أثرت التحولات التي مرت بها القضية الفلسطينية بشكل مباشر في الثقافة والوعي الوطني والسياسي للفلسطينيين، ومع كل التغيرات التي كانت تحملها هذه التحولات في الواقع الفلسطيني بشتى مظاهره، فإنها أيضاً كانت تساهم في إنتاج ثقافة وطنية ودينية واجتماعية جديدة.
والخليل، بطبيعة الحال لم تكن بمعزل عن تلك التحولات والمتغيرات، فمنذ أن دخلت القضية الفلسطينية مضمار التسوية السياسية، وصولاً إلى اتفاق إعلان مبادئ أوسلو سنة 1993، وتَشَكُّل سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني سنة 1994، كانت لمدينة الخليل أهمية استثنائية في كل تجاذبات عملية المفاوضات، وكان ذلك لعدة أسباب دينية وتاريخية وسياسية، ولاعتبارات تتصدر الأطروحة السياسية لليمين الصهيوني.
لم يكن إدراك هذه الأهمية الخاصة صعباً، إذ فُصِّل للمدينة بروتوكولاً منفرداً سنة 1997، قسّمها إلى منطقتين هما: الخليل 1 (H1) والخليل 2 (H2)، بحيث تخضع الأولى للسيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية، وتخضع الثانية، أمنياً، لسيطرة الاحتلال.
الخليل والعمل الوطني
على مدى سنوات النضال الفلسطيني كانت مظاهر العمل الوطني موجودة في الخليل، وبدا ذلك واضحاً في كل محطات النضال الفلسطيني، وفي هذا الوقت تبوأت الخليل الصدارة في مواجهة مشروع الضم الإسرائيلي، كونها المدينة الأكثر استهدافاً وعرضة للمشاريع التهويدية الصهيونية.
عندما بدأت تصريحات حكومة الاحتلال بشأن مشروع فرض السيادة الإسرائيلية على 30% من أراضي الضفة الغربية، كان لا بد من تذكُّر زيارة بنيامين نتنياهو إلى الخليل في الرابع من أيلول/سبتمبر 2019، خلال حملته الانتخابية. هذه الزيارة التي حملت معها كثيراً من المؤشرات على ما يحمله المشروع الصهيوني من مخططات لتهويد البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي ومحيطه، والسيطرة عليها بشكل كامل ودائم.
استثارت هذه الزيارة الشارع الفلسطيني، فانطلقت حملة جماهيرية تدعو إلى صلاة فجر أيام الجمعة في الحرم الإبراهيمي، وقد دعمت عائلات الخليل هذه الحملة، ورَعَتها الحركة الوطنية، وكان لها زخماً جماهيراً كبيراً أدى إلى تحقيقها نجاحاً كبيراً وتفاعلاً جماهيرياً غير مسبوق، على الرغم من محاولات التشويش عليها من بعض القوى السياسية، وتحديداً حزب التحرير الذي دعا إلى حملة موازية تقوم حصراً على صلاة الفجر جماعة، في أي مكان. وهكذا حاول الحزب أسلمة الحملة بالكامل وتسييسها لفائدة أجنداته، بدلاً من الإبقاء عليها حملة وطنية شعبية فلسطينية يحتل العامل الديني فيها حيزاً ملموساً.
وعلى الرغم من ذلك، استمرت حملة صلاة الفجر في الحرم، إلى أن جاء إعلان حالة الطوارئ بسبب جائحة كورونا، ليتوقف التدفق الفلسطيني إلى الحرم الإبراهيمي، في الوقت الذي أعلن الاحتلال نيته الشروع في تدشين ممر لذوي الحاجات الخاصة ومصعد كهربائي يخدمان المستوطنين، هذا غير إعلانه السابق عزمه إنشاء مرافق صحية في الجزء الذي يسيطر عليه، الأمر الذي يُعد خطوات صارخة لتغيير إتاحة الوصول إلى الحرم، وتغيير معالم المكان منذ مجزرة الحرم الإبراهيمي في سنة 1994.
ويُذكر أن سلطة الاحتلال كانت قد وضعت في السنوات السابقة لافتات تعريفية باللغة العبرية حول الحرم وداخله، وتقوم بشكل مستمر بإضافات أمنية على نقاط التفتيش في البلدة القديمة.
وبعد سماح الحكومة الفلسطينية بحركة المواطنين، عادت الدعوات إلى الصلاة في الحرم، لكنها ما لبثت أن خَبَتْ لقلة الفاعلية الشعبية بعد أن خرجت الجماهير منهكة نتيجة تعطل مظاهر الحياة في إثر الإجراءات الطارئة التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية ضمن خطتها لمواجهة انتشار فيروس كوفيد 19.
محددات الحالة الجماهيرية
ربما تكون البنية الاجتماعية في الخليل متمايزة عن باقي أجزاء الوطن فتبدو أكثر محافظة، تبعاً للعوامل التي ساهمت في تشكيلها من المرجعيات الدينية التاريخية التي تلقت تعليمها في الأزهر، والتي كان لها الدور البارز في نشوء تيار عام محافظ في المدينة، مروراً بتوجه السكان إلى الاقتصاد العائلي، الأمر الذي عزز نفوذ العائلات في القطاع الخاص، وأدى إلى استمرارية توالد البورجوازية الصغيرة، وصولاً إلى طابع الخليل العشائري، والسمة الأبوية التي تحظى باهتمام الإنسان في الخليل أكثر من أي شيء آخر. كل هذه العوامل تركت بصماتها على وعي المجتمع وبنية الفرد الذهنية، وهي ذاتها التي تؤثر في الحالة الجماهيرية في الخليل، وتتحكم في توجهاتها في أحيان كثيرة.
في منتصف أيار/مايو الماضي دعت حركة "فتح" في مدينة الخليل إلى مسيرة جماهيرية ضد مشروع الضم الإسرائيلي، وكانت المشاركة الجماهيرية فيها ضئيلة إلى الحد الذي جعل بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي ينشرون محتوى ساخراً كالقول: (لأول مرة نرى مسيرة يكون فيها المسؤولون أكثر من المواطنين). هذه المسيرة التي يقودها الحزب الحاكم، لم يلقِ لها المواطنون بالاً، والسبب يعود إلى الضعف المتراكم في ثقة الناس بسلطة "فتح".
إذا عدنا إلى الذاكرة، واستحضرنا صورة الحراك الجماهيري المناوئ لقانون الضمان الاجتماعي، وهو الحراك الذي دعمه وقاده القطاع الخاص والشخصيات الاعتبارية العشائرية، لوجدنا مؤشراً على أربعة أمور: أولها، طغيان سيطرة العائلات والعشائر وامتدادها في القطاع الخاص على الحراك الشعبي في مواجهة نفوذ الحركة الوطنية المتخلخل. وثانيها، أن القضايا المعيشية لدى الفلسطينيين باتت في المقام الأول على حساب القضايا الوطنية. وثالثها، الافتقار إلى استراتيجيا وطنية لأحزاب المعارضة وأحزاب السلطة في مواجهة سياسة التمدد والإقصاء والهيمنة الإسرائيلية. ولم تخض الحركة الوطنية معركة السيطرة الاستعمارية على الخليل واكتفت بردات فعل عاجزة عن منع صناعة الوقائع على الأرض خلال العقود السابقة، ووفقاً لذلك أصبح الضم أمراً واقعاً على الأرض، والاحتجاج ضده لا يتجاوز حدود تسجيل موقف وكفى. ورابعها، يلعب العامل الديني في الخليل كما القدس دوراً مهماً في الحراك الجماهيري كما رأينا في الاستجابة العالية للدفاع عن الحرم الإبراهيمي وكذلك في الدفاع عن المسجد الأقصى. وهكذا، ساهمت هذه العوامل في إطفاء جذوة الاحتجاج على الضم في مدينة الخليل، لكنها أشعلتها عندما كان الحرم الإبراهيمي مستهدفاً. ولهذا ذهب خبر الضم دونما اهتمام أو ردة فعل ملائمة.
الخليل بين المحركات الوطنية والثقافة الدينية
لا شك في أن للدين تأثيراً قوياً في النفس الإنسانية، لما له من طاقة تعبوية كبيرة، وبلاغة متفردة قادرة على التحشيد، وفي مختلف محطات تاريخ الشعوب، كان أداة للسيطرة والاستبداد في أنظمة الحكم الثيوقراطية، لكنه أيضاً كان عاملاً في تحررها، كما في بعض دول أميركا اللاتينية حتى ظهر ما بات يُعرف بلاهوت التحرير. في مجتمعنا، يمكن للدين أن يكون داعماً لعملية التحرر الاجتماعي والوطني، إذا تم تجديد خطابه في ضوء المفاهيم الحداثية، والتخلي عن الخطاب التقليدي المهيمن، ويمكن أن يحدث ذلك في حال الحفاظ على الدين كمعتقد فردي، والحيلولة دون تحوله إلى بنية فكرية وأيديولوجيا.
في الخليل يسود تيار عام ظاهريّ محافظ متديّن بطبيعته، وهذا التيار هو المسؤول عن نقل منظومات الثقافة والقيم من جيل إلى جيل، وهذا ما يزيد من سطوة حركات الإسلام السياسي ونفوذها، وتصبح العلاقة بينهما طردية: ازدياد محافظة المجتمع يليه ازدياد نفوذ الإسلام السياسي وقدرته على قيادة الشارع في حلقة لانهائية تؤدي إلى تَصَدُّره الحالة الجماهيرية.
على سبيل المثال يحاول حزب التحرير باستمرار، وبنجاعة، احتواء الوجوه المؤثرة عشائرياً ليوجه الفاعلية الجماهيرية لتأييد توجهاته السياسية والاجتماعية والتي تكون في العادة، بعيدة عن جوهر القضية الوطنية الفلسطينية، ومهمِلة للوضع الكارثي الذي تعاني جرّاءه بلدة الخليل القديمة.
ونتيجة ذلك، نجد أنه بينما تتدهور أوضاع البلدة القديمة إلى حد كبير، تتجه أنظار الجماهير إلى مناهضة قانون حماية الأسرة واجترار اعتراضهم على توقيع الحكومة على اتفاقية سيداو بعيداً عن كل ما يعاني جرّاءه المشهد السياسي الفلسطيني من قتامة، فكان لافتاً وجود آلاف من أبناء المدينة يتفاعلون عبر منصات التواصل الاجتماعي مع رفض قانون حماية الأسرة، ويصفقون لقرار المحكمة الفلسطينية العليا الذي يقضي بإلغاء قرار الرئيس الفلسطيني الذي يُمَلّك الكنيسة الروسية الأراضي التي يقوم عليها مبنى الكنيسة ومحيطها في مدينة الخليل. وتبقى البلدة القديمة وما تتعرض له من ضم صامت وسرقة العقارات والتضييق على حركة المواطنين فيها يمر مرور الكرام.
لماذا التفاعل الاجتماعي الشعبي الضخم مع هذين الأمرين، ولِمَ هامشية الاهتمام بخطر الضم؟
إن النمو الدائم لنفوذ تيارات الإسلام السياسي، والسلطة العشائرية والقطاع الخاص، يقابله ضعف المؤسسة السياسية (سلطة ومعارضة) التي شلها اتفاق أوسلو والاحتكار الأميركي للعملية السياسية، وجعلها غير قادرة على إنتاج ثقافة سياسية جديدة ووعي وطني واكتفت بترديد الشعارات الوطنية، هذه الحالة ساهمت في تردي الوضع الفلسطيني على جميع المستويات، وكان من الطبيعي أن يخلف هذا الضعف فراغاً، سارعت كيانات اجتماعية وسياسية أُخرى إلى ملئه.
مسائل أُخرى
في هذه الآونة، ينشغل الجميع من أفراد وعشائر وأحزاب سياسية في الإعداد للانتخابات البلدية، وتتفاقم الصراعات على استحواذ كرسي المجلس البلدي، ولا عجب في أن تستأثر هذه الانتخابات باهتمام الشارع على اعتبار أنها انتخابات لمؤسسة حكم محلي تحتكّ بحياة المواطنين اليومية، ولا عجب، أيضاً، أن تتكاثف العثرات أمام بلدية الخليل في أداء دورها الوظيفي والوطني نتيجة تدخل العامل الحزبي بالعامل المؤسسي والذي عادة ما يفضي إلى مخرجات سلبية، بالإضافة إلى تأثر البلدية بالأزمة الحكومية كباقي مؤسسات الوطن.
في هذه الأوضاع، يمكننا أن نستنبط الأدلة على صحة مقولة أن حفرة في وسط الشارع تؤثر في السلوك الاجتماعي والسياسي للأفراد، فالذي يراقب ردات أفعال المواطنين حيال مشروع الضم، وخصوصاً في منطقة H2 الخاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية يمكنه أن يرى، بوضوح، حالة اللاإكتراث؛ فالمواطنون في هذه المنطقة التي يفترض أن تكون خط الدفاع الأول عن بلدة الخليل القديمة بحكم التلاصق الجغرافي، يعانون، بشكل كبير، تهميشاً حكومياً ومؤسساتياً، يُشغلهم في مسائل توفير الأمن والخدمات لمنطقتهم بشكل ذاتي، فلا يدع لديهم مساحة ولا متسعاً من الطاقة لجعل قضية البلدة القديمة أولوية وطنية.
في مقابل ذلك بقي المخطط الصهيوني إزاء مدينة الخليل ثابتاً ويشكل نقطة التقاء للمعسكرات السياسية الصهيونية على الرغم من اختلافها وصراعها على الحكم. وظلت، الخليل، خارج كل السيناريوهات التي تتناول مآلات وفرص تطبيق مشروع الضم الإسرائيلي بشكل جزئي أو كامل، وما زالت المساعي الإسرائيلية مستمرة لتفريغ البلدة القديمة من كل ما هو فلسطيني.
إن كل هذه الأحداث والتراكمات، ما زالت تفت في عضد الحالة الجماهيرية في الخليل، وهو ما يجعل البلدة القديمة أكثر عرضة لمشاريع التهويد والضم التي تنفذها الحكومة الصهيونية اليمينية، من دون أن يكون هناك حراك جماهيري يرقى إلى مستوى هذه الكارثة الوطنية، الأمر الذي يجعل عبارة نتنياهو عندما زار الخليل هي السيناريو الوحيد الذي قد تتبناه الحكومة الإسرائيلية، والذي قد يكون الحقيقة المؤلمة التي لا بد أن نسعى لتفاديها: "سنبقى فيها إلى الأبد ولن نخرج منها أبداً."