نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مؤخراً مقالاً حول عطاء الدكتور رياض مجادله وخمسة من أنجاله الأطباء في كفاحهم ضد وباء فيروس الكورونا. بالإضافة إلى الإشادة بالدور المركزي لهؤلاء الأطباء وتضحيتهم في هذا السياق لإنقاذ جمهورهم من خطر الإصابة بهذا المرض ولعلاج من أصيب به، بغض النظر عن هوية المصابين القومية، أكانوا عرباً أم يهوداً، تتعرض الصحافية كاتبة المقال أيضاً لموضوع ثانوي أكثر حساسية إذ تقول: "السعي وراء مهنة الطب يظهر كسبيل للاستقلال المادي والتميز الاجتماعي في بلد فيها العديد من المجالات الأُخرى، بما فيها 'الهايتك'، أكثر صعوبة للاختراق بالنسبة إلى المواطنين العرب"—(ترجمتي من الإنكليزية).
وتضيف الصحافية بعداً آخر إذ تتساءل: "هل ستبرهن هذه الأزمة أنها نقطة تحوّل في السعي وراء تغيير أساسي قد يؤدي إلى المساواة الاجتماعية والاقتصادية والاحترام تجاه المجتمع العربي (في إسرائيل). وهل سيصل وقع التضحية المتمثلة بما يجري في مثل هذه اللحظات الدراماتيكية في مستشفيات البلد، عندما تكون، في بعض الحالات، أغلبية الطواقم الطبية من العرب، إلى خارج جدران المستشفى؟"
هذه الملاحظات، وفيها كثير من العمق والصدق، تستدعي منا التمعن والتعليق، إذ إنها ظاهرة جديدة نسبياً في الصحافة العبرية. وقد يطرأ على مثل هذه المعطيات تغيير وتراجع، إذ لم تكن يوماً نتيجة تخطيط مبرمج من المسؤولين. وأشير هنا إلى مقال آخر نشرته الصحيفة نفسها سابقاً وفيه تطرح كاتبة أُخرى المشكلة بشكل حاد في مقال عنوانه: "الإسرائيليون العرب يحاربون الكورونا فيروس كأطباء من الدرجة الأولى لكن كمواطنين من الدرجة الثانية". وهنا تورد المراسلة المعلومات الرسمية التالية: "علماً بأننا نشكل٢٠% من مجموع السكان، فإن ١٧% من الأطباء و٢٤% من الممرضات و٤٦% من الصيادلة في إسرائيل هم من أبنائنا وبناتنا. أضف إلى ذلك دور القوى المهنية في المجالات المساعدة والعاملين غير المهنيين."
من المثير للتمعن، حتى وإن كان الأمر من الحساسية بمكان، مسيرة التقدم والارتقاء مهنياً وإدارياً لمثل هذه الكوادر ومدى علو 'سقفها الزجاجي'. أنا أذكر حين كنت صاحب أعلى درجه مهنية في وزارة الصحة الإسرائيلية بيد أني كنت في الدرك الأدنى من الأوسط بين الأطباء العاملين فيها، كما وأذكر جلياً أول طبيب عربي تبوأ مرتبة مدير قسم في مستشفى إسرائيلي. اليوم، وقد تغير الأمر، يتوجب أن نلقي نظرة فاحصة على مدى تغلغل المهنيين الصحيين العرب في الجهاز، وربما يرى المتنورون من القيمين على الجهاز المنفعة الجمة لمثل هذه الدراسة، إذ من الصعب إجراء مسح كهذا من خارج جدران المؤسسة.
ونشير هنا إلى البعد الاقتصادي للوضع القائم: الأغلبية العظمى من الأطباء الفلسطينيين مواطني إسرائيل، مثلاً، قد انهوا دراستهم خارج إسرائيل. كان السبق في هذا الأمر للإرساليات الدراسية التي رتبها الحزب الشيوعي لأبناء كوادره في شتى المجالات الأكاديمية، ولا سيما الطب والهندسة والمحاماة. لاحقاً تلى ذلك اعتماد الطلاب الجامعيين على دخل أهلهم الخاص. وعلى الرغم من محدودية مثل هذا الدخل، فإنه من المتعارف عليه بين أهلينا أن يتكاتف عدد من البالغين من الأهل لدعم ابنهم، ومؤخراً ابنتهم أيضاً، لاستكمال الدراسة الجامعية، بما في ذلك الطبية منها، وغالباً خارج البلد. وفي العقد الأخير ازداد عدد الطلاب من 'عرب الداخل' الذين يأمون الجامعات الأردنية والفلسطينية في القدس والضفة الغربية. وبحسب تقدير محافظ في مرجع موثوق ، يوفر مثل هؤلاء الأهل على الدولة ما مقداره بين نصف مليون إلى ١،٨مليون دولار لتأهيل الطبيب الواحد، وعلى هذا يتوجب القياس في المهن الأُخرى. لنذكر هنا أيضاً أن هذه الطفرة غير المبرمجة هي حديثة العهد. فأنا، على سبيل المثال، كنت أول طبيب عصري في بلدي، عرابة البطوف، من مثلث يوم الأرض في الجليل الأوسط. مدينة عرابة البطوف تتبوأ حالياً المرتبة الأولى بين جميع البلدات العربية واليهودية في إسرائيل على حد سواء، من حيث نسبة عدد الأطباء من سكانها لمجموع السكان. وقد ينطبق الأمر على عدد الأكاديميين وطلاب الجامعات أيضاً، ودراسة هذا الأمر في قيد البحث في المجلس البلدي.
بيد أن مثل هذه الظاهرة ليست بالغريبة، إذ إنه من المعروف في الولايات المتحدة مثلاً، أن المهاجرين الجدد والجيل اللاحق من نسلهم هم أكثر المجموعات السكانية اهتماماً بضمان التعليم العالي لأبناء عائلاتهم. كما ومن المعروف أن الجالية اليهودية في أميركا تعتمد التقدم اقتصادياً واجتماعياً من خلال التعليم العالي أيضاً. ونحن قد غدونا مؤخراً في مقام "اليهود المتجولين" في وطننا.
المقلق في الأمر هو التضارب القائم والمشار إليه أعلاه بين الواقع الذي نعيشه، نحن المهنيين الصحيين من أبناء وبنات الأقلية الفلسطينية من عرب إسرائيل، وبين قناعات أصحاب القرار من القيّمين على الدولة، وهم جميعهم حالياً من التيار الصهيوني اليميني المتزمت. وتشير ريم خميس-دكور، دكتورة العلاج بالنطق، في تحليل لها إلى التفرقة البنيوية القائمة في الكيان الإسرائيلي. وتكثر الإشارة عادة إلى الجهاز الصحي في إسرائيل على أنه المجال العام النقي من التفرقة العنصرية. وعلى الرغم عن ذلك، مثلاً، لم تبن الدولة مستشفى حكومياً واحداً في أي بلد عربي في إسرائيل منذ قيامها. لنذكر هنا أن الرؤية الصهيونية تاريخياً كانت وما زالت ترتكز أساساً على نظرة مبدأية وممارسة واقعية استعمارية-استيطانية لا دور فيها للأغيار، بمن فيهم الفلسطينيون المواطنون في إسرائيل، إلاّ الدعم كخدم للسادة اليهود الصهيونيين، "كحطابين وسقائي ماء" لا غير. بالطبع، هذه الرؤية مرفوضة من غير اليهود، منا نحن مواطني إسرائيل. من هنا يظهر جلياً أن التضارب في وضعنا الحالي سيستمر وسيزداد وضوحاً وحدة مع مرور الزمن. هذا الأمر يعيد إلى الذهن ما جرى تاريخياً لنا في مجالات عمل أُخرى، ألا وهي مجالات أعمال البناء والزراعة. وبعد الانتفاضة الثانية، وحين ارتأى القيّمون على شؤون الدولة الصهيونية أن مستقبل مشروعهم الاستيطاني يتطلب استبدال العمال الفلسطينيين، فتحت أبواب الاستيراد لمثل هؤلاء العمال من شرق آسيا وتركيا وأوروبا الشرقية وسواها، وهكذا فكت تلك الأزمة وما زال الحل جارياً إلى يومنا.
وفي عودة إلى المقال الذي افتتحت به حديثي هنا: تتطرق الصحافية في طرحها إلى مطالبة الأطباء من "عرب إسرائيل" الذين تحدثت إليهم بتغيير النظرة الإقصائية من جانب السياسيين الإسرائيليين تجاه القيادة المنتخبة من أبناء مجتمعهم الفلسطيني في إسرائيل، لكن حالياً ما من مجيب. لنذكر هنا أنه بات من المؤكد أن لدى الجيش الإسرائيلي خطط طوارئ مبيتة لطردنا نحن الباقون من سكان البلد الأصليين، من قرانا ومدننا تحت غطاء حرب مع دولة عربية مجاورة. هل يا ترى سيصل الأمر بالقيادة الصهيونية اليمينية المتطرفة إلى مثل هذا الخيار التدميري اعتماداً على مصادر بديلة للقوى الطبية الفلسطينية المحلية المتوفرة؟ أم هل سيعي بعض المتنورين من المواطنين الإسرائيليين اليهود والعرب لحكمة الحل الدائم من خلال الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة بين النهر والبحر؟