هذه ليست قصة من قصص كليلة ودمنة، أو ربما هي كذلك.
كان يوماً حارقاً من أيام حزيران، قبل ذكرى النكسة بأيام وبعدها بسنوات طوال، في زمن الكورونا بالتحديد، ارتديت ملابسي وكمّامتي، وانطلقت إلى محكمة الاحتلال في عوفر. أخبرني المحامي أنه موعد الحكم، فأصررت يومها على ارتداء بلوزتي الزرقاء، وعليها رسم بومة. لا أدري من قال لي ذات مرة، إن البومة تجلب الحظ السعيد، وأنا مفلسة إلى درجة أنه لا يوجد لديّ ما أتشبّثُ به، سوى البومة، وبعض الخراريف والترهات القديمة، التي حاولت، حينها، بمنتهى السذاجة تصديقها. عندما تضع المنطق جانباً، وتلوذ فراراً بهلوساتك، تنصّب البومة لتنقذ بعضاً من آمالك بلقاء الحبيب، وتذليل الحكم لأقل الأثمان. هكذا، استعنت بالبومة لتكون حليفتي ضد محاكم الاحتلال الصهيوني الجائرة، أو بتعبير أدق، مسرحيات الاحتلال الجائرة.
هند شريدة
بعد انتظار عقيم ومعقَّم، دخلت المحكمة، غرفة رقم 7 بالتحديد، المكيّف فيها يشير إلى أن درجة الحرارة 22 مئوية، بينما الحرائق في قلبي تفوق درجة الغليان، متوترة، رجلاي تهتزان بسرعة مكوكية، أحاول ضبطهما وبسطهما أرضاً، لا شيء ينفع معي. القاضية، ثلاثينية شقراء، عينان زرقاوان، تربط شعرها كذيل فرس ممشط باعتناء، وعلى ساعدها الأيسر وشم، تحيطه أساور ناعمة، تشبه في هيئتها لاعبة تنس أرضيّ محترفة، لكنّها لا تشبه القضاة مطلقاً! ظلّت تلعب بشعرها طوال الجلسة، تتناول خصلة بأصابعها، وتمررها كفرشاة أحمر الخدود تداعب بها بشرتها. على يسارها، سمراء بلباس كاكيّ، تطبع على الكومبيوتر مجريات الجلسة، غير مكترثة بما يدور حولها. ظننت أن وظيفة الحاجب الذي يطبع قد اندثرت مع الأيام، ربما مع اندثار الطابعة. لم أتصور أن هناك فعلاً حاجباً ما زال يطبع أقوال الآخرين في المحكمة. يبدو أن كل ما حدث، هو تبدل الطابعة بالحاسوب المحمول، ليس إلاّ!
على يمين المنصة، يجلس ثعلب مكَّار من نيابة الاحتلال، يتفحّص مَن في الغرفة، وينظر إليّ بتمعّن، يحاول اقتناص أية مشاعر حسيّة تتبلور خلال الجلسة. ضبطت رِجليَّ، ومسمرتهما على الأرض رغماً عني، ورفعت حاجبَي عنوة مع ابتسامة فوقية في كل مرة التقت أعيننا، وحدث ذلك مرات عديدة.
في الجهة المقابلة تماماً، مترجم (نص كم) يترجم ما يرطن به هؤلاء من اتهامات وحبكات بالعبرية، وهو يتصفح الفيسبوك. لِمَ يهتمّ هذا المجنّد المتفوّق بعربية معطوبة بحياة الفلسطيني، ليصغي بحق لما يدور في المحكمة حوله؟ وماذا تعني له حياة هذا "الدوني" وعائلته، كما تتلمذ منذ صغره عن الفلسطيني؟ كان ما يجري وقتاً مستقطعاً بالنسبة إلى الجندي المترجم، لكي ينسّق مع صديقته عبر الماسنجر أين سيقضيان عطلتهما هذا الأسبوع، ربما كانا يتجادلان، وهو يقوم بمهماته البدائية في الترجمة غير المهمة، والتي يتقاضى بموجبها أجراً؛ أيستأجران كوخاً عند شاطئ الطنطورة في حيفا المحتلة أو آخر يطلّ على نهري بانياس أو الحصباني، القادمين من هضبة الجولان السورية، والمحتلة أيضاً؟
بقي آخران، فتاة بلباس مجندة وآخر بزي الشرطة، يضحكان أحدهما مع الآخر، يلتقطان ما يخرج من ورق من الطابعة.
لا شيء مما نراه في مشهد المحاكم السينمائية من هيبة وجدية، مشهد يشبه كل شيء، إلاّ الحق والعدالة.
زوجي، في الضفة الثانية من المحكمة، عبر الفيديو كونفرنس، لم أرَه إلاّ عند إسدال ستارة النهاية، حين ظنّ الممثلون أنهم يستحقون التصفيق بحفاوة بالغة. أُبَيّ،* لم تهمّه المسرحية، ولم توجعه بقدر ما أوجعتني، على الرغم من أنه هو مَن يدفع ثمنها الحقيقيّ داخل الأسر، ويقضي الحكم بطوله وعرضه الواسعين بضيق السجن وتضييق السجان. الغريب في محكمة كهذه، أننا جميعنا نعرف الحكم مسبقاً؛ النيابة، والمحامي، وزوجي، وأنا، كلنا إلاّ القاضية، التي من المفترض أن تبتّ في الحكم.
المحكمة الحقيقية تجري جلساتها خلف الكواليس، قبل موعد المحكمة الرسمي، بين ثعلب النيابة والمحامي، يناور فيها الأخير على أقل مدة ممكنة، بينما يراوح الأول مكانه، عاقداً حاجبيه وعازماً على تدفيع أصحاب الأرض أعلى مدة ممكنة، إنها حِسبة ليس أكثر! حِسبة بأعمارنا وحيواتنا في مقابل مكر الثعلب.
في ميزان أدق من الذهب، يضع المحامي حِسبته، ويبدأ الأول بالمراوغة على سنوات وأشهر وأيام من عمر عائلة كاملة؛ الأب داخل المعتقل، والزوجة والأولاد-مهما بدوا خارجه، إلاّ إنهم- داخل معتقل أكبر.
استهلّت المحاكمة بقراءة القاضية ديباجة التهم المنسوبة إلى الأسير، كأنها تقرأ أحكاماً خبيثة من دليل المحاكم الصورية، والسّمراء تطبع، والمترجم ينقل بعض الأجزاء، بعربية كسّرت قلبي. كررت القاضية بند احترام المحكمة الصفقات المبرمة، ولم تذكر ولو مرة واحدة، كم مرة نكثت المحاكم الصهيونية "عهودها"، وجددت الاعتقال قُبيل خروج الأسير من بوابة السجن، بدعوى "الاعتقال الإداري"، حينما، تبدأ جولة جديدة من المناورات.
تأخذ الاعتقالات أحياناً عباءة الاعتقال الإداري التعسفي والجائر، والمبني على ملفات سرية، يقدمها جهاز الأمن العام أو أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ولا يُسمح للمحامي أو المعتقل الاطلاع عليها، كما أنه غير محدد بسقف زمني، إذ يستطيع الاحتلال تجديده إلى أجل غير مسمّى. وتشكل الملفات السرية خرقاً فاضحاً لاتفاقيات حقوق الإنسان، كونها جريمة حرب، لعدم توفيرها فرصة للمعتقل للدفاع عن نفسه. ويطال الاحتلال باعتقالاته الإدارية قرابة 400 أسير/ة فلسطيني/ة، كما يعمد الاحتلال من خلالها إلى شراء وقت لحياكة تهم وفبركة أقاويل جاهزة لإدانة الأسرى، كما حصل مع زوجي في بداية الاعتقال. وبالأضافة إلى قماءة الإداري، ينتهج الاحتلال ممارسة قانون "تامير"، الذي يدين الأسير، ويحاكمه مستنداً إلى انتزاع اعتراف واحد من أسير آخر تحت التعذيب، دون اعتراف الأسير الأول أو حتى التحقيق معه.
وصلت القاضية إلى فقرة مدة الحكم، فأعطت المنصة لأصحابها، لمن يحكم فعلاً: النيابة ظاهراً، والاستخبارات ضمناً، كمن يقول للنيابة: "أكمل المدة لتملأ الفراغ في دليل الديباجة المصمّم- بغير عناية حتى- لهذه الجلسة." تقدّم الثعلب، وأعطى جملة ما توصل إليه الطرفان، أو بمعنى أدقّ، ما حصّله المحامي من حِسبة الحكم.
- الثعلب: 12 شهراً وأسبوع، وغرامة بقيمة 2500 شيكل، مع حكمين بوقف التنفيذ.
- تدخلت القاضية بتهكم: ولشو الأسبوع؟
- النيابة بعبرية منتصرة: خلص هيك سكّرنا!
فعلاً .... هيك سكّرت الحِسبة. وما المبلغ المفروض إلاّ ترجمة مادية لشهرين ونصف الشهر آخرَين، حُوّلا مالياً على هيئة غرامة إضافية.
ذكرتني المسرحية برواية "المحاكمة" لكافكا، التي تتناول قصة شخص يدعى "جورزيف ك"، يجد نفسه ذات يوم مطلوباً للمحاكمة، في تهمة لا يعرفها إطلاقاً. ومع تطور الأحداث، يفشل "جوزيف ك" في معرفة جريمته؛ ليبدأ في الدفاع عن نفسه بشتى الطرق هو ومحاميه، أمام منظومة قضائية طاغية، لا تخبره لماذا تحاكمه، وإلى متى يستمر وضعه على هذه الحال. إن المحنة التي عاشها "جوزيف ك" منتظراً بزوغ الحقيقة ذهبت هباءً، ولم يكن في وسع الحقيقة إلاّ أن تُنَكّسَ أعلامها في وجهه، على الرغم من مقاومته الطاحنة لانتزاع براءته.
تماماً كما حصل مع "جوزيف ك"، يحدث مع مئات، لا بل آلاف الأسرى. منظومة احتلال، تتكون من قوة اعتقال، مُدّعٍ عام، وقضاة صوريين، يعملون مع بعضهم البعض لإدانة الفلسطينيين بالإكراه. يشرع الاحتلال في تجهيز مئات الملفات "الجاهزة" للإدانة بحق المدافعين عن القضية الفلسطينية، بما نسبته 99.76% بحسب المعلومات السنوية التي تطلقها المحاكم العسكرية الصهيونية. لذا، يوافق الأسرى، مُكرهين، على إبرام اتفاقات مع النيابة العسكرية الإسرائيلية، والتي تصنّف كونها اعترافات بالإكراه، خشية من الانتظار كما فعل "جوزيف ك" وفشل في نهاية المطاف، أمام منظومة مُحْكَمَةٍ في الافتراء، والكذب، والخديعة، والانتقام من أًصحاب الأرض. كما أن أي حديث على أساس جدل قانوني ومرافعات تتحدى الأدلة العسكرية، هو محض تكبيل لأجساد وأعمار وأحلام الأسرى والأسيرات.
إن القضاء الجائر لدى الاحتلال، والذي يتلخص "بالحاكم والجلاد معاً"، ومنظومة الإجراءات والسياسات التي يتبعها الاحتلال في المحاكم العسكرية، من التأجيلات المتكررة التي قد تستمر سنوات طويلة، قد تعني العشرات من جلسات المحكمة العسكرية المؤجلة بشكل تعسفي، والتي يُجْلَبُ فيها الأسير من معتقله في كل جلسة استماع، وأغلبها تتضمن رحلات طويلة وشاقة في "البوسطة"، ناقلة الأسرى، أو "التابوت الحديدي"، كما يطلق عليه الأسرى، الأمر الذي قد يستغرق ساعات وأيام، مقيّداً في وضعية تعذيب مقصودة.
وللسبب نفسه الذي انتظر لأجله "جوزيف ك" لمعرفة تفصيلات تهمته، ولم ينجح، تُماطِلُ النيابة العسكرية بتسليم مواد البيّنات، وحجب جزء مهم للغاية منها تحت ذريعة "سرية المعلومات"، وخصوصاً المتعلقة بتعذيب الأسرى خلال التحقيق، وعدم تجاوب المحكمة مع طلبات الدفاع بالكشف عن تلك المواد والإفصاح عنها، وفي الوقت ذاته، تُبْقي الأسير رهن الاعتقال إلى حين انتهاء المحاكمة. جميع ما ذكر، يُرغم الأسير على عقد صفقات مع النيابة العسكرية، تكون العقوبة المفروضة فيها أقصر بكثير من العملية المطولة لجلسات الاستماع المؤجلة بشكل متكرر، مَحَبّةً بلقاء عائلاتهم، ومواصلة حياتهم. وبالتالي، يُصرَفُ النظر عن استنفاذ الإجراءات القضائية، تجنباً لقضاء الأسير/ة سنوات طوال، من دون محاكمة عادلة على أية حال.
في نهاية المسرحية، سُمِحَ لي برؤية أُبَيّ. مشيت وحدي نحو المذبح، حتى اقتربت من المنصة، حيث الثعلب، وصورة أُبَيّ في كادر الحاسوب المحمول. كان أُبَيّ قد تَهنْدَسَ" خصيصاً لهذه المناسبة، وهي ليست جلسة الحكم طبعاً، وإنما رؤية أحدنا الآخر بعد انقطاع دام ثلاثة شهور بفعل الشريرة كورونا، ولو عبر شاشة بائسة! فَقَدَ خلالها أُبّيّ 15 كيلوغراماً من وزنه، قضاها وهو يمارس الرياضة، مُصِرّاً على مفاجأتي، بإطلالة "نيو لوك". فأُبَيّيّ وأخيراً "منَعِّم"، وقد حلق ذقنه ولحيته، تلك التي رَجَوْتُهُ حلقها منذ زواجنا، ولم يفعل.
- أُبَيّ (ضاحكا وواضعاً يده على ذقنه): كيف باللّه عليكِ؟
- هند: لَزِمَ الأمر حبسة حتى ترد عليّ، وتحلق مستر عابودي؟!
- أُبَيّ: ما عجبك؟!
- هند: قمر.
- أُبَيّ: من قلبك؟
- هند: بتعرفني بومة! مضطرة أسايرك.
- أُبَيّ: يا أحلى بومة بحياتي.
ضحكنا من فرط الغزل الخشن المملوء بالضحك والحب والاشتياق. ولم يضحك الثعلب معنا، ربما أدرك حينها أن البومة من الجوارح، وقد تتغذى على الثعالب يوماً ما.
2/6/2020
* أُبيّ العابودي: مدير مركز بيسان للبحوث والإنماء، معتقل منذ 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، ويقبع حالياً في سجن عوفر. زوج مُحِبّ، وأبٌ لثلاثة أطفال؛ خالد (6 سنوات) والتوأم: غسان وباسل (4 سنوات).