صادف الثامن من الشهر الجاري (كانون الأول/ديسمبر) الذكرى الثالثة والثلاثين لانتفاضة الحجارة، في ظل تنامي الاهتمام بحفظ الأرشيف الفلسطيني في حالة لم تشهدها الساحة الفلسطينية من قبل، وازدياد الندوات والمحاضرات، بل والمؤتمرات التي تناقش موضوع الأرشيف الفلسطيني من جوانبه كافة، وملاحظة تعاظم الاهتمام الفردي والمؤسساتي الذي ينبع من إدراك أهمية دور الأرشيف في تشكيل الرواية والهوية الوطنية للشعوب ولا سيما المستعمرة منها، ومساهمة هذه الأرشيفات في خلق رواية مضادة تفضح الممارسات الاستعمارية ضد الشعوب المستعمرة من خلال تدعيم مفهوم الهوية الجمعية وإبراز مكوناتها ورمزيتها الكامنة في الذاكرة الجمعية.
جندي اسرائيلي يمسك شاب فلسطيني، خلال مواجهات بين شبان وجنود الاحتلال في نابلس وسط البلد، 1995، تصوير أسامة السلوادي
في الحالة الفلسطينية سعى الفلسطينيون لاستخدام جميع الوسائل المتاحة لتوثيق نضالاتهم ضد الاحتلال الإسرائيلي بما فيها التصوير الفوتوغرافي. كانت البداية سنة 1968، عندما بدأت المصورة الفلسطينية سلافة سليم جاد الله (أول مصورة سينمائية في العالم العربي) بتأسيس قسم التصوير الفوتوغرافي لتوثيق أحداث الثورة الفلسطينية التي اقتصرت في البداية على صور الشهداء. وضم هذا القسم بالإضافة إلى سلافة جاد الله كلاً من المصور هاني جوهرية والمخرج مصطفى أبو علي. وقد وسّع ثلاثتهم دائرة عملهم ليشمل التصوير السينمائي وليشكل نواة لمؤسسة السينما الفلسطينية التي تأسست في منتصف سبعينات القرن الماضي.[1]
في فلسطين بدأت مهمة التصوير الفوتوغرافي تتطور لتأخذ طابعاً صحافياً مع بداية انتفاضة الحجارة التي انطلقت سنة 1987، حين كان عدد المصورين الفلسطينيين آنذاك محدوداً بحسب ما أطلعني المصور الفوتوغرافي الفلسطيني أسامة السلوادي،[2] الذي كان يعمل آنذاك مراسلاً لوكالة رويترز للأنباء، وأكد أن معظم المصورين الذين وثقوا الانتفاضة الأولى هم من الذين عملوا كمرشدين للمصورين الأجانب الذي قدموا إلى فلسطين من مختلف بقاع الأرض، وكانوا بحاجة إلى مساعدين لإرشادهم على القرى والبلدات التي تندلع فيها المواجهات، ثم تحول هؤلاء المصورون إلى العمل الصحافي المحترف الذي يهدف إلى توصيل الرواية والصورة الفلسطينية بأعين أصحابها. وأضاف السلوادي: "كنا نرسل الصور إلى وكالات الأنباء التي كانت تكتفي فقط بالحصول على ثلاث صور للحدث الواحد، مقسمة كصورة رئيسية وصورة التقطت قبلها وأُخرى بعدها، ثم تتلف ما تبقى من صور.[3]
في ذكرى الانتفاضة الأولى لا بد من الإشارة إلى أهمية حفظ وتوثيق كل ما يتعلق بهذه التجربة النضالية الفريدة من نوعها من حيث أدواتها، وجماهيريتها، وانتشارها والدور البارز للنساء فيها. وفي هذا الإطار لا بد من أن نشير إلى تجربتين تهدفان إلى حفظ جزء من تاريخ هذه المرحلة النضالية التي لم تحظ بالتوثيق اللازم لعدة عوامل كانت مرتبطة بخصوصية تلك المرحلة؛ فالتجربة الأولى متعلقة بمشروع تحت التنفيذ يعمل عليه مركز السياسات ودراسات حل الصراع في الجامعة العربية الأميركية، بدعم من مشروع إيراسموس، إذ يقوم المركز بجمع الأرشيف الفوتوغرافي للانتفاضة من صحافيين عملوا لحساب وكالات أنباء أجنبية في ذلك الوقت، وقد اقتصر العمل الصحافي حينها على وكالات الأنباء الأجنبية بسبب القيود الإسرائيلية على الصحافة الفلسطينية ومنع وجود إذاعات محلية. وعليه ازداد اهتمام المحطات الإعلامية الأجنبية بأحداث الانتفاضة مع بداية سنة 1989 بعد أن أثبتت هذه الانتفاضة شعبيتها واستمراريتها وهو ما أكسبها بعداً دولياً واهتماماً إعلامياً. وكان العمل الصحافي المتعلق بتغطية أحداث الانتفاضة الأولى خلال تلك الفترة صعباً وخطراً، وهذا ما أكده المصور المكسيكي كيث دانيميلر، أحد المصورين الأجانب الذي كان يعمل لدى وكالة أنباء مكسيكية، وعلّق دانيميلر أن كلا الطرفين، أي، قوات الاحتلال الإسرائيلية وشباب المقاومة لم يكونا سعيدين لتغطيتنا الأحداث الدائرة لأسباب مختلفة؛ فالاحتلال لا يريد فضح ممارساته على الساحة الدولية، بينما نظر إلينا شباب المقاومة بعين الريبة والخوف من احتمال أن نكون عملاء للاحتلال "كأجنبي أبيض مع كاميرا" بحسب وصفه. الشيء الجيد هو أن المتظاهرين في الشارع عادة كانت وجوههم مغطاة بكوفية، لذا فإن التعرف عليهم من الصورة كان صعباً، وكان هناك قاعدة متعارف عليها بين المصورين، ذلك بألاّ يتم التقاط صورة لشخص ما من دون تغطية وجهه. ويضيف دانيلمير "طلب مني الحاكم العسكري عدة مرات التوقف عن التصوير، وتعرضت للاعتقال والترهيب ومصادرة الأفلام والكاميرات بحجة تصوير مواقع حساسة أمنياً."[4]
من جهته استطاع الصحافي المقدسي محفوظ أبو ترك الذي لقب "بالأرشيف الذي يمشي على قدميه" إذ كان يتجول في شوارع مدينة القدس حاملاً حقيبته التي تحتوي على الصور وكاميرته متأهباً لتغطية أي حدث قد يطرأ فجأة، فالمواجهات كانت شبه يومية في شوارع مدينة القدس، وكان الشبان يبحثون عن أبو ترك ويرشدونه إلى مناطق المواجهات ليذهب لتغطيتها بصفته مراسلاً لعدة وكلات أنباء دولية. وأفاد أبو ترك أنه حفظ أغلبية المواد التي قام بتصويرها على الرغم من أن الثقافة التي كانت سائدة آنذاك هي ثقافة حذف وليس حفظ، ذلك خوفاً من تقديم دليل للاحتلال ضد أفراد المقاومة، وهو ما عرضه في كثير من الأحيان للمسائلة والضرب من أفراد الشرطة الإسرائيلية، التي كانت تنتشر بكثافة في شوارع مدينة القدس،[5] وهذا ما أكده أيضاً المصور جمال العاروري، حين بلغني أن ردة الفعل الأولى للمصور عند الشعور بالخطر من اقتراب قوات الاحتلال الاسرائيلي هي حرق "نيغاتيف" الفيلم لتبديد الفرصة عليهم بالحصول على أي معلومات قد تخدم مصالحهم. وأضاف العاروري أن قوات الاحتلال كانت تمنع نشر أو تصوير ممارساتهم ضد الجماهير الفلسطينية الثائرة سلمياً، لذا تعمد أفرادها تدمير كاميرات المصورين في كثير من الأحيان، أو الاعتداء بالضرب عليهم، ومحاولة مصادرة كاميراتهم. ومن إحدى الروايات الطريفة التي أخبرني إياها أنه كان يتفق مع فتاة فلسطينية من المشاركات في التظاهرات بأن يسرب لها الفيلم في حال تعرضه للاعتقال أو التهديد لتحافظ عليه خوفاً من مصادرته، أمّا إذا لم ينجحوا في تسريبه فكانوا يحرقونه أمام أعين عناصر الجيش وهو ما كان يستفزهم فيباشرون في الاعتداء على المصورين وضربهم.[6]
جندي من حرس الحدود يعتقل طالب مدرسة وسط رام الله خلال مواجهات مع قوات الاحتلال الاسرائيلي، 1993، تصوير أسامة السلوادي
تعكس الصور الفوتوغرافية التي يتم جمعها حالياً الوحدة الجغرافية التي كانت تجمع بين الضفة الغربية وقطاع غزة بالإضافة إلى القدس في أثناء انتفاضة الحجارة، إذ كانت عملية التنقل حينها بين القدس ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة ممكنة وأكثر سهولة على الرغم من حواجز الاحتلال المقامة على مداخل هذه المدن. كما تعكس تلك الصور طرق التواصل التي كانت متبعة آنذاك، ومن أبرزها البيانات التي كانت تصدرها القيادة الموحدة للانتفاضة، والكتابات التي كانت تُكتب على الجدران والتي اعتبرها العاروري "جريدتنا اليومية التي كنا نتصفحها لمعرفة آخر التطورات والأحداث المرتقبة." كما تسلط الصور الضوء على الحس الجمعي والجماهيري الذي عكس جميع أطياف الشعب الفلسطيني. وتجدر الإشارة إلى محاولتي البحث عن مصورين من قطاع غزة عملوا على توثيق الأحداث هناك، لكنني لم أوفق في ذلك، أمّا الصور الفوتوغرافية التي توثق الانتفاضة في قطاع غزة فقد قام بها صحافيون أجانب منهم المصور الفرنسي ألفريد يعقوب زاده صاحب الصورة المشهورة لسيدة من مدينة بيت ساحور تحمل فردة حذائها في يد وتمسك في اليد الأُخرى حجراً لترميه على قوات الاحتلال بالإضافة إلى الصحافي محفوظ أبو ترك.
التجربة الثانية التي لا بد من الإشارة إليها كانت صدور كتاب حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان "انتفاضة 1987: تحوّل شعب"، الذي يستند إلى أوراق ومداخلات وشهادات قُدمت في مؤتمر بعنوان "انتفاضة 1987: الحدث والذاكرة". يقدم الكتاب قراءات للانتفاضة من وجهات نظر متعددة ورؤى متكاملة تستند إلى أوراق ومداخلات وشهادات مجموعة من المتحدثين الذي ساهموا بأوراقهم في المؤتمر المذكور. وقدم المساهمون شهاداتهم عن أحداث كانوا هم جزءاً منها، في محاولة لمحاكاة ماضٍ وذاكرة ما زالت حية، من خلال وضعها في بيئتها التاريخية، والجغرافية، والوقوف على الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه الظاهرة الجماهيرية الفريدة من نوعها بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية بالإضافة إلى الاقتصادية. ويهدف هذا الكتاب من وجهة نظري إلى إعادة إنتاج التاريخ واستحضار ما أمكن من مكوناته، لتعذر استحضاره بشكل كامل كما أفاد دكتور روجر هيكوك في خاتمة الكتاب.[7]
من خلال عملية البحث عن الصور التي هي مرآة لأحداث الانتفاضة الأولى وجدت بعض المحاولات للصحافيين الأجانب لتوثيق حكاياتهم وتجربتهم، وهذه المحاولات تمتاز بأنها تجارب فردية تعكس رؤية أصحابها. أمّا على المستوى الفلسطيني فأعتقد أن توثيق ذاكرة انتفاضة الحجارة ما زال يحتاج إلى المزيد من الجهود التي يجب أن تعمل متحدة على تنظيم هذا الجهد الجمعي، الذي يعكس وعياً مؤسساتياً أصبح أكثر نضجاً ووضوحاً تجاه موضوع الذاكرة والأرشيف، ودورها الرئيسي في الحفاظ على الهوية الفلسطينية موحدة وقوية في مواجهة كل الاضطرابات التي تعصف بها.
[1] خديجة حباشنة،
https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=46106d3y73467603Y46106d,2008
[2] أسامة سلوادي ، مقابلة، 10/1/2020.
[3] المصدر نفسه.
[4] Keith Dannemiller, interview, Email, 25/7/2020.
[5] محفوظ أبو ترك، مقابلة شخصية ،16/3/2020.
[6] جمال عاروري، مقابلة شخصية، 22/3/2020.
[7] روجر هيكوك، وعلاء جرادات، "انتفاضة 1978: تحوّل شعب" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020).