صفحة "المُنسّق": الالتفاف على الوسيط ....
Date:
25 septembre 2020
Auteur: 

يلاحظ المطّلع على صفحة "المُنسّق"، بطول الحائط وعلى مدار أيام وأشهر، أن جميع ما يُنشر على الصفحة تقريباً، يُعد بمثابة إعلانات متنوعة تندرج تحت بند "خدمات". وفي موقع آخر، يمكن حتى التعامل مع صفحة "المنسّق"، وفق المحتوى المنشور، كموقع إعلامي أكثر من كونه صفحة لمنسّق حكومة الاحتلال في مناطق الحكم العسكري- الضفة الغربية في هذه الحالة، وخصوصاً أنه أطلق أيضاً في الآونة الأخيرة "إذاعة" تحت عنوان "نشرة أخبار المُنسّق" على نمط نشرة أخبار الساعة الثامنة من القناة الإسرائيلية الثانية، حتى إنه نشر أغنية لنانسي عجرم وكتب مع المشاركة "بدنا نولّع هالجو والجو يولّعنا...." مشيراً إلى أن هذا النشر يأتي في سياق موجة الحر التي ضربت فلسطين خلال الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر، ليختم بعدها المنشور بمقولة "إن شاء الله تنال إعجابكم." كما تستضيف الصفحة دوريّاً، خبراء من وزارة الصحة أو نجمة داود الحمراء، وناشطين في مجال الزراعة وغيرها على أساس "توعويّ". أمّا المثير للاهتمام أكثر، فهو كيفية وآلية الترويج للإدارة المدنية- وهي الهيئة المسؤولة عن تطبيق سياسات الحكومة الإسرائيلية في المناطق المحتلة، كأنها جهة تبحث عن زبائن، أو إذاعة تبحث عن جمهور من المستمعين والمتابعين، فتستضيف العمّال على حاجز قلندية لتسألهم: "كيف علمتم بعودة الأمور إلى طبيعتها وتوقف النوم في الداخل؟" فيجيب الواحد تلو الآخر: "من خلال صفحة المنسّق". وفي موقع آخر كُتب: "آخر أعمالنا". كل هذا يطرح السؤال عن هدف هذه الصفحة وسياساتها تحديداً، وما أهمية متابعتها بالنسبة إلى الاحتلال على صعيد استراتيجي، ولا سيما أن المتابعة للصفحة، على ما يبدو من محتواها، هدف رئيسي وأساسي.

تشكّل وسائل التواصل الاجتماعي، إحدى أهم الأدوات في عصرنا الحالي، التي من خلالها استطاعت فئات متعددة وفي جميع المجالات، أن تتخطّى حاجز المؤسسات الرسمية وخصوصاً على الصعيد الإعلامي، وهو ما أطلق عليه علمياً "دمقرطة الإعلام". وفي الحقيقة فإن وسائل التواصل الاجتماعي، وبصورة خاصة "فيسبوك" و"تويتر"، سمحت للملايين، بالتعبير وكتابة آرائهم في الحيّز العام من دون الخضوع لرقابة الإعلام الرسمي أو المؤسسي وبيروقراطيته، وكل ما يحويه هذا الإعلام من مساحة مخصصة، وسياسات عامة وتمويل، مروراً بعلاقته المركّبة بالسلطة الحاكمة- أي سلطة. وفي هذا السياق، يمكن أن تتخذ صفحة "المنسّق"، أهمية فائقة ضمن الاستراتيجيا الإسرائيلية العامة في التعامل مع الحالة الرسمية- المؤسساتية الفلسطينية. إذ في الوقت الذي تُضعف إسرائيل عمداً ووفق استراتيجيا بعيدة المدى، السلطة الفلسطينية، دون الوصول إلى إعدامها كلياً، تتخذ صفحة "المنسّق" أهمية خاصة باعتبارها إحدى أذرع الإدارة المدنية ذاتها التي تشكّل أداة إضعاف السلطة، كما تشكّل هذه الصفحة إحدى أدوات تخطّي السلطة في العلاقة مع "المجتمع الفلسطيني" في الضفة- أي الالتفاف على احتكارها الوساطة ما بين المجتمع الفلسطيني والاحتلال، وخصوصاً في المجالين الأساسيين اللذين لا تزال السلطة تؤدي الدور الأهم فيهما: الإداري والخدماتي. ومع انحسار دور السلطة أكثر في هذين المجالين، وسط تهميش إسرائيلي للدور السياسي الذي تؤديه في القضية الوطنية، يُضاف إليه الانهيار في المسار السياسي، تغدو صفحة "المنسّق" في الحقيقة، أقرب إلى مؤشر، على اتجاهات الوضع السياسي العام، والدور الذي ستؤديه الإدارة المدنية مستقبلًا.

تتحكّم إسرائيل عملياً بكل مفاصل الحياة المدنية الرئيسية في الضفة الغربية، وقطاع غزة أيضاً، بسبب سيطرتها على الحدود والمعابر والموارد كما الحصار. ولطالما أدت السلطة في هذا السياق دور الوسيط على مدار سنوات طويلة بين إسرائيل والناس في الضفة الغربية بهدف تحقيق مطالبهم الحياتية اليومية؛ فهي تفاوض على قضايا محدّدة وقد تحصّل أو لا تحصّل، ومن ثم تُعلم الناس بالقرارات والمستجدات. وهذا ليس بالجديد في السياق الفلسطيني، فالقوى السياسية في الضفة الغربية ما بعد "أوسلو"، وكذلك الأمر داخل الأراضي المحتلة، تقوم بدور الوسيط أمام السلطة الحاكمة إن كان بصفتها "الدولة" في أراضي 1948، أو بصفتها الجيش والإدارة المدنية في الضفة الغربية. وتدّعي هذه القوى بحق، أنها تعمل وفق معادلة تحقيق المطالب المدنية والسعي لتحسين أوضاع الحياة في الضفة، من دون الإخلال بالموقف السياسي. وفي أراضي 1948، يتم الأمر وفق المعادلة ذاتها: تحقيق المطالب الحياتية اليومية، من دون المس بالهوية الوطنية الفلسطينية. أمّا في الضفة الغربية، فتقوم السلطة عبر المؤسسات المتعددة، بالتفاوض والتنسيق فيما يتعلق بقضايا الناس اليومية ضمن معادلة مشابهة تقوم بتحقيق الأمور الحياتية للناس من دون الإخلال بالموقف السياسي الوطني العام بحسب ما تفهمه السلطة ومنظمة التحرير.

وهنا يكمن الجديد في صفحة "المُنسّق"، إذ تقوم الصفحة عملياً وبشكل لا يترك مجالاً للشك، باستهداف هذه المعادلة بالذات، إذ يستطيع الفلسطيني متابعة آخر قرارات الاحتلال، والتواصل مع الإدارة المدنية عبر الصفحة، من دون أي حاجة إلى وسيط يُطالب أيضاً بالاستقلال ويرفع علم القومية. فيغدو عملياً المُنسّق- وتحديداً وحدة الإعلام الاجتماعي، في هيئة تنسيق أعمال الحكومة في الأراضي المحتلة، هيئة، تعلن وتتواصل مباشرة، وبلا وسيط يطرح ذاته على اعتبار أنه "الحركة الوطنية". وليس اعتباطاً، أن نذكر هنا تحديداً، قضية الفلسطينيين في أراضي 1948، إذ تسير إسرائيل وفق الاستراتيجيا ذاتها على مدار سنوات: لا مشكلة لدينا معكم كمواطنين، المشكلة مع القوى السياسية التي تهتم بقضية فلسطين أكثر مما تهتم بتحسين أوضاع حياتكم. وهذا ما أشار إليه نتنياهو نفسه عدة مرات، واليمين الإسرائيلي بصورة عامة، باعتبار أن المنبوذ هو القيادة السياسية للفلسطينيين في أراضي 1948، وليس هُم ذاتهم على سبيل المثال.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تتبنّى هذا الخطاب بشكل علني في أراضي 1948، فإنها لا تزال تخطو خطاها الأولى في هذه الاستراتيجيا في الضفة الغربية، فلا تجد في صفحة "المُنسّق" مثلًا أي محاولة لضرب الأسافين بين السلطة والمواطنين بصورة فجّة وعلنية كما يجري في أراضي 1948، فلن يجد الباحث مثلاً أخباراً عن أي اجتماع مع السلطة وقياداتها، كما تتخطّى كاميرا "المُنسّق" كل الوزارات الفلسطينية والهيئات الحكومية لتقوم بإنتاج تقرير عن التبادل التجاري في مجال الزراعة وكأنه مجرّد تنسيق قاعدي بين تاجر فلسطيني وآخر إسرائيلي، وتعرض خدماتها كمنسّق ومسهّل للأعمال. هذه هي سياسة التجاهل الكلّي للسلطة التي يجدها الباحث في صفحة "المُنسق"، وفي السياسة الإسرائيلية بصورة عامة. وهنا تحديداً، يكمن الجانب الآخر المهم الذي يجب الاطّلاع عليه بانتباه شديد في الصفحة: كسر الصورة النمطية، والعلاقة القائمة بين السكان وقوات الاحتلال. ففي الوقت الذي ترسخ في رأس الفلسطيني صورة الجندي الإسرائيلي على أنه المتمركز على أبوب وأبراج السجون في الضفة الغربية، أو المدجّج بالسلاح والذي يقتحم هدوء الليل في بيوت الأطفال، يطرحه المُنسّق كـ"موظف" أولًا وقبل كل شيء، يقوم بخدمة السكّان في الضفة كما نشر مؤخراً عن جنود على حاجز قلندية، أو كجنود يبثون الخبر عن انتهاء الإغلاق على بلدة دورا في أعقاب انتشار فيروس "كورونا"، أو كتقرير آخر عن طرق الوقاية يقدمه أحد المسعفين في نجمة داود الحمراء، التي إن مرّت على حادث في الضفة الغربية وكان المصاب غير يهودي، تتركه لينزف حتى وصول الإسعاف الفلسطيني من إحدى معتقلات الضفة المحاطة بالأسوار.

ومرّة أُخرى، شكّلت شبكات التواصل الاجتماعي إحدى أهم الأدوات التي من خلالها استطاعت آلاف الطاقات الكامنة أن تنطلق خارج إطار البيروقراطية الرسمية، لكن ما يجري مع شبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية الموجهة إلى السكّان في الضفة الغربية هو تخطٍ من نوع آخر، إذ تعمل إسرائيل من خلالها، مستغلّة هذه الميزة، لتخطّي النظام السياسي واحتكاره التمثيل الفلسطيني أمام قوة الاحتلال تحديداً من جهة، ولتخطّي صورة المستعمر في رأس الفلسطيني من جهة أُخرى. فلا تحتاج الإدارة المدنية إلى صفحة في صحيفة لتعلن الوصول إلى الناس بطريقة التفافية على السياسة الرسمية، وما ستكون الإسقاطات شعبياً وثقافياً على صحيفة تنشر للإدارة المدنية؛ ولا يحتاج المنسّق إلى ندوات يبرز من خلالها الدور الذي تؤديه الإدارة المدنية في "تحسين" أوضاع المعابر، وهو ما سيكون شبه مستحيل بسبب ما يعنيه اللقاء مع المُنسّق في السياق الفلسطيني والاستعماري؛ ولا تحتاج المؤسسة الأمنية إلى عملاء يبثون السموم بين القيادة والناس. فهنا يشكّل الإعلام الاجتماعي إحدى أهم آليات التواصل الالتفافي للسيطرة على الوعي وصوغه بشكل يلائم الطموح السياسي للاستعمار والمرحلة. وفي مرحلة حسّاسة جداً، لم تعد إسرائيل تحتمل البعد الوطني للقضية الفلسطينية، وتعمل على تحويلها إلى قضية خدماتية- اقتصادية، والنضال إلى تحسين أوضاع العبودية دون بُعدٍ قومي أو وطني، تغدو صفحة "المنسّق" إحدى أهم المؤشرات على بدء تطبيق هذه السياسة في الوعي أولاً وبالتدريج، حتى يغدو مستقبلاً، سؤال الإدارة الذاتية دون السلطة، مسألة محسومة تلعب فيها البلديات أو جهات أُخرى الدور الإداري الداخلي، في مقابل الإدارة المدنية ذاتها. ومن دون الخوض في تفصيلات العلاقة الشائكة والمركّبة بين "السلطة" والاحتلال، فإن مسألة معاداة "صفقة القرن" والضم لاحقاً، فتحت الباب على سؤال وجود قيادة فلسطينية تمنح الشرعية للمرحلة الجديدة التي دخلتها إسرائيل في صراعها على حسم الصراع في الضفة الغربية، وهنا تشكّل صفحة "المنسّق" إحدى أهم الإشارات.

إسرائيل ليست اللاعب الوحيد في محاولاتها السيطرة على الوعي الفلسطيني، ومخطّطاتها ليست ناجحة بشكل مفهوم ضمناً ومسلّماً به، إذ شكّلت الحملة التي أطلقتها مجموعة ناشطين فلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان "يا عندي يا عند المُنسّق"، وفيها طالبوا أصدقاءهم بإلغاء متابعة صفحة "المُنسّق"، أولى النشاطات والحملات التي تترجم الوعي الشعبي بخطورة التعامل مع هذه الصفحات الإسرائيلية الكثيرة والتي تشكّل صفحة المُنسّق إحداها وأبرزها، إلى خطوات وحملات سياسية ملموسة. وعلى الرغم من حقيقة أن الحملة لم توقف الصفحة أو نشاطها، فإنها تركت أثراً كبيراً في الوعي بمقاطعة هذه الصفحات وعدم التعامل معها من جهة، ومن جهة أُخرى وضعت هذه الصفحات أمام هجمة أثّرت فيها بالضرورة. فالمتابعة أو عدم المتابعة هي مؤشر نجاح أو فشل هذه الصفحات. وفي الحقيقة على الرغم من التأثير الإيجابي والمهم لهذه الحملة، فإنها كانت الأخيرة ولم تكن جزءاً من خطة استراتيجية، وهو ما جعلها تختفي مع الوقت ويختفي أثرها في عالم السوشيال ميديا و"الترند"، إذ تتخذ القضية أهميتها لمدة قصيرة وتختفي، وهو ما يشير إلى أهمية وضع خطة استراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع هذه الصفحات تتشعّب على العديد من الحملات بالتدريج وتكون فيها المرحلة القادمة مخططة سلفاً. ودون ذلك، ستبقى معارضة هذه الصفحات جزءاً من فعل عفوي، شعبي وفطري فلسطيني مهم وموجود وحيّ، لكن من دون فعل استراتيجي. هذا، في وقت لا تزال هذه الصفحات، تتغلغل في الوعي الشعبي الفلسطيني، وتتخذ أهمية فائقة وخصوصاً في ظل الأوضاع الحالية، إذ إن العلاقة ما بين الناس والنظام السياسي مختلة، وأزمات الحالة السياسية تتوالى، بالإضافة إلى ضعف البنى السياسية الذي يجعل من هذه الصفحات سهاماً سامة، في معركة لا دروع فيها.