خمسون عاماً مرت على وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. في 28 أيلول/سبتمبر 1970 توقف قلب الزعيم العربي بعد أيام مرهقة، وقمة عربية طارئة دعا إليها الزعماء والقادة العرب لمناقشة أزمة أيلول الأسود. وبعد جهود مضنية بذلها من أجل التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، انتهت أعمال القمة، وودع عبد الناصر آخر الزعماء العرب قبل أن يودع الحياة مساء ذلك اليوم. ربما لم تكن مصادفة!!
بعد شيوع خبر الوفاة، امتلأت شوارع معظم العواصم العربية بجماهير باكية حزينة، بينما ارتاح كثير من زعماء العالم، وعلى رأسهم إسرائيل.
وبغض النظر عن ألقابه: الزعيم، القائد، بطل العروبة، بطل الوحدة، زعيم الأمة العربية ... وغيرها... فهو جمال عبد الناصر، رئيس عربي، شكل ظاهرة تاريخية فريدة، واستطاع بكاريزما غير عادية أسر قلوب جماهير عربية عطشى لقيادة من هذا النوع على مدى الوطن العربي.
***
محطات في حرب فلسطين
كان لفلسطين نصيب كبير في حياة جمال عبد الناصر، فقبل حركة الضباط الأحرار، وثورة 1952، كان الضابط المصري حاضراً في حرب فلسطين وشاهداً على نكبتها، ولنكن أكثر تحديداً، كان شاهداً على تقاعس الأنظمة، وبطولة الجند.
في بداية حزيران/يونيو 1948 وصل عبد الناصر إلى فلسطين ليلتحق بوحدات الجيش المصري في منطقة غزة، بعدما اتخذ القادة العرب قرار الحرب قبل أسبوعين فقط من نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين في منتصف أيار/ مايو 1948!
تسلّم عبد الناصر قيادة الكتيبة السادسة مشاة في رفح، قبل أن يتنقل في عدة مواقع أُخرى انتهت في الفالوجة. وشاءت الصدف أن يصل فلسطين قبل أسبوعين تقريباً من إعلان الهدنة الأولى في 11 حزيران/ يونيو 1948. وبخبرته العسكرية، تكشف يومياته عن الحرب شكوكاً كبيرة بشأن ما كان يجري على أرض المعركة، فيعبّر عن حيرة وغضب:
"لم يكن معقولاً أن تكون هذه حرباً. لا قوات تحتشد. لا استعدادات في الأسلحة والذخائر. لا خطط. لا استكشافات ولا معلومات.... هي إذن حرب ولا حرب. تقدم بلا نصر. ورجوع بلا هزيمة. هي حرب سياسية فقط ...."[1]
في يومياته أيضاً، فخر ببطولة الجنود المصريين والعرب واستبسالهم في القتال ضد العصابات الصهيونية، وحكايات عن معارك وشهداء وعلاقات بسكان القرى وجلسات نقاش سمر تحت سماء فلسطين، وبين السطور نقمة واستهجان وسخرية من قرارات قيادية ساهمت عن قصد أو غير قصد بالهزيمة.
أُعلنت الهدنة الأولى، فالتزم العرب بها، وأوقفوا كل الأعمال العسكرية، بينما، في الجهة المقابلة، لم يلتزم الإسرائيليون، بل واصلوا تعزيز قواتهم استعداداً لاستنئناف المعارك وذلك على مرأى من الجميع.
ويصف عبد الناصر حالة الهدنة الغريبة في يومياته:
"كان حالنا قبل الهدنة حرباً ولا حرب. وبعد أن عقدت الهدنة تطور حالنا إلى سلام بغير سلام. وكان هناك شعور عام على خطوطنا بأن القتال لن يستأنف مرة أُخرى، كنا نخوض حرباً بلا استعداد، .... كان قائدنا يخضع من القاهرة لتوجيهات هي آخر ما تقتضيه احتمالات الميدان، وكان في نيويورك، حيث مجلس الأمن، من يملك أن يفرض الصمت على مدافعنا بإشارة من يده.... وكان الذي يزيد من قلقي أنه في الوقت الذي يحدث فيه ذلك لناحيتنا من خط القتال .... تضج الناحية الأُخرى بما يمكن أن يكون نقيضاً له في كل شيء. كان في أسدود برج عال وكنت أصعد إلى أعلى البرج أحاول أن أمد بصري إلى الناحية الأُخرى. لم يكن عليها هدوء، لم تكن تحكمها هدنة، كان النهار يكشف أمامنا حركة متصلة، وكان الليل يفشي أسراراً يحاول أصحابها إخفاءها تحت ستار الظلام."[2]
وبمرارة، يروي عبد الناصر، كيف استغل العدو هذه الهدنة لتحقيق مزيد من نقاط القوة، بينما لم يكن أمام الجيوش العربية سوى المراقبة وكتابة التقارير إلى قياداتها التي لم تحرك ساكناً:
"في أول يوم للهدنة تحرك العدو فاحتل عبديس قرية عربية تكاد تكون متداخلة مع خطوطنا، وتحرك فاحتل بيت دوراس، وتحرك فاحتل الجسير، وتحرك فاحتل العسلوج، وتحرك فاحتل جوليس، العدو لم يأخذ هدنة كانت فرصة له للتعزيز ويستطيع يوم تنتهي أن يبدأ عملياته من أكثر المراكز ملاءمة لأغراضه، بينما القيادة كانت منشغلة بإعداد تقارير عن الحرب حتى الهدنة."
مناورة في الربيكي!!
أمّا الموقف الأكثر غرابة في يوميات الحرب، فهو حوار دار بين عبد الناصر وأحد جنود كتيبته خلال الهدنة. حوار قد يراه البعض طريفاً، بينما يراه كثيرون محزناً بل مأساوياً، لكنك لا تجد تعليقاً مناسباً، فيكفي أن تقرأه، وتترك لتقاسيم وجهك رسم التعابير الملائمة!:
"وأذكر ذات يوم أني التقيت بجندي من كتيبتنا. وخطر في بالي – دون سبب محدد – أن أوجه إليه سؤالاً أحاول أن أعرف من ورائه مدى فهمه للذي نقوم به في فلسطين،
وقلت له: إحنا هنا بنعمل إيه يا عسكري
وقال الجندي: ولن أنساها طوال عمري: إحنا هنا بنناور يا افندي ..
وذهلت وقلت له: نناور .. نناور فين يا عسكري
وقال الجندي بلهجة الذي يقرر حقيقة بدهية: في الربيكي.
(هي المنطقة الواقعة على طريق السويس. والتي اعتاد الجيش المصري أن يقوم فيها بمناوراته كل عام ....)
كنا إذن نناور في الربيكي. ولم نكن نحارب في فلسطين. أو هكذا كان يعتقد جندي من كتيبتنا. ولكن هل نستطيع أن نلومه."[3]
***
حصار في الفالوجة
في الفالوجة، وهي قرية كبيرة في قطاع غزة، حوصرت الكتيبة المصرية، وتُركت تواجه مصيرها. وتُعتبر الفالوجة قصة بطولة من بطولات الجنود العرب الذين استبسلوا في القتال فوق أرض فلسطين، إذ تجمع المصادر على صمود وبطولة المصريين في الفالوجة، وعلى الرغم من الهجمات الجوية والمضايقات المستمرة والحرب النفسية، فقد رفض القادة المصريون الاستسلام ولم يقبلوا الاجتماع باليهود إلاّ بعد سقوط عراق سويدان.
وخلال اجتماع شارك فيه جمال عبد الناصر، بين ضباط إسرائيليين ومصريين، عرض يغآل ألون على المصريين الاستسلام، مؤكداً لهم ضعف موقفهم العسكري، فكان جواب القائد المصري سيد طه:
"سيدي، لا شك في أن وضعك أفضل من وضعي .... إنني لا أخادع نفسي بأنني أستطيع بصمودي أن أغير ميزان القوى وأنقذ الوضع على جبهتنا، لكن في استطاعتي أن أنقذ شيئاً واحداً وهو شرف الجيش المصري. ولذا سأحارب هنا حتى الرصاصة الأخيرة والرجل الأخير، إلاّ إذا تلقيت أمراً مغايراً من حكومتي."[4]
وظلت الفالوجة تحت الحصار أكثر من مئة يوم، ولم تنتهِ فصوله إلاّ بعد توقيع الهدنة بين الجانبين المصري والإسرائيلي في شباط/ فبراير 1949، وعندها خرجت القوات المصرية المحاصرة في الفالوجة بكامل معداتها العسكرية.
***
هي ثلاث محطات قصيرة في حياة جمال عبد الناصر، الضابط المصري، لكنها تكفي ربما لشرح مواقف كبيرة خلال مرحلة تاريخية انتهت بنكبة 1948. وفي ذكرى وفاته، نستذكر جنوداً أبطالاً مجهولين، استشهدوا في فلسطين وفي جعبتهم الكثير الكثير من روايات جمال عبد الناصر.
[1] جمال عبد الناصر، "يوميات عبد الناصر عن حرب فلسطين"، تقديم محمد حسنين هيكل (باريس: الوطن العربي، 1978)، ص 28.
[2] المصدر نفسه، ص 36-37.
[3] المصدر نفسه، ص 38.
[4] "حرب فلسطين، 1947-1948، الرواية الإسرائيلية الرسمية"، ترجمة أحمد خليفة (قبرص: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986)، ص 666- 668.