منذ احتلال الضفة الغربية ومدينة القدس وقطاع غزة وغيرها من أراضي الدول العربية، تذرعت إسرائيل بالحاجات والاعتبارات الأمنية واعتبرتها بقرتها المقدسة من أجل استمرار استعمارها وسيطرتها على المناطق العربية، ولا سيما الفلسطينية منها. ومن أجل ذلك، وضعت إسرائيل لها حدوداً مزيفة من الناحية الأمنية فاعتبرت نهر الأردن حدوداً أمنية، والخط الأخضر حدوداً سياسية.
وسرعان ما تبين كذب الاعتبارات الأمنية والسياسية سوياً، عندما بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعملية سطو وسيطرة واسعة باسم الحاجات الأمنية، على أراضٍ فلسطينية لبناء مستعمرات إسرائيلية يهودية عليها، من أجل إيجاد بيئة طاردة للفلسطينين، مروراً بإيجاد معازل وكانتونات فلسطينية منفصلة جغرافياً وديموغرافياً في الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس وعزلها عن بعضها البعض.
ولا بد من الإشارة، إلى رفض الأردن ومصر السماح ببقاء أية سيطرة إسرائيلية على أراضٍ في دولتيهما بحجة الاعتبارات الأمنية، فتم استبدالها بترتيبات أمنية ما زالت فعالة حتى هذا اليوم، على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على اتفاقية السلام مع مصر، وأقل من ثلاثة عقود على اتفاقية السلام مع الأردن.
الحاجات الأمنية الإسرائيلية
طرحت دولة الاحتلال مجموعة من الاعتبارات الأمنية كشرط لأي سلام مستقبلي مع فلسطين، كان من أهمها:
- عدم السماح بوجود أي جيش غريب في المنطقة الواقعة بين دولة إسرائيل والأردن، أي المناطق الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، بما في ذلك عودة الجيش الأردني.
- اعتبار الأردن منطقة فاصلة بين إسرائيل والجبهة الشرقية المزعومة (العراق) وفق المفهوم الإسرائيلي، ولهذا السبب تم التوقيع على اتفاقيات سلام مع الأردن.
- إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وعدم عقدها أية تحالفات مع أية دولة أُخرى ضد إسرائيل.
- سيطرة إسرائيلية على القدس وعلى أراضٍ فلسطينية في المناطق الشرقية والغربية من الضفة الغربية، لحماية ما تسميه مطار اللد (مطار بن -غوريون) والحدود الأردنية-الفلسطينية.
- احتفاظ إسرائيل بخطوط التنقل والحركة -خطوط المواصلات- مثل شارع ألون وعابر السامرة وشارع 433 وشارع القدس أريحا للحركة الإسرائيلية الحرة وغير المحدودة.[1]
- سيطرة إسرائيلية على المجال الجوي الفلسطيني الذي سيخضع للإشراف والرقابة والإدارة الإسرائيلية الموحدة، وعلى المجال البحري، وعلى الأطياف الكهرومغناطيسية.[2]
وعندما تولى بنيامين نتنياهو الحكم للمرة الثانية في سنة 2009، تخلى عن مسألة الوجود الموقت أو الترتيبات الأمنية مع الدولة الفلسطينية المستقبلية، لمصلحة الوجود الدائم، العسكري والمدني في أراضي الدولة الموعودة، بواسطة ضم أكثر من 30% من أراضيها إلى السيادة الإسرائيلية وفق صفقة القرن.
لقد توافقت صفقة القرن، مع الطروحات الإسرائيلية في كل المجالات، وخصوصاً إذا علمنا أن شخصيات إسرائيلية مثل رون دريمر (سفير إسرائيل السابق في الولايات المتحدة) ودوري غولد (رئيس بعثة إسرائيل في الأمم المتحدة سابقاً) ساهما مساهمة كبيرة مع دافيد فريدمان (السفير الأميركي في إسرائيل) في وضع نقاط وتفصيلات صفقة القرن،[3] التي "منحت" إسرائيل أكثر من 30% من مساحة الضفة الغربية، إضافة إلى مساحة القدس الشرقية أو المنطقة الحرام (خطوط وقف إطلاق النار - الخط الأخضر)، الذي فصل بين الأردن وإسرائيل قبل سنة 1967، والتي تقدر مساحتها بأكثر من 5% من مساحة الضفة الغربية.[4]
تبديد المخاوف الأمنية الإسرائيلية
لمواجهة الرغبات الإسرائيلية في المحافظة على الأراضي المصرية والمستعمرات الإسرائيلية في شبه جزيرة سيناء تحت سيادتها، ولتبديد ما ادعته إسرائيل بالتهديدات الأمنية، تعهدت جمهورية مصر العربية في اتفاقيات كامب ديفيد الموقعة سنة 1978، بألاّ يصدر عنها أي فعل من أفعال الحرب والعدوان وأفعال العنف، إن كان ذلك بقوات منها أو بمساندة من قوات خارجية أو التهديد بها من داخل أراضيها. كما اتفق الطرفان على شكل الترتيبات الأمنية المتبادلة في مناطق معينة، تكون محدودة السلاح والجنود مع وجود قوات ومراقبين من الأمم المتحدة.[5]
وفي السياق المذكور، تحدث اتفاق وادي عربة الموقع بين الأردن ودولة الاحتلال الإسرائيلي، عن رفض الدولتين الدخول في أي تحالف عسكري أو أمني مع طرف ثالث، أو إقامة قواعد عسكرية تخل بسلامة وأمن أي طرف من الطرفين الموقعين على اتفاقية السلام، واتفقا على شكل الترتيبات الأمنية على الحدود بين البلدين.[6]
وسبق المفاوضات المصرية-الإسرائيلية والأردنية-الإسرائيلية، مشاورات اشترط فيها الطرف العربي عدم وجود أي تجمع مدني أو عسكري إسرائيلي في أراضي الدولتين، كشرط أساسي لأي سلام مستقبلي بين الأطراف. حتى الأراضي التي يملكها إسرائيليون يهود وتقع في منطقة الباقورة والغمر الأردنية، اتُفق على تأجيرها لدولة إسرائيل مدة 25 عاماً.
إجمالا يمكن القول، إنه ما كان "لاتفاقيات السلام" أن توقع بين الطرفين العربي والإسرائيلي لولا موافقة دولة الاحتلال على العودة إلى الحدود الدولية. ونتيجة ذلك، تشهد الحدود الإسرائيلية مع كل من مصر والأردن هدوءاً لم تشهده الكثير من الدول حتى بين الدول الصديقة.
إسوة بالدولتين العربيتين، حاولت السلطة الوطنية الفلسطينية وعبر ثلاثة عقود من المفاوضات مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بما فيها حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، تبديد المخاوف الإسرائيلية في مجال الأمن، على الرغم من إدراكها أن الأمن ليس المحرك في سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، مثل استعدادها لتحويل الدولة المستقبلية في الضفة الغربية إلى دولة منزوعة السلاح، ووافقت أو اقترحت وجود قوات أميركية أو قوات من حلف الناتو في الأغوار الفلسطينية وشمالي البحر الميت، إضافة إلى آليات رقابة عسكرية مشددة لم تشهدها أية حدود في العالم.[7]
لكن الرفض الإسرائيلي وصل إلى ذروته، عندما رفض نتنياهو خطة الترتيبات الأمنية في الضفة الغربية التي وضعها الجنرال الأميركي جون ألن سنة 2013، منهياً بذلك أية بارقة أمل في التوصل إلى حل نهائي مع الفلسطينيين، ومتمسكاً في الوقت نفسه بالوجود الإسرائيلي العسكري والمدني الدائم في شمالي البحر الميت وغور الأردن، الذي تطور فيما بعد ليصل إلى المطالبة بالسيادة الإسرائيلية على هاتين المنطقتين وعلى غيرها من المناطق المحتلة.[8]
كما بُدد فشل وزيف نظرية أمنية أُخرى طرحتها دولة الاحتلال الإسرائيلي، القائلة إن المستعمرات جزء مهم من الأمن الإسرائيلي، إذ أشار كثير من التقارير المهنية الإسرائيلية التي قدمها العديد من الضباط، إلى أن المستعمرات تشكل عبئاً كبيراً على الأمن الإسرائيلي، وخصوصاً في أوقات الطوارئ، فقد أظهرت انتفاضة الأقصى 2000 أن المستعمرات تحتاج إلى حماية كبيرة خشية تسلل فلسطينيين إليها بهدف تنفيذ عمليات، وهو ما دفع إسرائيل إلى زيادة تجنيد الاحتياط واستئجار الشركات الأمنية، وما رافق ذلك من زيادة في الإنفاق والأعباء الاقتصادية. وفي السياق المذكور، صرح الجنرال احتياط، نوعم تيفون أن المستعمرات لا تعتبر عنصراً مركزياً في الأمن الإسرائيلي.[9]
حتى جدار الفصل، فقد استخدم لمصادرة أراضي الفلسطينيين وتطويق تجمعاتهم المتعددة، وبدلاً من أن يكون فاصلاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تحول إلى جدار طرد الفلسطينيين، وعزل من لا يمكن عزله. كذلك لا بد من الإشارة إلى أن الشوارع التي شقتها في طول الضفة الغربية وعرضها والقدس، باسم الأمن، ستصبح أهم الوسائل الإسرائيلية الاستراتيجية لحشر الفلسطينيين في كانتونات ومعازل وحصار.
خلاصة
لم يكن الأمن سوى ذريعة للسيطرة على الأراضي الفلسطينية الخاصة والعامة، فمناطق القدس والأغوار وشمالي البحر الميت تشكل عبئاً أمنياً على من يوجد فيها من الناحية العسكرية، وبالتالي لا يُعتبر الوجود العسكري ضمانة لوجود دولة إسرائيل وسلامتها، بل هو العبء الأمني الإضافي وفق موقف كثير من القيادات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، الذين أكدوا في أكثر من مناسبة أن السلام مع ترتيبات وتسويات أمنية أفضل لمستقبل إسرائيل في المنطقة من الواقع الحالي.
علاوة على ذلك، وفرت اتفاقية "السلام" مع الأردن مساحة شاسعة من الأراضي لتكون حاجزاً بين ما تسميه إسرائيل المخاطر القادمة من الشرق وإيران، وهو ما ينفي الحاجة المزعومة إلى بقاء إسرائيل في شمالي البحر الميت وغور الأردن.
لقد تبين من المفاوضات التي جرت مع االقيادة الفلسطينية على مدار العقود الثلاثة الماضية أن الأمن لم يكن الهم الأساسي لدولة إسرائيل، إنما كان هناك رغبة إسرائيلية لتحقيق هدفين مركزيين: الأول، السيطرة على أكبر نسبة من أراضٍ فلسطينية بما في ذلك منطقتي غور الأردن وشمالي البحر الميت الخاليتين تقريباً من المستوطنين حتى اليوم، وضمها إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي.[10] والثاني، التخلص من حكم السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين الذين أصبحوا يشكلون عبئاً ديموغرافياً في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لا تستطيع دولة الاحتلال تحمله.
وفي حال تحقق الضم، ستحول المدن والقرى الفلسطينية إلى عشرات الكانتونات والمعازل بحدود مع دولة الاحتلال تصل بطول 2000 كم، وما يرافق ذلك من مشكلات سياسية ووطنية واقتصادية واجتماعية، وهو ما يتطلب من الفلسطينيين البحث عن برامج نضالية ومشاريع صمود جديدة تأخذ بعين الاعتبار الحل في كل فلسطين التاريخية، يجمع فيه كل الفلسطينيين، بدلاً من حل دولتين لشعبين، الذي أفشلته إسرائيل بحجج كثيرة من ضمنها الاعتبارات والحاجات الأمنية.
الصورة: الاغوار، تصوير أحمد حنيطي.
[1]. وفق المفهوم الإسرائيلي أصبحت بعض هذه الطرق طرق التواصل وحدوداً بين أجزاء الضفة الغربية وإسرائيل.
[2]. الهندي عليان، "الجدار الفاصل، وجهات نظر إسرائيلية في الفصل أحادي الجانب" (الحملة الشعبية للسلام والديمقراطية، 2004)، ص 133. الوثيقة في الكتاب تُرجمت من كتاب غلعاد شير، "على بعد خطوة"، الذي يتحدث عن المفاوضات التي سبقت كامب ديفيد وخلاله.
[3]. "صفقة القرن: السفير فريدمان يشكر الدكتور دوري غولد على مساهمته"، المركز المقدسي لشؤون الجمهور والدولة، 2/2/2020. تقرير صادر عن المركز الذي ساهمت دراساته في معظم تفصيلات الصفقة.
[4]. أريئيلي شاؤول، "أرض إسرائيل ضد دولة إسرائيل- الأرض والأمن والاستيطان"، مجلة "أفق جديد"، العدد 205، 10/6/2005، ص 53.
[5]. وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، "معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل' كامب ديفيد'"، 17 سبتمبر (أيلول) 1978. الوثيقة منشورة من جانب وزارة الخارجية المصرية سنة 1979، نشرت في الموقع الإلكتروني info.wafa.ps .
[6]. "وثائق معاهدة السلام الأردنية-الإسرائيلية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، المجلد 5، العدد 20 (خريف 1994)، ص 183.
[7]. "عباس يقترح نشر قوات من الناتو في دولة فلسطين المستقبلية"، الموقع الإلكتروني لمحطة الحرة. www.alhurra.com، 3/2/2014.
[8]. سبير أوري، "نظرية الأمن لبنيامين نتنياهو ويعلون سياسية أكثر منها أمنية". الموقع الإلكتروني لمونيتير www.al-monitor.com ، 1/2/2015.
[9]. "المستوطنات تساهم أو تمس بالأمن الإسرائيلي". تصريحات الجنرال الإسرائيلي وردت خلال يوم دراسي عقد في مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 23/1/2017.
[10]. إييال هارؤبين، "سرقة واستغلال، سياسة إسرائيل في غور الأردن وشمالي البحر الميت"، يبلغ عدد المستعمرات في هذه المنطقة 38 مستعمرة، ويسكنها أقل من 10، ومن أكبر المستعمرات في هاتين المنطقتين، معاليه أفرايم وشدموت يريحو ومتسفيه يريحو، ويشكل عدد السكان فيها نصف المستوطنين. أمّا بقية المستعمرات فعدد المستوطنين فيها يتراوح ما بين 100-300 مستوطن، ولم تنجح إسرائيل في زيادة هذه الأعداد على الرغم من سيطرتها على هذه المنطقة منذ 53 عاماً.