"فوضى" مسلسل تلفزيوني من إنتاج إسرائيلي بدأ بثّه أول مرة في سنة 2015، وسرعان ما اختارته شركة "نتفلكس" للبثّ التلفزيوني، وهو الآن في موسمه الثالث. في سنة 2017، اعتبرت صحيفة "نيويورك تايمز" المسلسل أحد أفضل المسلسلات العالمية للسنة. ولا شك في أنه أحد أكثر الإنتاجات الثقافية الإسرائيلية مشاهدة خلال عقود، حتى إنه قد يكون أكثر الأعمال الفنية المتعلقة بإسرائيل انتشاراً منذ فيلم "الخروج"Exodus الذي أنتجته هوليوود سنة 1960 (استناداً إلى رواية ليون يوريس التي تحمل الاسم نفسه).
ولئن قام فيلم "الخروج" بنشر الرواية الإسرائيلية للنكبة، وإقامة دولة إسرائيل، وتعميمها على شريحة واسعة من الجمهور، فإن "فوضى" يمكنه أن يؤدي الدور نفسه بالنسبة إلى نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلي، بحيث يروّج نسخةً بديلة من الحقيقة تشكّل أداةً فعّالة للبروباغندا الإسرائيلية.
يركّز المسلسل على وحدة من القوات الخاصة في الجيش الإسرائيلي، تُسمَّى باللغة العبرية "مستعرفيم"، أي "مستعربين"، وتتكوّن من أفراد عسكريين يتخفّون كفلسطينيين عرب للتغلغل في المجتمع الفلسطيني كمدنيين، وتوكَل إليهم مهمة جمع المعلومات، وخطف أو قتل الفلسطينيين الذين يرزحون تحت الاحتلال. وقد واجه المسلسل بعض الانتقادات السلبية في الإعلام، لكن المديح الذي لقيه كان أكبر بكثير في وسائل الإعلام الغربية. وعلى الرغم من التغطية الواسعة، فهناك ثلاثة جوانب من "فوضى" لم تلق الاهتمام الذي تستحقه.
انتهاكات حقوق الإنسان
في هذا المسلسل، كما في الخطاب الإسرائيلي الرسمي، فإن هدف "المستعربين" هو مكافحة ما يسمى الإرهاب، لكن المسلسل لا يذكر أبداً أن مجرّد وجود المستعربين هو مخالف للمبادئ الأخلاقية والقانون الدولي. فالقانون الإنساني الدولي يمنع القوات العسكرية من انتحال شخصية مدنية لارتكاب القتل، أو الجرح، أو الاعتقال، ويعتبر أن انتهاك هذا المبدأ يشكّل جريمة حرب تعرف بالقانون الدولي بـ"الغدر" (perfidy). ومع ذلك، لا يبدو أن المسلسل يعترف بهذه المخالفة الأخلاقية والقانونية التي تكمن خلف غايات وأهداف هذه الوحدة وتحدّد جوهرها.
كذلك ينص القانون الإنساني الدولي على ضرورة التمييز ما بين المقاتلين وغير المقاتلين، والامتناع عن مهاجمة غير المقاتلين، لكن في كل عملية رئيسية تقريباً للوحدة، يتم إلحاق الأذى بالمدنيين أو اقتحام بيوتهم. وبالإضافة إلى ذلك، يُطبِّع هذا المسلسل استخدامَ التعذيب ضد السجناء والمخطوفين الذين يتعرّضون بشكل روتيني للعنف الجسدي غير المبرّر. وقد يبدو هذا اعترافاً صريحاً من جانب منتجي المسلسل بممارسات التعذيب التي تنتهجها سلطات الاحتلال ضدّ الفلسطينيين، لكن استخدام العنف ضدّ الأسرى الفلسطينيين متكرّر إلى درجة أن المشاهد قد يصل إلى حد الشعور باللامبالاة تجاهه. وعلاوة على ذلك، تقوم بعض الشخصيات الإسرائيلية في المسلسل بالاعتراض على بعض أسوأ الممارسات وترفض الانخراط فيها، كأن المسلسل يوحي بأنها أفعال شاذة ترتكبها قلة مارقة من الجنود الإسرائيليين، وليست ممارسة تقرّها الدولة بناء على سياسة رسمية.
الاستحواذ الثقافي
يعود تاريخ المستعربين في الحركة الصهيونية إلى أيام ما قبل الدولة ويمكن فهمها جزئياً ضمن سياق المحاولة الصهيونية للاستيلاء على الثقافة الفلسطينية ومحوها، فثمة توجّه قديم داخل الحركة الصهيونية لا يهدف إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم فحسب، بل الحلول محلّهم والاستيلاء على ثقافتهم. ويمكن فهم الوحدة العسكرية الممثلة في مسلسل "فوضى" كأحد مظاهر هذا التوجه، على الرغم من أن هدفها المعلَن هو قتل وأسر المناضلين الفلسطينيين. وخلال تنفيذهم مهماتهم، يتكلّم أعضاء الوحدة اللغة العربية، ويرتدون الملابس العربية، وينتحلون شخصيات فلسطينية، ويخترق بطل المسلسل، دورون كافيليو، المجتمع الفلسطيني في الموسم الأول، حتى إنه يمارس الجنس مع زوجة خصمه الفلسطيني، أي إنه يحل محله داخل فراش الزوجية.
وبخلاف هذه العناصر من الاستحواذ الثقافي، فإن الشخصيات الإسرائيلية تبدو أحياناً مثيرة للسخرية من دون قصد، على الأقل من وجهة نظر المشاهد الفلسطيني. فلغة دورون العربية تبدو مشبَعةً باللكنة العبرية، إلى درجة أنه من السذاجة بمكان حتى تصوّر أنه قادر على إقناع أيّ شخص كان بأنه فلسطيني حقاً. كذلك فإن أساليب التنكّر التي يستخدمها أفراد الوحدة هي في كثير من الأحيان بدائية، وهو ما يخلّف الانطباع بأن مجرّد وضع كوفية أو حجاب يمكّن الجندي الإسرائيلي من المرور فوراً إلى داخل الأراضي المحتلة من دون إثارة الشبهات بين الأهالي. إن هذه الممارسات لا تعكس سطحية مظاهر الثقافة الفلسطينية وسهولة تقليدها فحسب، بل إنها تظهر كذلك اعتقاد منتجي المسلسل بأنه ليس من الصعب خداع الأعين الفلسطينية.
محو الاحتلال العسكري
وعلى الرغم من أنه يمكن رؤية الحواجز بشكل متكرّر في بعض المشاهد، فإن الاحتلال العسكري بالكاد يُذكر في "فوضى"، كما أنه بكل بساطة لا يظهر جدار الفصل العنصري والمستعمرات. وعلاوة على ذلك، يظهر "الإرهابيون" الفلسطينيون وهم يعبرون بكل حرية إلى داخل إسرائيل، حيث ينفذون عملياتهم، ويقودون سياراتهم عائدين إلى الأراضي المحتلة، كأنهم ليسوا من الشعوب الخاضعة لأشد أنواع المراقبة والسيطرة في العالم. فيستخدمون بطاقات الهوية المزوّرة، ويتفوهون ببضع جمل باللغة العبرية بين وقت وآخر، الأمر الذي يُفترض أن يمكّنهم من تجنّب قبضة الجيش الإسرائيلي المُحكمة وإقناع الجنود بأنهم مستوطنون إسرائيليون بالفعل. كما أن بعض العمليات التي ينفذها الفلسطينيون في المسلسل تتم على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، والذي يدّعي المسلسل كَذباً أنه ينشط في فلسطين.
إنَّ العالم الموازي الذي أوجده "فوضى" يصوّر الفلسطينيين كإرهابيين يقومون بمهاجمة المجتمع الإسرائيلي المدني باستمرار، الأمر الذي يجبر الجنود الإسرائيليين في المقابل على اختراق المجتمع الفلسطيني لردع عمليات جديدة محتملة. وهذه الصورة للصراع هي تحريف مضحك يدركه أيّ شخص يعرف حقيقة الأوضاع في الأراضي المحتلة، لكنها قد تشكّل أداة مقنعة للمشاهد الساذج.
وقد كرّر منتجو المسلسل أنهم ببساطة يقومون بعمل إبداعي من وجهة النظر الإسرائيلية، وأنه ليس في نيتهم عرض الرواية الفلسطينية، حتى إنهم تباهوا بعدم ادّعائهم أنهم يتحدثون باسم الشعب الفلسطيني أو تبني صوته. غير أن مشكلة "فوضى" لا تكمن في أنه يعبّر عن تفسير أو حكم قِيَميّ يعكس المنظور الإسرائيلي، بل في تحريفه الكامل للحقائق، وفي محاولته القيام بمَحو فعليّ لأطول احتلال عسكري قائم في العالم من أذهان المشاهدين.