نحيي هذا الشهر الذكرى الثانية والسبعين لنكبتنا المستمرة، في ظل استمرار الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني. يقابل ذلك استمرار عدم محاسبة هذا النظام الاستعماري على أيٍّ من جرائمه، واكتفاء المجتمع الدولي بمختلف هيئاته بالتمسُّك بنهج خطاب حقوق الإنسان، وفي أحسن الأحوال، إدانة انتهاكات القانون الدولي الإنساني، دون وضع آليات لتطبيق وتنفيذ أي من القرارات و"الإنجازات" الحقوقية الدولية لمصلحة القضية الفلسطينية. أكثر من ذلك، لا يتم التطرق مطلقاً إلى إبداء الرأي في شرعية استمرار حالة الاحتلال للأرض الفلسطينية المحتلة سنة 1967،[1] وإن كنا أكثر جذرية لطالبنا بالبتِّ في شرعية الدولة الاستعمارية بحد ذاته. فحتى اليوم، لا تزال الأمم المتحدة بهيئاتها المتخصصة تكتفي بالتعامل مع نكبة الشعب الفلسطيني على أنها أزمة لاجئين إنسانية، وكأنها منفصلة عن السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، ولا تنفك عن التذكير بحق العودة ودعوة "إسرائيل" بخجل لتنفيذ قراراتها.
إن عمليات هدم منازل الشعب الفلسطيني المتزايدة باستمرار، (سواء الهدم الإداري –من دون تراخيص بناء، أو الهدم العسكري- خلال العمليات العسكرية، أو ما يُسمى الهدم العقابي)، ليست إلاّ إحدى ممارسات الآلة الاستعمارية الهادفة إلى اقتلاع الفلسطيني من وطنه وأرضه بشتّى الطرق. لذلك، فإن الحديث عن عدم شرعية ممارسات الاستعمار بحسب القانون الدولي يبدو سخيفاً، إذ إن الحالة الاستعمارية أساساً غير شرعية، فلماذا نترك صلب الموضوع ونتحدث ببعض التفصيلات؟ "هذا احتلال، ولا يمكننا، بل ومن الخطأ، التوقّع منه غير ما يحدث من جرائمٍ وانتهاكاتٍ بشكلٍ يومي"، بِحسب ما دأبت الدكتورة وداد البرغوثي على تأكيده. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أننا مجبرون على التعامل مع دقائق الأمور في القانون الدولي، بل علينا أن نكون خبراء حتى نواجه نظاماً استعمارياً إسرائيلياً، أُنشئ بدعائم دولية وقانونية.
إن هدم منازل عائلات المناضلين الفلسطينيين (ما يُسمى الهدم العقابي- موضوع هذا المقال) يندرج بحسب التكييف القانوني تحت إطار ما يسمّى "العقوبات الجماعية"؛ إذ إن سلطة الاحتلال تُعاقب - رغم تحفظي على مفهوم العقاب - عائلة المُناضل بأكملها، بل وفي كثير من الأحيان الجيران ومحيط المنزل، بهدف ردع مناضلين محتملين، وفي محاولة للقضاء على المقاومة الفلسطينية. ومما لا شك فيه، فإن العقوبات الجماعية تعد جريمة دولية، وانتهاكاً لنصوص القانون الدولي الإنساني )الاتفاقية الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية لاهاي1907، اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، والبروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977) وكذلك مبادئ العرف الدولي. يضاف إلى ذلك أن العقوبات الجماعية تعد انتهاكاً لحقٍ أساسيٍ بحسب قانون حقوق الإنسان، الواجب التطبيق في حالة الاحتلال، ألا وهو الحق في محاكمة عادلة، الذي يعد في الوقت ذاته قاعدة عرفية.
أمّا بالنسبة إلى هدم المنزل، فهو بحسب القانون الدولي الإنساني، تجاوز لصلاحيات قوة الاحتلال، إذ يُمنع تدمير الأملاك الخاصة بالمدنيين المحميين،[2] إلّا في حالة الضرورة العسكرية، غير المتوفرة في حالة هدم منازل المناضلين، إذ إن المُناضل ذاته في كل الحالات، في حالة اعتقاله أو استشهاده. ووفقاً لادّعاء المحاكم الإسرائيلية فإن سياسة الهدم العقابي تفي بالاستثناء المحدد في الاتفاقية. بيد أن مثل هذا الادعاء لا أساس له من الصحة، فالصليب الأحمر الدولي، المسؤول عن تفسير الاتفاقية يُعرّف مصطلح "العمليات العسكرية" بأنه "حركات، مناورات، وعمليات أُخرى يتم اتخاذها من القوات المسلحة لغرض القتال." وفي المقابل، فإن عمليات الهدم العقابي التي تقوم بها القوات الإسرائيلية لا تتم إطلاقاً في إطار القتال. وبالتالي فإن هدم الممتلكات في المنطقة المحتلة، في خارج إطار الاستثناء، يعرّف على أنّه جريمة حرب.[3] أمّا بحسب قانون حقوق الإنسان، فإن الهدم يعد انتهاكاً للحق في الملكية الخاصة وللحق في السكن. وعلى الرغم من ذلك، يُدرك الشعب الفلسطيني أن "مصادرة الأراضي وهدم البيوت إنّما يزيد من صلابة هذا الشعب المكافح القوي، وهذه البيوت التي تُهدم هي ثمن من أثمان التحرير.“[4]
يمارس النظام الاستعماري الإسرائيلي سياسة العقوبات الجماعية ضد الفلسطينيين منذ بداية الاحتلال العسكري سنة 1967. ومفهوم العقوبات الجماعية يتعدّى هدم المنازل إذ يفرض حظر أيّ بناء جديد في موقع المنزل المهدّم ومصادرة الأرض في بعض الحالات. إضافة إلى ذلك، يعد ضمن العقوبات الجماعية: سحب وثيقة الإقامة الدائمة لسكان القدس من أسر المناضلين، وترحيلهم قسرياً، ورفض و/أو إلغاء تصاريح العمل، وكذلك رفض لمّ الشمل لكل من يحمل اسم عائلة المناضل.
غطاء "قانوني"
إن هدم المنازل هو إجراء إداري يُطبّق من دون محاكمة ومن دون الحاجة إلى إظهار أدلّة أيّاً كانت، وذلك استناداً إلى المادّة 119 من تعليمات الدفاع (أوقات الطوارئ) التي أصدرها الانتداب البريطاني عام 1945، على الرغم من أن المادة 64 من اتفاقية جنيف الرابعة تطالب سلطة الاحتلال بتغيير القوانين في الأراضي المحتلة التي لا تُلبّي الحدّ الأدنى من الضمانات الإنسانية المنصوص عليها في الاتفاقية. وعلى هذا الأساس، فإن إسرائيل مُلزمة بإلغاء المادة 119 من أنظمة الدفاع (الطوارئ لسنة 1945)، لأن أحكامها لا تتوافق مع الضمانات الأساسية للعدالة، وحظر العقوبات الجماعية، وحماية الممتلكات المدنية.[5] وهنا يبرز السؤال عن شرعية تطبيق التشريعات البريطانية في السياق الفلسطيني.[6]
وعلى الرغم من أن المحاكم الإسرائيلية قد أقرت إمكان الاعتراض على قرار الهدم أمام "محكمة العدل العليا"، فإنها في أغلب الحالات السابقة رفضت الالتماس المقدم باسم العائلة ومنظمات حقوق الإنسان. كما وترفض المحكمة باستمرار الاعتراف بعدم قانونيته.[7] وانحصرت الرقابة القانونية بصورة عامة في المسائل التقنية المتعلقة بشكل تطبيق عملية الهدم. وبالنظر إلى قرار المحكمة الإسرائيلية بشأن منزل عائلة المعتقل قسام البرغوثي فقد جاء فيه: "بالنسبة إلى التخوف من الأضرار والآثار الجانبية للهدم، بحسب التقرير فان الضرر سيكون ضئيلاً جداً، ولن يؤثر حتى في المباني المجاورة. وفي لفتة للحفاظ على حقوق الإنسان وعدم الإضرار بالطابق الأرضي لن يتم هدم الطابق السفلي بل سيتم إغلاقه فقط." مضحك وهزليٌ هذا الاهتمام المزعوم بحقوق الإنسان من قبل المحكمة الإسرائيلية، وكأن الهدم شرعي بأساسه وما تبقى هو الأضرار الجانبية.
جدير بالذكر أن المحكمة الإسرائيلية أوقفت العمل بما يسمى الهدم العقابي منذ سنة 2005 وحتى سنة 2014. ومع ذلك، فمنذ سنة 2002، تم هدم أكثر من 500 منزل في إطار العقوبات الجماعية. تشمل هذه الإحصائية المنازل التي دمُّرت أو لم تعد صالحة للسكن نتيجة هدم منزل مجاور، وكذلك المنازل التي تم إغلاقها من دون هدمها.[8]
وبحسب مبادئ العرف الدولي والسوابق القضائية (الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن الجدار)، تتحمل دول الطرف الثالث مسؤولية منع استمرار انتهاك أحكام القانون الدولي الإنساني، من خلال التحقيق والمقاضاة وعدم الاعتراف بالأفعال غير المشروعة، وعدم تقديم المساعدات، أو التعاون مع السلطة القائمة وذلك لوضع حد للانتهاكات الجسيمة بما في ذلك وضع تدابير عقابية على الدول المنتهِكة.
أمّا عن الشرعنة الأميركية فيما يتعلق بـما يسمى "العقاب الجماعي"، فقد جاءت نصوص صفقة القرن صريحة بهذا الشأن، إذ نصّت على أن "إسرائيل" غير مُجبرة على وقف "عمليات الهدم العقابية التي تعقب أعمال الإرهاب." [9] وعلى الرغم من أننا لسنا بصدد الحديث عن خطة ترامب هنا، فقد وجب التنويه إلى أنها ليست إلّا توصيفاً للوضع الراهن، وشرعنة للمزيد من الانتهاكات والتوسع الاستعماري والجرائم الإسرائيلية، ومحاولة مستمرة لوسم المقاومة الفلسطينية بـ "الإرهاب".
منذ بداية سنة 2020، هدمت القوات الإسرائيلية أربعة منازل لعائلات مناضلين فلسطينيين، تقع جميعها في المنطقة "أ"، والتي تشكّل ما نسبته 18٪ من مساحة الضفة الغربية، وللسلطة الفلسطينية بحسب إتفاق أوسلو 2 لسنة 1995 الصلاحية المدنية والأمنية داخل هذه المناطق. وبالتالي، لعله ليس من السخيف أن نتساءل إن كان في استطاعة السلطة الفلسطينية أن تحاكم مُصدِري أوامر الهدم ومنفذيها في مناطق نفوذها، أي في المحاكم الفلسطينية؟ ولعله من المناسب أيضاً التساؤل في ظل عجز السلطة عن محاكمة مرتكبي هذه الجرائم، عن مسؤولية الدول مدعية الحرص على حماية حقوق الإنسان. إن المحاسبة الدولية تصبح واجبة في ظل وجود ارتكاب هذه الجرائم واستمرارها، وذلك بموجب أحكام المادة 146 من اتفاقيات جنيف،[10] وكذلك نصوص المواد المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً، وتحديداً فيما يتعلق بأن هذه الجرائم والانتهاكات تحول دون ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير، والذي يعدّ قاعدة دولية آمرة.[11]
تسعى الحركة الصهيونية منذ نشأتها لإزالة الوجود الفلسطيني كوجود بشري، تاريخي ومعنوي من أرض الوطن فلسطين.[12] وهذا يظهر جليّاً في تقرير القناة الإسرائيلية "كان 11"، عن إصرار الجنود على هدم الجدران الملأى بالعبارات الثورية والتي تمجّد المقاوم وفعله. إذ يتغنّى كذلك مراقب عملية الهدم بعدد البيوت التي هدمها، ويظهر التقرير كذلك أن علم فلسطين، الذي يعتلي سطح المنزل رفض أن يسقط في أثناء عملية الهدم، وفي المقابل، أصرّت جرافات الاحتلال على إسقاطه كنوع من "الحرب على الوعي" كما ورد في التقرير.[13]
في الختام، نكرّر ما تقوله الدكتورة وداد البرغوثي: "مهما كان هذا القرار جائراً، فهذا لا يزيدنا إلاّ تمسكاً في حقنا. [...] قرار الهدم يندرج تحت السياسة الإسرائيلية في الانتقام. [...] ما يمارسونه في حقنا وفي حق شعبنا من هدم بيوت وغيره، يعزّز قناعتنا وإيماننا، ويعزّز ثقتنا المطلقة بأن حقنا مهما طال أمد الاحتلال سوف يعود لنا."
[1] Imseis, Ardi, “Negotiating the Illegal: On the United Nations and the Illegal Occupation of Palestine, 1967-2020” European Journal of International Law, (April 2020). Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=3571556
[2] انظر المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة، 1949: "يحظر علي دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلاّ إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتماً هذا التدمير.”
[3] سياسة هدم البيوت بهدف العقاب في انتفاضة الأقصى، بيتسيلم، 2004. انظر الرابط:
https://www.btselem.org/arabic/publications/summaries/200411_punitive_house_demolitions
[4] في تسجيل للمحامي محمد عليان، والد الشهيد براء عليان، بعد أن تم هدم منزلهم في القدس بتاريخ 4 أيار/مايو 2016.
[5] See: “Punitive House Demolitions,” Al-Haq (2015). Available at: http://www.alhaq.org/advocacy/6475.html
[6] See: “Darcy, Shane. Israel’s punitive house demolition policy collective punishment in violation of international law,” Al-Haq (2003). Available at:
[7] منذ 35 عاماً و"العليا" تمنح الضوء الأخضر لهدم البيوت كوسيلة عقابيّة وتشرعن المسّ بالأبرياء، بيتسيلم،2014 . انظر الرابط: https://www.btselem.org/arabic/press_release/20140701_hcj_sactions_collective_punishment
[8] معطيات بشأن هدم البيوت كوسيلة عقاب، بيتسيلم، 2020. انظر الرابط:
https://www.btselem.org/arabic/punitive_demolitions/statistics
[9] See: “White House, Peace to Prosperity: A Vision to Improve the Lives of the Palestinian and Israeli People,” announced on 28 January 2020. Available at: www.whitehouse.gov/peacetoprosperity, 38.
[10] See: Darcy, Id supra footnote 6.
[11] See: “Articles on Responsibility of States for Internationally Wrongful Acts 2001,” Articles 40+41. Available at: https://legal.un.org/avl/ha/rsiwa/rsiwa.html see also supra footnote 1.
[12] غانم، هنيدة. "المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني." "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 118 (2013).
[13] انظر رابط التقرير: https://www.facebook.com/watch/?v=256051089134594