من الناحية القانونية تم إلغاء العبودية في الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من 200 عام، ومع ذلك فإن مظاهر التعامل مع السود ذوي الأصول الأفريقية، كعبيد، لا يُستهان بها. ويصعب على الليبراليين الذين يُعلون من شأن القانون والمساواة أمام القانون إيجاد حل لتلك المعضلة، وربما، أقول ربما، صدمتهم الأحداث المتكررة بسبب التعامل مع السود كعبيد، ليس فقط من جانب الشرطة، كما ظهر أخيراً مع قتل فلويد، ضحية العنف الشرطي، بل أيضاً في تقديم تحليل علمي للظواهر المؤشرة على التمييز ضد السود في مختلف الحقول والتي تشير إليها الإحصاءات الرسمية الأميركية ذاتها.
يجدر البحث في البنية ذاتها التي تولد العنصرية ضد السود والأقليات الإثنية الأُخرى، لا على العلن في هذه الممارسة أو تلك، في هذا الحقل أو ذاك، كأن ظاهرة العنصرية خارج بنية المجتمع ذاتها.
والبنية التي أشير إليها هي بنية (مزدوجة) إن جاز التعبير، اكتسبت ازدواجيتها من الظرف التاريخي لتشكل المجتمع الأميركي، ونعني بذلك تشكله كمجتمع استيطاني من جهة ورأسمالي من جهة أُخرى، ولا يمكن للمجتمع الاستيطاني إلاّ أن يكون رأسمالياً باعتبار المشروع الاستيطاني الأبيض هو نتاج الرأسمالية الأوروبية أصلاً، الأمر الذي منح تلك البنية طابعها المزدوج: العنصرية كسمة ملازمة لأيديولوجيا الاستعمار الاستيطاني، والعنصرية كوجه العملة الثاني لانعدام المساواة الطبقية والاجتماعية في المجتمع الرأسمالي.
بالنسبة إلى عنصرية الاستعمار الاستيطاني فهي بالضرورة خاصية جوهرية لذلك الاستعمار، إذ إن سمة المشروع الاستيطاني الجوهرية تقوم إمّا على نفي الأصلاني وإخراجه بطريقة ما من حيز الوجود البيولوجي أو السياسي أو الاثنين معاً، وإمّا على الإبادة العرقية بأبشع صورها كما جرى مع السكان الأصليين في الأميركيتين، وإمّا بالتطهير العرقي والسعي لتفريغ الأرض كما في فلسطين. ولا ينهض الاستعمار الاستيطاني إلاّ على رفض الآخر ونفي وجوده السياسي، كما في فلسطين مثلاً، وإن أمكن حتى البيولوجي، كما في حالة الإبادة الجماعية. وفي الحالتين العنصرية هي سيدة الموقف، وبالتالي فهي عنصر من عناصر تشكل الاستعمار الاستيطاني.
أمّا وأن السود الأفارقة، كعبيد في المشروع الرأسمالي الأميركي الناشئ قبل قرون، كانوا هم القوة الإنتاجية الرئيسة فذلك جعل من عنصرية المشروع الرأسمالي أيضاً عنصرية مزدوجة: فمن جهة العنصرية تجاههم كعبيد سود، ومن جهة ثانية العنصرية تجاههم كعمال يستوجب عصر القيمة الزائدة منهم حتى النخاع كما يقال. إن كل التعديلات على القوانين تجاه السود الأفارقة منذ إلغاء العبودية ولاحقاً في التعديلات العديدة فيما يتعلق بالحقوق لم تلغِ، ولا أتوقعها ستفعل في المدى القريب، الطابع العبودي العصري للسلوك الأميركي الأبيض تجاه السود الأفارقة.
يمكننا اعتبار ما سقناه أعلاه مدخلاً للوقوف على ما نعتقد أنه محدودية حركة السود الأوسع انتشاراً والمعروفة أكثر على نطاق إعلامي، ونعني (حياة السود مهمة BLM)[1]، فهي حركة ركزت على عنف الشرطة، وكأنه حقل منفصل عن عنف المؤسسة والنظام نفسه كسمة ملازمة للثقافة الاستيطانية، فلم تطرح قضية السود كجزء من إشكالية بنية النظام الرأسمالي العنصري ذاته، وبالتالي ظلت محدودة في شعاراتها الخاصة بالسود كسود، وبعنف الشرطة كشرطة، لا بل محدودة أيضاً باستقطاب فئات إثنية وطبقية أُخرى تجد نفسها في موقع المظلوم في المجتمع الأميركي، فطالما القضية قضية السود حصراً في مواجهة شرطة (بيضاء) أصلاً، فالعربي ينظر إلى نفسه كأبيض وكذلك بالنسبة إلى ذوي الأصول اللاتينية، مع أن الفئتين تتعرضان للتمييز ذاته.
والجدير بالملاحظة، أن الأبيض يمكنه بطريقة ما النجاح باندماجه في عالم البيض: شهادة عليا، تغيير في الاسم الشخصي المتداول، تغيير في اللهجة، فيصعب والحال هذه إخراجه من فئة البيض، بينما الأسود مهما حاول ستظل بشرته سوداء. وبالتالي فالتركيز على البعد العنصري المعادي للأسود في نشاط حركة (BLM) من دون التطرق إلى مجمل البناء السياسي والاجتماعي المعادي لفئات عديدة إثنية وطبقية سيعني محدودية الحركة، وبالتالي قدرة النظام على امتصاص اندفاعها، وهذا ما يظهر جلياً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحركة لم تطرح أية شعارات ذات طابع خارج الطابع العنصري (أبيض/ أسود)، فلا تطرقت إلى نظام صحي بديل مثلاً، ولا إلى فرض ضرائب على المداخيل العالية، الأمر الذي يمكّننا من فهم حقيقة أن حيتان رأس المال الأميركي المعولم مثل أمازون وآبل لم تجد غضاضة في دعم الحركة بالملايين، ففي النهاية مصالح رأس المال غير مهددة جذرياً من الحركة، بل ويمكن التعايش معها واحتوائها أيضاً.
وقدرة الدولة ورأس المال على امتصاص الاندفاعة واحتواء الحركة ستكون سهلة باعتبارها حركة فضفاضة غير منظمة، وتفتقر إلى حد أدنى من التنظيم، فيما يغلب على شعاراتها الطابع الثقافي/ النخبوي (تركز على رفض العائلة النووية!!!!) لتغدو أقرب إلى ومضة منها إلى الحركة، سرعان ما تبهت، فضلاً عن أن لا حزب سياسياً يقوم بالدور القيادي المنوط به بالتعريف الغرامشوي للحزب (نقطة التوسط بين النظرية والممارسة). ومع ذلك فقد حققت حركة (BLM) نجاحات مهمة أبرزها استقطاب فئات شبابية بيضاء عديدة إلى جانبها طرحت موقفاً ثورياً من تراث الجنوب الأميركي العنصري الذي لا تزال تعبيراته قائمة في عدة رموز أبرزها التماثيل والعلم الجنوبي، وأخذت خطوة فريدة من نوعها بفرض تحطيم تلك الرموز والتماثيل، ومنها تمثال كولومبوس نفسه علانية وبقرارات رسمية من الولايات والمقاطعات.
لكل ذلك، ولما سبق ذكره، ولما سيأتي لاحقاً، فموقف العربي ملتبس من الحركة كنتاج لالتباس رغبته في الاندماج كأبيض ورفض المؤسسة له، بينما موقف الفلسطيني داعم لها، فالفلسطيني يشعر بالهم المشترك مع الأفريقي الأسود في مواجهة النظام الحليف للكيان الصهيوني.
وبالعودة إلى ما سبق فقد أشرنا ومنذ البداية إلى أن العنصرية سمة ملازمة للبنية في المجتمع الأميركي باعتباره استيطانياً أساساً ورأسمالياً أيضاً، وهذا ما يشكل في تصورنا المدخل الأهم لفهم العلاقة بين الكيان الصهيوني مثلاً والولايات المتحدة الأميركية.
ليست المسألة بتقديرنا راجعة فقط إلى اللوبي الصهيوني بما يعنيه ذلك من صك براءة، ربما تكون متعمدة، للسياسي الأميركي الذي يتعرض لضغط اللوبي الصهيوني بينما هو مجبر على سلوكه العدواني تجاه شعبنا، كما ليست بتصوري راجعة فقط إلى تلاقي المصالح الرأسمالية بين الدولتين، باعتبار أن تلك العلاقة متميزة عن كل علاقات الكيان مع الدول الرأسمالية الأُخرى. إن المحدد لتلك العلاقة، بخصوصيتها وحيويتها، هو بالضبط في كون الدولتين/المشروعين هما نتاج المشروع الاستعماري الأوروبي الأبيض ذاته، هذا في الشرق وذاك في الغرب، وذلك هو المصدر المشترك لتلاقي الأيديولوجيتين، الصهيونية والأوروبية البيضاء، بل أكثر: الأولى نتاج الثانية، طبعة من طبعاتها. فلا عجب إذاً في وقوف اليمين الصهيوني في أميركا ضد حركة السود الحالية.
تلك العلاقة الأيديولوجية تجعل من الطبيعي أن يلتقي، نظرياً على الأقل، ضحايا المشروعين: الفلسطينيون وجميع ضحايا المشروع الاستيطاني الأميركي؛ السود والسكان الأصلانيين تحديداً. لكن في الممارسة السياسية الفعلية لم تكن هذه بالضرورة انعكاساً لما هو نظري، فقد سجل تاريخ العرب والفلسطينيين في أميركا عدة إشكاليات في الممارسة السياسية للعرب والفلسطينيين وتحالفاتهم.
العربي في أميركا ينظر إلى نفسه كأبيض، بل (ناضل) طويلاً لينال ذلك التصنيف من الجهاز الحكومي الأميركي[2] وحتى بعدما نال تصنيفه (كأبيض) ظل يتعرض للتمييز وحتى قبل 11 أيلول/ سبتمبر بكثير، فهو غدا أبيض في التصنيف الرسمي وإن ظل (غير أبيض) في الممارسة العنصرية ضده. ربما يجب التنويه إلى البعد الطائفي الذي يشير إليه ضاحي، ويتفق معه الرفيدي، بأن اللبنانيين والسوريين الذين ناضلوا منذ مطلع القرن العشرين لنيل لقب (أبيض) كانوا من المسيحيين الذين، في تقديرنا، سعوا ليجدوا في الولايات المتحدة، المسيحية البيضاء، ملاذهم، هرباً من العثمانية الإسلامية بما يتضمنه تشريعها الديني من تمييز ضدهم باعتبارهم أهل كتاب.
في المقلب الثاني فإن العربي ذو الإرث الثقافي، وكنتاج للتاريخ والثقافة الدينية، لم تكن العبودية بغريبة عنه، فالنص الإسلامي لم يلغِ العبودية، فيما التاريخ يسجل ظاهرة العبودية كظاهرة واسعة الانتشار هي ومختلف تعبيراتها: سوق العبيد، تصنيفاتهم، أسعارهم، جنسياتهم ومواهبهم الخدمية إلى آخر ذلك من المظاهر المبثوثة في كتب ومراجع التاريخ الإسلامي. لذلك، وفي اعتقادنا، وبالنسبة إلى العربي فإن ظاهرة التمييز تجاه السود تبدو غير ذات إشكالية بفعل التراث الثقافي العربي الإسلامي، ولنا أن نعتبر ذلك بمثابة المدخل لفهم كيف أن العديد من الفلسطينيين المغتربين، بحسب ملاحظة الكتاب، ما زالوا يستخدمون لقب (عبد) عند الحديث عن الأسود ومن دون الشعور بأي حرج.
لكن ومع نشوء القضية الفلسطينية وتنامي الوعي السياسي لدى الأجيال العربية والفلسطينية ما بعد منتصف القرن الماضي، بدأت تتغير ملامح نظرة العرب والفلسطينيين وعلاقاتهم مع أطراف المعادلة الأميركية الداخلية. فقطاعات وازنة من العرب، وتحديداً من النخب المثقفة ورجال الأعمال الرأسماليين، نظرت إلى نفسها كأقلية تطمح لتجد لنفسها موطئ قدم في النظام السياسي الأميركي ذاته من منطلق (اللعب داخل الملعب ذاته)، ويمكن ببساطة الوقوف على حصاد تلك المحاولات لاكتشاف أنها تكاد تلامس الصفر، ومثال ذلك سعي جيمس زغبي واللجنة العربية لمكافحة التمييز العنصري مثلاً، التي اعتمدت في نشاطها لا على محاولة بناء فعل قاعدي شعبي، بل على محاولات حثيثة لتنظيم اتصالات معظمها ذات طابع شخصي مع أعضاء في الكونغرس وفاعلين في الإدارة، كما يذهب ضاحي.
من جهة ثانية، وبنشوء حركة المقاومة وتغلغلها وسط الجالية الفلسطينية في أميركا، بدأت تظهر ملامح علاقات جديدة مع قوى سوداء ومن منطلق عقائدي أكثر منه تلاقي أهداف النضال المشترك ضد الحليفين الصهيوني والأميركي.
يسجل الكاتب الأميركي ديريك آييد[3] العديد من الحقائق الموثقة عن تلك العلاقة ولا سيما في إشارته إلى موقف الجبهة الشعبية سنة 2014 في إثر قتل الشرطة لمايكل براون الأميركي الأسود ابن الثامنة عشر، وبيانها الذي يربط بشكل عقائدي بين الممارسة الصهيونية والممارسة الكولونيالية الأميركية داعياً إلى دعم الجالية الفلسطينية للنضال التحرري للسود الأفارقة داخل أميركا. ومن جهة ثانية يعدد الكاتب مراحل عديدة من علاقة الفهود السود في أميركا ورابطة العمال الثوريين السود بالثورة الفلسطينية وبالراحل ياسر عرفات، مشيراً إلى دور روبيرت وليامز وواطسون كأبرز الزعماء السود في تنظيم تلك العلاقة بين حركة الفهود السود وحركة المقاومة، وكذا دور جريدة The South End التي كلفها مقالها الافتتاحي دفاعاً عن حركة "فتح" حرق مقرها من غلاة اليمينيين.
يبدو لنا وبفعل السياسة الأميركية المعادية للحقوق الفلسطينية والمتحالفة مع الكيان الصهيوني أن بناء علاقات تعاون وتحالف وعمل مشترك بين ناشطين فلسطينيين وأفارقه سود هي في أفضل أوضاعها الآن، وخصوصاً مع السياسة العنصرية الصريحة لترامب تجاه الفلسطينيين والعرب والمسلمين بصورة عامة، وكذا تجاه المهاجرين والسود والأصول اللاتينية من جهة ثانية. ومن متابعات الكاتب، يمكن تسجيل ملاحظة أولية قوامها تنامي النشاط الشبابي الفلسطيني ممن يمكن اعتباره الجيل الثالث من الجالية الفلسطينية الذي يسعى لبناء علاقات نضال وعمل مشترك مع مختلف تلاوين المضطهدين في أميركا، وتحديداً السود وذوي الأصول اللاتينية، لكن لا مندوحة من الاعتراف بأن تراجع العمل الوطني المنظم في أوساط الجالية الفلسطينية كمظهر من مظاهر ما بعد اتفاق أوسلو، عكس نفسه على هذا البعد في النشاط الفلسطيني هناك، ليبقى في إطار مبادرات المجموعات الشبابية.
[1] - تستفيد المقالة هنا عن هذه الحركة من معطيات وتصورات قدمها ابن شقيقي المولود والمقيم بأميركا، رامز رفيدي، عبر دردشة سريعة معه على الهاتف.
[2] - لمزيد من تفصيل المحاولات التاريخية لنيل هذا التصنيف يمكن مراجعة المقالة الموثقة لعمر ضاحي، "العرب الأميركيون والتحرر من العنصرية: من التواطؤ إلى التضامن"، في موقع مجلة "الآداب" الإلكترونية.
[3] - انظر: لمزيد من التفصيل مقالة الكاتب، "الفهود السود وفلسطين: الأممية السوداء والثورة الفلسطينية"، في ملف "الآداب" الخاص.