هذا هو عنوان الكتاب الصادر عن حركة التحرير الوطني الفلسطيني – "فتح"، الذي كتبه الأسير راتب حريبات.*
إنه ليس مجرد كتاب بل هو شهادة المُطّلع بشكل مباشر على أوضاع الأسرى المرضى الذين يعانون أمراضاً مزمنة وعاهات أصيبوا بها سواء خلال اعتقالهم أو في التحقيقات أو في المواجهات مع الاحتلال.
إنه شهادة حية عما يطلق عليه مستشفى الرملة أو "المركز الطبي القطري لمصلحة السجون (ماراش)" القائم داخل مجمع معتقل الرملة المركزي ومركز مصلحة السجون. إنه شهادة على الوضعين الجماعي والفردي. ولكل أسير فيه قصة عذاب، وسننشر في هذا السياق شهادتين عن الأسيرين موقدة والشاويش، ونترك للمعنيين والمعنيات قراءة الكتاب بكامل قصته وحيثياته.
يكتب راتب حريبات من سنوات تجربته، يصف ما رآه وعايشه وما تعجز الكلمات أحياناً عن وصفه، إنه يصف الألم والمعاناة وطبيعة الأوجاع الملازمة للمرضى من الأسرى بلا تنميقات ولا رتوش، بل يقدمها كما هي كي يعرفها الجميع ولا يبقى لأحد المجال ليقول: لم أكن أعلم! والسؤال ماذا نفعل بعدما بتنا نعلم؟ أي أن الشهادات ليست من أجل ذاتها بل لأجل هؤلاء الأسرى الذين أصبح حلمهم وطموحهم في الحياة هو القدرة على دخول الحمّام بقواهم الذاتية، بعد أن كان تحرير وطن وشعب!
تسنى لي في سنوات السجن الأخيرة أن أقيم أشهراً عديدة مع راتب حريبات في الحجرة ذاتها في سجن الجلبوع، وكنت محظوظاً في ذلك. كان يحدثنا عن تجربته حين تطوع في خدمة الأسرى المرضى والمصابين، وجدير بالذكر هنا أن مفردة مرضى لا تفي بالوصف، إذ إن أغلبيتهم أصيبوا بالمرض بسبب الإهمال الطبي في السجون، أو نتيجة إصاباتهم في المواجهات قبل اعتقالهم أو خلال التحقيق. كان الهدوء يخيم ونحن نستمع إلى "قصصه"، عن وضع هؤلاء الأسرى وعن دوره، وأعترف بما اعترفت به لراتب حينذاك بأنني أعتقد أنني لا أملك القدرة النفسية على القيام بما قام به. فالتطوع لمساعدة الأسرى المرضى فترة متواصلة هو مهمة شبه مستحيلة، ويستحق من يقوم بها التكريم والتقدير غير المحدودين، سواء من الأسرى أو من الشعب وقياداته ومؤسساته.
من مقدمة الأسير ياسر أبو بكر
في مقدمة الكتاب يكتب زميل المؤلف المقرّب الأسير المثقف والقيادي وأحد أركان الحركة الأسيرة ومشروع التعليم الجامعي في السجون ياسر أبو بكر عن طبقات العذاب المتراكمة في الحياة الاعتقالية للأسرى المرضى، ويتحدث عن تطوّع الأسير راتب طوال أربع سنوات بالإقامة مع الأسرى المرضى وخدمتهم بأمانة لا توصف. يقول الأسير أبو بكر:
"أن تقضي أربع سنوات من عمرك في سجون الاحتلال فهذا كثير وكثير جداً، وخاصة أنها سجون عدوك الذي يقضي جلّ وقته محاولاً التضييق عليك وقتلك ببطء وتحت عنوان الإهمال الطبي، وهو الاسم الذي يخفي بين طياته الاسم الحقيقي له، وهو الاغتيال وليس الإهمال.
"لكن أن يرافق هذه السنين الأربع أن تكون في عيادة سجن الرملة فترى الآلام والمعاناة في عيون الأسرى المرضى كل يوم ... فهذا عذاب فوق عذاب فوق عذاب.
"عذاب السجن وعذاب مشاهدتك الاغتيال البطيء للأسرى المرضى. وعذاب عدم قدرتك على إنقاذهم."
راتب حريبات – توقّع مستشفىً فوجد سجناً بأوضاع أسوأ من السجن
يكتب راتب حريبات في توطئته للكتاب: "كنت أظن كما يظن الجميع حينما يسمع بمسمى مستشفى أن يتبادر إلى الذهن بأنه يوجد كل ما هو موجود في المستشفيات العادية، وذلك من أطباء وأسرّة وممرضين مختصين وأجهزة طبية، وكل ما يحتاجه المريض حينما يكون في مستشفى من أجل تلقي العلاج.
".. حينما أبلغوني بأنني ذاهب إلى مستشفى الرملة، للقسم الذي يتواجد فيه الأسرى المرضى الفلسطينيون (الأسرى الأمنيون) من أجل تلقي العلاج، والمفترض أن يكون بكل دقة مهنية تتناسب وأحوال المرضى.
"لكن في اللحظة التي دخلت بها إلى القسم الخاص بالمرضى الأسرى، فوجئت بل يمكنك أن تقول صعقت، فإذا بالقسم هو قسم عادي مثل باقي أقسام السجون الأُخرى، التي يتواجد فيها الأسرى الفلسطينيون. نفس الغرف ونفس مناظر السجانين الذين يحيطون بالقسم، بل إن الحراسة والتشديد على هذا القسم أكثر من الأقسام العادية في باقي السجون، حتى الإجراءات التي تقوم بها مصلحة السجون متمثلة بالاستخبارات وضباطها ضد الأسرى بشكل عصبي موجودة أيضاً هنا بشكل متشدد للغاية."
ما هو "الأبيض"؟!
يواصل الأسير حريبات سرده ويكتب في تبيان "الأبيض":
".... فماذا عن الطبيب؟ كان باعتقادي أن الطبيب الذي يعالج الأسرى المرضى هو طبيب يلبس زي الطبيب على الأقل! لكن الحقيقة أن البدلة التي يرتديها طبيب القسم هي رداء ضابط مصلحة السجون، وهو يرتدي لباس الشرطي وليس لباس الطبيب أو الممرض أي اللباس الأبيض أو الأخضر.
"تساءلت لماذا لا أرى الأبيض أَلأنه رمز النقاء والبراءة والتسامح وتقبّل الإنسان كما هو؟ أم لأن القلوب البيضاء لا يمكن أن تتمثّل في من هم جنود وضباط همّهم الأول قتل أو تدمير أو تعذيب المناضلين وازدرائهم؟ حتى في هذا المسمى المستشفى لا أرى فيه الأبيض وهذا لربما مرتبط بنور الصباح الذي لا تراه مشرقاً ساطعاً هنا أو في كل المعتقلات أبداً.
طبيب في النهار ومشارك في قمع الأسرى ذاتهم في الليل!"
يكشف راتب حريبات حقيقة الوظائف المتناقضة التي يقوم بها الطبيب والقسم الطبي في السجون، وينقل الصورة بتفصيلاتها.
"هذا الذي يقوم بتقديم العلاج للأسير هو الذي يغلق الأبواب، هو ذاته الذي يقوم بعملية التفتيش الليلية المهينة والمقلقة، وكذلك هو مَن شارك في عملية القمع التي تقوم بها مصلحة السجون ليلاً ونهاراً.
"إن القسم الطبي، .. هو من نفس المواصفات في الأقسام والغرف في المعتقلات والزنازين. الغرف هي ذاتها والجدران نفسها تماماً، حتى اللون الأزرق الذي تدهن به أبواب السجون، وكذلك الأبراش هي نفسها ولا يختلف في شيء عن السجون كلها. نفس الحالة التي يحكمها سجان حاقد يمارس القهر والظلم وكل أساليب التعذيب والإذلال ضد الأسرى المرضى.
"الأسرى الفلسطينيون المرضى من ذوي الحالات الصعبة والذين بينهم من لا يقوون على الحركة (المشلولين)، يتم تقييدهم متى شاء الأطباء بالكلبشات الحديدية باليدين والقدمين، لا فرق عن الأصحاء! وكأنهم حيوانات متوحشة، ويتم ربطهم بالأبراش (الأسرّة)، ولك أن تتخيل حالة ومشاعر المريض مقيد القدم واليد ولا يستطيع الحركة لا يمنة ولا يسرة!
"... قد لا أبالغ حين أصِف الطعام الذي يأخذه المرضى بأنه أقل بكثير من نسبة الدواء الذي يتناوله المريض. حتى القيمة الغذائية في الطعام فهي قليلة جداً.
"لا يوجد مكان مخصص كمطبخ من أجل طهي الطعام، حيث يتم ذلك في الساحة ويكون عرضة للتلوث، ولهجوم الجراثيم المنتشرة في الهواء صيفاً وشتاء."
ثم ينتقل حريبات ليصف صدمة نقل الأسرى المرضى في حافلة الأقفاص البوسطة، فيكتب: "عملية نقل الأسير المريض بحد ذاتها تتم ببشاعة! بل وتتم والأسير في أسوأ حالاته الصحية. ما يدلل على تعمّد زيادة الألم والوجع والمعاناة، وحتى وإن كان الأسير المريض مقعداً أو حتى لو كان فاقداً للوعي، فإنه يتم نقله بواسطة سيارة عادية مقاعدها من الحديد وليس بواسطة سيارة إسعاف مجهزة، ويكون في هذه الحالة مقيد اليدين والرجلين بالطبع، .. وفي مثل هذا النقل البشع والمرهق تزداد آلام المريض وقد يسقط عن المقعد بسبب سرعة السيارة."
قصتان من كتاب "لماذا لا أرى الأبيض"
الأسير المقعد منصور موقدة والحمّام
"الأسير المقعد الجريح منصور موقدة المحكوم بالسجن المؤبد، يعاني من إصابته الحرجة منذ تاريخ اعتقاله عام 2002.
"إنه من سكان قرية الزاوية في محافظة سلفيت، وكان يحدثني بألم يفوق الوصف ويقول لي: أتمنى من الله أن أستطيع دخول الحمام من أجل قضاء حاجتي. فهذا كل ما أتمناه بالحياة!
"كان يحدثني أنه لم يتمنَ أن يُفرج عنه، أو أن يرى إشراقة الصباح الجميل على أشجار الزيتون في سلفيت، أو أن يرى أو يتذوق البرتقال ولذيذ الفاكهة الفلسطينية في حيفا ويافا والرملة ورام الله والخليل ونابلس وبئر السبع والناصرة!
"ولم يتمنَ أن يذرع الأرض جيئة وذهاباً ليقبّل تراب فلسطين. ولم يتمنَ رؤية الأحباب والأصحاب خارج القفص! ولم يتمنَ ولو للحظة أن ينظر إلى وجه تلك التي استقرت في عمق قلبه لفترة جعلت من القسوة طراوة، كما لم يتمنَ لمسة يد أجمل الأمهات!
"ولم يستطع أن يتمنى أكلة المقلوبة من يدي والدته، ولا رؤية بشاشة وجه أبيه، كما لم يستطع أن يتمنى شرب الماء البارد في حر يوم قائظ! ولم يتمنَ الاستمتاع بقضم حبات الكرز، أو أكل البطيخ الشهي، أو العنب الخليلي الحلو، فالكثير من الأمنيات التي يتمناها المعتقلون عندنا لم تكن بأولوية لديه، رغم أنها في منطقة الأمنيات وربما الأحلام ... واقتصرت أمنيته المبتورة على السير أو المشي لقضاء الحاجة!
"هذه أمنية أسير متألم يقبع في مقصلة الرملة بعد أن أمضى السنين الطوال داخل الأسر، إنه يتمنى فقط أن يدخل الحمام لوحده."
خالد الشاويش يصرخ
"خالد الشاويش الأسير المحكوم بالمؤبدات من سكان جنين، مخيم الفارعة مصاب منذ عام 2002 ومعتقل منذ عام 2006 هو شخص مقعد على كرسي لا يستطيع الحركة، يمضي أكثر من 72 ساعة على البرش (السرير) ولا ينزل عنه حتى إلى الحمام، إلاّ بعد مرور ثلاثة أيام أو أكثر مضطراً لقضاء حاجته أو للاستحمام! وهو أعانه الله وأعاننا جميعاً يمضي الوقت ما بين النوم بعد تناول الدواء الذي هو نوع من المخدرات بجرعة (120 ملغم)، والصحو القليل المؤلم.
"خالد يعاني الآلام المبرحة على مدار 24 ساعة، وساعات أو دقائق قليلة يكون بها خارج منطقة الوجع، فلا يتألم بعد تناوله المسكنات، لفترات وجيزة.
"كنت أتمنى له أن يقف على قدميه ... لكن!
"خالد الشاويش كتلة بشرية كبيرة مجبولة على المعاناة والصبر رغم كل الأوجاع والآلام التي تترجمها الصرخات اليومية المفزعة في هذه المقصلة الطبية التي غاب فيها اللون الأبيض وتحولت الجدران والقلوب إلى لون الرماد أو سخام طابون جدتي.
"نعم هي الحكايات الصعبة التي تسجل في محطات البطولة والطفولة والرجولة معاً... مع هؤلاء الفرسان الذين كنت أطلق عليهم مسمى "أبطال السكاكين" من باب المداعبة! لقد صنعوا قصصاً من الصبر والألم، وبشائر النصر القادم على فلسطين والأمة بصبرهم وصمودهم وتحديهم لهذا المحتل الغاشم، المجرد من كل ذرات الإنسانية."
* الأسير راتب حريبات من بلدة دورا – الخليل. يدخل عامه التاسع عشر من حكم بالسجن لاثنين وعشرين عاماً لدوره في كتائب شهداء الأقصى خلال الانتفاضة الثانية. نال في السجن شهادة البكالوريوس في التربية من جامعة القدس المفتوحة وشهادة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة القدس، وهو أسير قيادي وضمن طاقم التدريس الجامعي في السجون.