمضي نحو تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في حقه في تقرير مصيره.
في الوقت الذي أحاول الانحياز إلى النصف الآخر من شخصية المتشائل التي أكاد أجزم بأن شعبنا الفلسطيني أصبح يتقمصها ويميل إلى نصفها الأول، أرى أن بارقة الأمل المعقودة على هذه الانتخابات لا يجب أن تخبو ليس في نتائجها المتوقعة لكن في كونها مدخلاً، كما يعلن أصحابها، لإنهاء الانقسام والعودة إلى التوافق بغض النظر عن نتائجها النسبية، لأن تجديد المجلس التشريعي وإعادة إحيائه وإن كان مع الشخصيات والمركبات نفسها، مع بعض تغييرات طفيفة متوقعة من حيث النسب هو أمر جيد بحد ذاته، مع بقاء إمكان تشكل قوى صاعدة إو ائتلافات انتخابية مؤثرة، إذا ما ترافق ذلك مع الإدراك الشعبي لأهمية الرقابة والمحاسبة على أداء الفائزين استناداً إلى برامجهم الانتخابية، التي ستكون كالعادة شعارات عامة عالية السقف في كل المجالات الوطنية والاجتماعية والتنموية، والمطالبة الجادة بإنجاز الإصلاح المنشود. هذا ما سيجعل من عملية توفير الاستحقاقات السابقة أمراً ممكناً، والحؤول شعبياً دون العودة إلى مربع الترهل والتغول والانقسام والفساد ..
وعلى الرغم من عدم وجود الكثير من استطلاعات الرأي التي أُجريت في السابق، والتي من المتوقع أن تنشط في هذه المرحلة، فإن بعض الاستطلاعات يشير إلى اتساع مضطرد في الشريحة التي لا تؤيد أحداً أو لا رأي لها. إذ يشير استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في كانون الأول/ديسمبر الماضي 2020، إلى أن حركة "فتح" ستحصل على 38% في مقابل 34% لحركة "حماس"، فيما ستحصل القوائم الأُخرى التقليدية على 10%، وأن نسبة الـ 18% المتبقية لم تحسم بعد، ويتوقع 23% من المستطلعين فوز قوائم غير معروفة سابقاً، وخصوصاً أن ما يقارب من نصف أصحاب حق الاقتراع بين سن 18-31 (نحو مليون شخص، والرقم مرشح للزيادة إذا ما تم الإقبال على التسجيل) سيمارسون حقهم الانتخابي أول مرة بينما سيحرم أكثر من نصفهم من حق الترشح بفعل عدم تعديل سن الترشح إلى أقل من 28 عاماً كما طالبت به أوساط عديدة، والذي سيجعل استقطابهم للتصويت لهذا الطرف أو ذاك عملية سهلة وليس عزوفهم كما قد يعتقد البعض، وقد يشكلون أداة تغيير إيجابية إلى جانب الصوت العقابي الاحتجاجي الأمر الذي قد يحدث بعض التغيير في الخريطة السياسية.
أمّا بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية فتشير معظم الاستطلاعات ومن ضمنها استطلاع مركز البحوث إلى عدم الرضا عن ترشح الرئيس محمود عباس بنسبة تصل إلى 60%. وبانتظار ما سيسفر عنه اجتماع الأمناء العامين في القاهرة مطلع الشهر القادم، والذي من المتوقع أن يركز على الانتخابات وضرورة ضمان نزاهتها واحترام نتائجها واستكمالها حتى نهايتها المرجوة في إعادة تشكيل المجلس الوطني، تبقى الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات الائتلافية، وخصوصاً ما يشاع عن تشكيل قائمة موحدة، أو الاتفاق على آليات العمل المشترك على قاعدة الشراكة السياسية مهما تكن تلك النتائج.
قد لا يجدي الخوض حالياً في تحليل احتمالات النتائج المتوقعة وردات الفعل عليها داخلياً ودولياً، على الرغم من أهمية أخذ العبر من التجربة السابقة، والأخذ بعين الاعتبار كل التساؤلات والمخاوف المشروعة، وخصوصاً تلك التي يثيرها الشارع الفلسطيني وفعالياته الشعبية قبل المحللين السياسيين، والتي هي في أمس الحاجة إلى ردود ومواقف مسبقة قاطعة وواضحة، ولا سيما أننا ما زلنا بعيدين عن ترف ما يسمى المعارضة أو التداول السلمي للسلطة المفقودة أصلاً، وإنما ما نحتاج إليه هو احترام مبدأ القيادة الجماعية الموحدة استناداً إلى خيارات ديمقراطية ما أمكن، كما يليق بشعب ما زال في مرحلة التحرر الوطني على الرغم من طول أمدها، قدم ولا يزال خلالها التضحيات الجسام، وحافظ على ثقافته وهويته الوطنية على الرغم من كل شيء، واستقطب بصموده وإبداعاته وانتفاضاته تضامناً شعبياً دولياً بديلاً من الهرولة والانحياز الرسمي العربي والدولي إلى الواقع المتفوق لنظام الاحتلال الذي كسب الزمن لمصلحته مع توقف الزمن الفلسطيني منذ خمسة عشر عاماً.