العيساوية البلدة المقدسية المتمردة: سياسات المحو وسياسات الصمود
Date:
11 août 2020

تعاني بلدة العيساوية (شمالي مدينة القدس، على بعد 2.9 كم عن مركز المدينة)، جرّاء سياسات استعمار استيطاني واستغلالي إسرائيلي هدفه المحو الاجتماعي والثقافي والمكاني والديموغرافي، إلى جانب الاستغلال والنهب/ المحو الاقتصادي الذي يعزز قيم الاستلاب والاغتراب لدى المستعمَر، ويعزز هيمنة المستعمِر على المستعمَر. استخدمت إسرائيل، كمشروع استعماري، مجموعة كبيرة من السياسات والأدوات للهيمنة والسيطرة والمحو والاستغلال في بلدة العيساوية، منها: الاحتلال العسكري للبلدة، مصادرة أراضي البلدة، البناء الاستعماري على أراضي القرية، الافتقار إلى خريطة هيكلية للبلدة، سياسات الهدم والمخالفات للمنازل، الاعتقالات، الإقامة المنزلية الإجبارية، الإبعاد عن البلدة، هجمات الشرطة والجيش والقوات الخاصة على البلدة، المداهمات الليلية، المخالفات المالية المتعددة، وغيرها من السياسات المستجدة والمستحدثة وغير المرئية كخطط تهدف إلى تحقيق المحو الفيزيائي وغير الفيزيائي والاستغلال.[1]

 

صورة جوية لجزء من حي التلة الفرنسية

 

استُعمرت بلدة العيساوية سنة 1967، وبقيت منطقة محايدة أو أرضاً حرام في الفترة ما بين نكبة 1948 ونكسة 1967. تبلغ مساحة أراضي البلدة ما يقارب 12.000 دونم، صودر ما يقارب 90% منها، وبقي التمدد الجغرافي والديموغرافي للبلدة محصوراً في المنطقة السكنية التي أُقيمت عليها البلدة تاريخياً، وتمددت بشكل بسيط حول البناء القائم في مرحلة ما قبل 1967 وما بعدها، وحتى اليوم تعاني البلدة جرّاء عدم وجود خريطة هيكلية تسمح بالبناء وتنظمه. وقامت بلدية القدس مطلع تسعينيات القرن الماضي بوضع خريطة هيكلية لم تراعِ حاجات أهالي العيساوية، ورفضها أهالي البلدة ولم تُنفذ.

 

حي في العيساوية، تصوير أحمد عز الدين أسعد

 

وخلال الفترة (2004-2007) قام أهالي العيساوية بمبادرات لتنظيم أراضي القرية، كي يتمكنوا من البناء والحصول على الترخيص وتجنب أوامر الهدم والمخالفات المالية الكبيرة التي تتجاوز قيمتها تكلفة البناء الفعلي، وكانت الأمور تنتهي بعد دفع مبالغ كبيرة كمخالفات بناء من دون ترخيص أو هدم سلطات الاستعمار الإسرائيلي للمنزل. ويُعتبر هذا السلوك الاستعماري تطهيراً مكانياً واجتماعياً وسكانياً ونفسياً للأسرة المقدسية التي يتم هدم منزلها، ولا يهمل الطابع الاستغلالي في عملية هدم المنازل في العيساوية بصورة خاصة والقدس بصورة عامة، فهدم المنزل يأتي بعد سلسلة طويلة من دفع الأموال للاستعمار الإسرائيلي كمخالفات مالية، تتراوح قيمتها ما بين 200 -500 ألف شيكل. وبعد الانتهاء من دفع المخالفات، ترسل بلدية الاحتلال جرافاتها الاستعمارية وتهدم المنزل، ويدفع صاحب المنزل تكلفة هدم منزله من جيبه الخاص والتي تتراوح ما بين 50 -80 ألف شيكل.

 

مقطع من شارع في حي البيادر بلا رصيف في بلدة العيساوية، تصوير أحمد عز الدين أسعد

 

بالتوازي مع مصادرة مساحات كبيرة من أراضي العيساوية، وعدم تنظيم خريطة هيكلية للبلدة، عمدت السلطات الاستعمارية إلى تحويل العيساوية إلى غيتو أصلاني فلسطيني، أو جزيرة مقدسية على اليابسة، محاطة بشبكة استعمارية معقدة من أدوات الاستعمار الاستيطاني والاستغلالي. فقد حوصرت العيساوية وتم عزلها عن مدينة القدس وقراها الأُخرى وبلداتها، وكان العزل من خلال سياسة التسييج الاستعماري والهيمنة المكانية والجغرافية والديموغرافية والتخطيطية؛ فقد بنيت الجامعة العبرية ومستشفى هداسا- العيساوية، ومعسكر للجيش الإسرائيلي وحي التلة الفرنسية الاستعماري، وجدار الفصل العنصري، وشارع رقم 1، وشارع معاليه أدوميم الاستعماري، على شكل طوق استعماري حول بلدة العيساوية. إلى جانب ذلك تعمل السلطات الاستعمارية على سياسة الخنق الجغرافي والديموغرافي في العيساوية من خلال إنشاء حديقة توراتية "وطنية" على ما تبقى من أراضي مفتوحة في البلدة، والهدف من الحديقة ربط الجامعة العبرية ومستشفى هداسا والأحياء الاستعمارية في محيط العيساوية مع القدس ومستعمَرة معاليه أدوميم. وهناك مخطط لبلدية القدس الاستعمارية لإنشاء منطقة صناعية على أراضي العيساوية ستقام على 35 دونماً من أراضي العيساوية، وستقوم بتشغيل 2500 عامل من بلدية العيساوية. ويمثل مثال المنطقة الصناعية الشكل الهجين والمركب والمعقد للاستعمار الإسرائيلي كاستعمار استيطاني واستغلالي، يهدف إلى المحو المكاني والثقافي ومصادرة الأراضي، والمحو الاجتماعي الاقتصادي بتحويل الفلسطيني المستعمَر إلى يد عاملة رخيصة، يكون نتاج جهده وتعبه في خدمة وتنمية المشروع الاستعماري.

 

مقطع للرصيف الكبير والواسع والنظيف في مدخل التلة الفرنسية، تصوير أحمد عز الدين

 

إلى جانب تلك السياسات الاستعمارية مارست إسرائيل ولا تزال كثيراً من السياسات الاستعمارية المرئية وغير المرئية (سياسات التخطيط، التعليم، الصحة، التأمين الوطني الإسرائيلي، المركز الجماهيري، البلدية وغيرها من الإجراءات والمؤسسات التي تعمل ضمن سياسات القوة الناعمة). وتمارس القوة الناعمة في العيساوية إلى جانب القوة الصلبة والعنيفة المتمثلة في (هدم المنازل، الاعتقالات، الإقامة المنزلية، الإبعاد عن البلدة، بناء الأحياء والمؤسسات الاستعمارية). إلى جانب هذا الاستعمار الاستيطاني الذي تعاني جرّاءه بلدة العيساوية والقدس عاصمة فلسطين، وباقي فلسطين التاريخية، إلى جانب الاستعمار الاستيطاني المباشر وغير المباشر، أو المرئي وغير المرئي مثل سياسات التخطيط والهيمنة والاستغلال الاقتصادي والدمج الاقتصادي والعزل المكاني الجغرافي، يتجلى الاستعمار الاستغلالي الإسرائيلي كرديف ورافد للاستعمار الاستيطاني؛ كون الاستعمار الإسرائيلي هو استعمار هجين يجمع في جوهره ويوظف أدوات وبنى الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الاستغلالي والفصل العنصري، ويسعى لتحقيق تطهير الفلسطينيين (التطهير المكاني والثقافي والاجتماعي والديموغرافي والعرقي وغيرها). يحقق الاستعمار الاستغلالي مصادرة واستغلال الأراضي ومواردها الطبيعية، إلى جانب العمال كأيد عاملة فلسطينية رخيصة يمكن استغلالها في بناء مشروع الاستعمار الاستيطاني الاستغلالي الإسرائيلي، وفي حالة العيساوية يعمل جزء كبير من أهالي البلدة في مؤسسات المشروع الاستعماري بنسبة تقارب 50% من مجموع اليد العاملة في القرية، وبسبب مصادرة أراضي القرية اندثر قطاع الزراعة الذي أصبح يشغل نسبة لا تتجاوز أكثر من 1% من اليد العاملة في العيساوية، ويتوزع الباقي على قطاعات الخدمات والتجارة والصناعة.[2] 

يمكن اعتبار بلدة العيساوية مثالاً صارخاً لمقاربة فرانز فانون بين منطقة المستعمِر ومنطقة المستعمَر؛ فالحي الاستعماري القريب من بلدة العيساوية "التلة الفرنسية- جيفعات شبيرا"، مقام على أراضي قرية العيساوية التي تم استعمارها ومصادرات أراضيها. بني  الحي سنة 1971 على مساحة 394 دونماً من أراضي العيساوية ويسكن فيه ما يقارب 7000 مستوطن تقريباً، وفي مقابل ذلك يسكن في العيساوية  بحسب تقديرات أهالي القرية وبعض مؤسسات البلدة ما بين 22.000-30.000 ألف مواطن فلسطيني، على مساحة لا تتجاوز 660-700 دونم، وبلغت الكثافة السكانية في قرية العيساوية نحو 25 فلسطينياً للدونم الواحد، بينما في  الأحياء الإسرائيلية المجاورة مثل التلة الفرنسية يبلغ متوسط الكثافة السكانية الإسرائيلية 8.9 مستعمِر إسرائيلي للدونم الواحد؛ فمنطقة المستعمَر المقدسي العيساوي تعاني الاكتظاظ السكاني والازدحام والعشوائية في البناء، بينما منطقة المستعمِر الإسرائيلي في الاحياء المجاورة هي منظمة ومخططة لخدمة المستعمِر، والكثافة السكانية فيها منخفضة.

وعند معاينة الواقع أو الصورة من حي التلة الفرنسية كحي استعماري إسرائيلي، مع بلدة العيساوية تكون المفارقة الفانونية واضحة بشكل جلي، فمباني التلة الفرنسية مبنية بالحجر، وموزعة بشكل أفقي ترتفع طابقين أو ثلاثة على أكثر تقدير، وتراعي وجود فضاءات ومساحات واسعة بين المنازل، وشوارعها معبدة، وفيها أرصفة عريضة، ومنتزهات عامة وحدائق، وإنارة شوارع، وهناك تخضير وتشجير للحي، وعناية من جانب بلدية القدس في الخدمات العامة، بينما هناك صورة معكوسة ومقلوبة في العيساوية، التي تعاني إهمالاً استعمارياً وهيمنة، فلا يوجد فيها منتزهات عامة، وعند التفكير في إنشاء منتزهات تصمم لمصلحة المستعمِر الإسرائيلي كحديقة وطنية يراد إنشاؤها على أراضي العيساوية لمصلحة السلطات الاستعمارية وسكانها من المستعمرين، ولمنع تمدد البلدة الجغرافي والديموغرافي. فتشهد العيساوية مؤخراً هجمة استعمارية، وتقام هناك حديقة ضمن مشروع لمستشفى هداسا كمتنزه للمرضى الإسرائيليين.

 

رصيف صغير ومحفر يستخدم لركن السيارات لعدم توفر مواقف بسبب إهمال القرية وعدم توفر مخطط هيكلي، تصوير أحمد عز الدين أسعد

 

أمّا قرية العيساوية فتوسعت بشكل عشوائي وعمودي وترتفع بناياتها لأكثر من 6 طبقات؛ بسبب عدم القدرة على التمدد الأفقي، وشوارع البلدة وأرصفتها والبنية التحتية في القرية مهملة وغير متطورة، ولا تسعى بلدية القدس الاستعمارية لتطويرها كونها منطقة المستعمَر الفلسطيني المقدسي، على الرغم من أن أهالي البلدية يدفعون ضريبة الأرنونا (المسقوفات)، لكن تستثمر تلك الضريبة لتطوير الأحياء الإسرائيلية. وهنا أيضاً يبرز الطابع الاستغلالي في المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي.

تبين لنا المقاربة الفانونية بين الحي الاستعماري الإسرائيلي والحي المستعمَر الفلسطيني، جوهر التناقض الإسرائيلي الفلسطيني؛ فالمشروع الاستعماري يريد توفير الرفاهية والرخاء والرفاه الاجتماعي للمستعمِر الإسرائيلي، لتعزيز البعد الاستيطاني الاستعماري، حتى يستمر المشروع كبنية استعمارية مستمرة عبر الزمن تحقق النكبة المستمرة ضد المجتمع الأصلاني الفلسطيني، في مقابل تلك الحالة الاستعمارية؛ تظهر الحالة الأصلانية الفلسطينية التي يحاول المستعمِر تحقيق ما أمكن من المحو المكاني بمصادرة الأراضي ومنع البناء وسياسات تخطيط الهيمنة، والمحو الاجتماعي بتشتيت العائلة الفلسطينية والأسرة الفلسطينية وتنكيد عيشها من أجل الرحيل من العيساوية إلى مناطق مقدسية أُخرى أو إلى الأراضي المستعمرة سنة 1967، وعمل المشروع الاستيطاني الحثيث على محو الاقتصاد الفلسطيني.

في العيساوية رغم المعاناة والمأساة والنكبة المستمرة المتراصة؛ من هدم للمنازل والإبعاد والإقامة الجبرية المنزلية ومخالفات البناء وغيرها من سياسات الاستعمار الإسرائيلي المرئية وغير المرئية، الآنية وطويلة المدى .... فإن هناك مؤشرات ومبادرات وشباب ما زالوا يرون في العيساوية والقدس وفلسطين وطنهم وبلادهم وقريتهم، التي ولودوا فيها، ولن يتركوها، أو يخرجوا منها مهما حدث .... ويدرك أهالي العيساوية وشبابها غايات الهجمة الاستعمارية على العيساوية، كونهم يشكلون ظهير مدينة القدس والبلدة القديمة والمسجد الأقصى .... هناك في العيساوية في القدس، يولد الأمل، والتفاؤل، على الرغم من المأساة؛ فالعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر واضحة وجلية، وهناك احتكاك يومي بينهما، وهناك سياسات استعمار استيطاني واستغلالي وفصل عنصري وهيمنة، وسلطة ظاهرة وأُخرى باطنة ومضمرة تمارس كلتاهما العنف الاستعماري؛ ومن رحم تلك المعاناة والبؤس يولد التناقض، وتحدد ملامح التناقض بين مشروع استعمار استيطاني وحركة تحرر وطني فلسطيني، وتندثر كل النقاشات والأيدولوجيات الأُخرى.    

 

[1] بعض أفكار وتصورات هذه المقالة هي من وحي مجموعة من المقابلات والملاحظة بالمشاركة والمعاينة الميدانية في بلدة العيساوية. لاحقاً، وقبل نهاية سنة 2020 ستصدر دراسة تحليلية عن الانتهاكات الإسرائيلية في العيساوية والصمود الجماعي، ككتيب باللغتين العربية والإنكليزية عن مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.

[2]  بشأن النسبة المئوية لكل قطاع، ينظر: "دليل بلدة العيساوية"، القدس: معهد الأبحاث التطبيقية (أريج)، 2012.