عمال المياومة: الحرب على لقمة العيش أشد فتكاً من الفيروس
Date:
1 octobre 2020
Auteur: 

قبل نحو شهر من الآن كانت جولة واحدة لمدة نصف ساعة على أبعد تقدير داخل سيارة أجرة في شوارع قطاع غزة، كفيلة بأن تعكس لك هموم المجتمع بأكمله.. الفقر، البطالة، تقليص المعونات، تراجع مستويات الدخل، إلخ.   

لكن الأمر أصبح مختلفاً، خفتت أبواق سيارات الأجرة والناس صاروا يقطعون عشرات الكيلومترات سيراً على الأقدام نتيجة فرض حظر التجوال في كثير من المناطق بسبب تفشي جائحة كورونا.

توقفت زحمة الأسواق والمحال التجارية، وأقفلت البقالات وسُدت الطرق في وجه عربات الخضروات التي تجرها الحمير، وصارت الحلاقة في بعض الأحياء ضرباً من الماضي، حتى أكشاك القهوة أوصدت. صوتان مسموعان الآن في غزة بوضوح، أبواق مركبات الشرطة وشكاوى (عمال المياومة) البالغ عددهم 160 ألفاً

تتجه أنظار الحكومة التي تديرها حركة "حماس" في قطاع غزة، إلى معالجة الوضع الصحي الناتج من الجائحة اعتماداً على خلايا أزمة مشكلة من القطاعين الطبي والأمني، غير أنه حتى كتابة هذه الأسطر لا توجد جهود رسمية لتجاوز الأزمة الاقتصادية التي سببها تفشي الفيروس.

وتفيد نقابة العمال في قطاع غزة، بأن خسائر هؤلاء العمال خلال الأيام العشرة الأولى من الإغلاق قدرت بنحو 27 ــ 29 مليون دولار، وهذا يعني أن مستويات الفقر والبطالة قفزت خلال الشهر الماضي إلى مستويات غير مسبوقة. مع العلم بأن قطاع غزة يعاني أصلاً في ظل حالة الحصار القائم، ارتفاعاً مستمراً في معدلات البطالة، إذ بلغت نسبتها في صفوف الشباب 68%، وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، في حين يعتمد أكثر من 80% من السكان على المساعدات الإغاثية المقدمة من الجهات الدولية والمانحة.

يدرك الفلسطينيون المحاصرون في قطاع غزة أن لا شيء يُقدم لهم على طبق من ذهب، لهذا اضطر بعض أرباب الأسر الذين يعملون بأجور يومية إلى اختراق الحظر، بحثاً عن قوت يومهم، وهذا ما عرّض العشرات منهم للإيقاف داخل المقرات الأمنية مدة أربعة وعشرين ساعة، وبعضهم قيدت في حقه غرامات مالية، بحسب إفادة مصادر في جهاز الشرطة. 

ويصر المتضررون من الأزمة على قول جملة واحدة: "المسؤولون لا يعون حجم الضرر".

في الحقيقة هذا قول صائب، لأن من يملك أن يضع خططاً أمنية وصحية وعياً بخطورة الأمر، لهو قادر على وضع خطة اقتصادية ولو في الحدود الدنيا، على شاكلة توفير سلال غذائية للأسر الفقيرة والمعوزة، غير أن هذا لم يتحقق إلاّ على المستوى الإنساني الخيري لا الحكومي.

وحين تتداعى الأصوات المنددة باختراق العمال حظر التجوال بداعِ أنه (لم يسبق أن مات أحد جوعاً)، يطرح عمّال المياومة سؤالاً مهماً: عندما تصبح الثلاجة مجرد صندوق فارغ كيف سنستطيع أن نملأه بالأطعمة ونحن سجناء المساكن؟  

في الواقع المسألة غير متعلقة فقط بفكرة الضرر الاقتصادي الناجم عن الجائحة وتداعيات ذلك على الحياة المعيشية لعمال المياومة الذين يعجزون عن توفير قوت أطفالهم، وإنما ترتبط أيضاً بتبعات اقتصادية أُخرى كالعجز عن سداد الديون، وعدم الإيفاء بدفع إيجارات المساكن والمحلات، وهذا طبعاً بفعل عجز البرامج الحكومية عن حمايتهم من مزيد من الفقر والتهميش.

وهنا لا بد أن نتنبه إلى أمر مهم، أن استمرار الأجهزة الشرطية في مضاعفة إجراءات الإغلاق وتقييد الحركة، من المحتمل أن يزيد قضايا التعثر المالي في القطاع، وخصوصاً إذا ما أُخذ في الحسبان أن الجهات القضائية قد استقبلت قبل ظهور جائحة كورونا 44 ألف قضية متعلقة بذمم مالية خلال السنة الماضية 2019، في مقابل 39 ألف قضية في 2018، وهذا يعني بديهياً أن الأرقام مرشحة للزيادة في ظل تضخم نسب الفقر والبطالة خلال العام الحالي.

ومن الأهمية بمكان التأكيد أن إجراء منع عمال المياومة من ممارسة العمل في ظل تزايد الحاجات اليومية للأسر، يتعارض مع الحق في العمل، والذي يضمن وفقاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حق كل فرد في أن يتاح له إمكان كسب رزقه، وتقوم الدولة باتخاذ التدابير المناسبة لصون هذا الحق. 

ولضمان تقليص حجم الخسائر الناتجة من الإغلاق، يتعين على الحكومة في غزة أن تبدأ بوضع خطة للعودة بالتدريج إلى الحياة الطبيعية وبشكل آني وسريع، على اعتبار أن المعركة مع الجائحة طويلة وربما تمتد أشهراً، ولا يعقل أن تستمر معاناة- 160 ألف عامل يعيلون أكثر من 480 ألف مواطن بمتوسط عدد (3 أفراد) في الأسرة الواحدة- أكثر من ذلك.

كما لا بد من أن تطغى أصوات أهل الاختصاص (اقتصاديون، غرف تجارية، شركات)، ذات القدرة على الإقناع بأهمية الموازنة بين الصحة والاقتصاد، نظراً إلى الترابط الكبير بينهما، ولا سيما أن الإغلاق لم يعطل عجلة الاقتصاد فحسب وإنما أثر في مناحي الحياة كافة، الأمر الذي يرجح احتمالات زيادة معدلات العنف الأسري ومستوى الجرائم، وهذا في حد ذاته يضعف قدرة المجتمع على مواجهة الجائحة.  

إلى جانب ذلك، يحتاج عمال المياومة إلى نقابة عمالية ذات قدرة ونفوذ على إيصال صوتهم إلى المسؤولين، من أجل الحؤول دون تدهور أحوالهم من العيش على الكفاف إلى الجوع.

وإذا كان لا بد من خاتمة للمقال، فلا أجد أعمق من طرح السؤال التالي: في بلد يتمدد فيه الفقر كما يتمدد ثعبان في الرمل، هل يوجد مستقبل؟