بقدر ما يشف تأليف حكومة وحدة بين حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو وحزب "أزرق أبيض" برئاسة بني غانتس عن الهوية السياسية لهذا الأخير ومن على شاكلته ممن يؤطرون أنفسهم ضمن خانة "أحزاب الوسط"، بقدر ما يشير إلى سقوط وهم مُستجدّ بأن حكومات إسرائيلية يمكن أن تستند إلى أقلية يهودية في الكنيست وإلى أصوات أعضاء كنيست عرب لحسم قضايا من العيار الثقيل، على غرار الحرب والسلام، أو حتى المفاوضات مع الفلسطينيين.
ومع أن موضوع الهوية السياسية لـ"أحزاب الوسط" الإسرائيلية ليس الأساسي في هذا المقال، فمن الضروري الإشارة إلى أن أي قراءة لأداء هذا الأحزاب من شأنها أن تشير إلى أن هذا الوسط يمتنع من التعبير عن رأي حاسم بشأن أي موضوع، ويبقي جميع الخيارات مفتوحة على مصاريعها، وتتلخص رؤيته في التالي: "ضد اليمين الجامح واليسار الهاذي"، وأقصى غايته "الوصول إلى مؤسسات السلطة وتغيير الوضع". كذلك يُلاحظ أنه في نهاية كل تجارب أحزاب الوسط الإسرائيلية السابقة وصولاً إلى تجربة "أزرق أبيض" في الوقت الحالي، تفقد هذه الأحزاب بريقها بسرعة لأنه يتضح أنها غير قادرة على تحقيق الآمال التي علقها عليها ناخبوها. كما أن هذه الأحزاب ليست مهيأة للتركيز على موضوع معين تدعمه في حملتها الانتخابية كونها لا تشكل مجرّد مجموعات ضغط بل أحزاب يتعين عليها اتخاذ قرارات في أي موضوع مطروح على جدول الأعمال العام. وحتى في الأدبيات الإسرائيلية نلاحظ شبه إجماع على تقييم بشأنها، فحواه أن أحزاب الوسط في إسرائيل لا رأي لها ولا موقف، وقلما تتحدث عن المبادئ أو الأيديولوجيا. وهي تحدّد مواقفها أكثر شيء عن طريق الرفض، فهي ليست مع اليمين، ولكنها ليست أيضاً مع اليسار.
ويبيّن تاريخ المعارك الانتخابية في إسرائيل أن جمهور المصوتين لصالح أحزاب الوسط غالباً ما يهجر حزب الوسط الذي صوّت لصالحه في الانتخابات السابقة وينتقل إلى تأييد حزب وسط جديد. ويبدو منطقياً أن ناخبي أحزاب الوسط هم أقل ولاء لأحزابهم، لأن تصويتهم ليس ناتجاً عن قناعة أيديولوجية واضحة أو هوية قطاعية محددة. ومع ذلك، ثمة لأحزاب الوسط في إسرائيل مميزات محددة تجعل الناخبين ينحون منحى العزوف عنها. فهي كثيراً ما تتعهد أمام جمهورها المتحمس بإحداث تغييرات فورية وحقيقية في مجال ما وتتراجع عنها- على غرار وعود "حزب المتقاعدين" بتحسين أوضاع المتقاعدين بصورة جدية وفورية، ووعود حزب "شينوي" بإحداث "ثورة مدنية"، ووعود حزب "كولانو (كلنا)" بخفض تكاليف المعيشة (وخصوصا أسعار السكن)، ووعود "أزرق أبيض" بعدم الدخول إلى تحالف مع الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو. ولذا يكون جمهور الناخبين عرضة للإصابة بخيبة أمل كبيرة وسريعة من هذه الأحزاب. يضاف إلى هذا أن هذه الأحزاب تصور نفسها بأنها تعتمد "سياسة جديدة" ونظيفة (خلافا لـ"السياسة القديمة"، المتكلسة والموبوءة بالفساد التي تميز حزبي الليكود والعمل). ونظراً لأنه من الصعب جدا تحقيق وعود كهذه في الحياة السياسية المركبة، فسرعان ما يخيب أمل الناخبين من هذه الأحزاب أيضاً وخلال وقت قصير.
أخيراً، فإن أحزاب وسط كثيرة تعتمد على قائد فرد ذي شخصية كاريزمية وحين ينسحب هذا القائد أو يتضح أنه غير ناجح، لا يتردّد الناخبون في استبداله بقائد كاريزميّ آخر في حزب وسط آخر.
الاعتماد على أصوات العرب
كانت المرة الوحيدة التي اعتمدت فيها حكومة إسرائيلية على أصوات أعضاء كنيست عرب لحسم قضايا تتعلق بالسلام والحرب، هي في إبان ولاية حكومة يتسحاق رابين الثانية (1992- 1995) التي وقعت اتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتمّ حلّها بعد اغتيال رابين في تشرين الثاني/نوفمبر 1995.
وفي أثناء توقيع تلك الاتفاقيات تصاعد عزف ممثلي الليكود والأحزاب اليمينية على نغمة الإثنية القومية، عبر ادعاء وجود تقارب بين العرب ورجالات حركة العمل وكل من يقف على يسارهم. فقد صرح أريئيل شارون أمام الكنيست مثلاً: "إن الأكثرية التي انتخبت رابين تراوح بين الولاء المشروط وبين العداء للدولة اليهودية وإنكار حقها في الوجود". وأعرب شارون عن خشيته من أن رابين سيكون مضطراً إلى "إرضاء ورعاية" الذين أوصلوه إلى سدة الحكم، أي تلك الهيئات والأطر السياسية التي تمثل العرب في إسرائيل، والتي ترغب بحسب قوله، "في تصفية إسرائيل عملياً" وكذلك القوى اليسارية اليهودية "التي جعلت من نفسها وهي تقاتل بجرأة لتصفية الطابع اليهودي لدولة إسرائيل أشبه بجارية مخلصة في خدمة القضية القومية العربية والعداء لليهود" كما قال، متعهداً بالتصدي للتحالف بين اليسار اليهودي وبين الاتجاهات القومية العربية.
واستهدف الليكود واليمين من وراء ذلك إعادة رسم حدود "الجماعة الإسرائيلية"، على نحو يخرج منها ليس العرب في إسرائيل فحسب، إنما أيضا "حلفاءهم" اليهود.
بموازاة هذا، رأى ممثلو اليمين أن اليسار "يشقّ الجماعة" من خلال الارتباط بالعرب. وما زالت تتردّد إلى الآن أصداء تصريحات أحد زعماء المستوطنين من قطاع غزة التي قال فيها: "بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو، تم قبول الموقف الفلسطيني من الصراع بصورة شبه كاملة، جنباً إلى جنب تعمق تنكر اليسار الإسرائيلي لإخوانه في اليمين. فلقد تحول الصراع إذًا من صراع داخلي يهودي على الهوية الإسرائيلية – اليهودية إلى صراع عابر للقوميات، أشرك فيه جزء من الشعب (الجماعة) العدو التاريخي المشترك لليهود الإسرائيليين في قرارات حاسمة تتعلق بمصيرهم المشترك".
وثمة من الباحثين من يعتقد أن هذا التفكير فيما يتعلق بـ"شقّ الشعب"، كان من مسوغات اغتيال رابين في حينه، مشيرين إلى أن العبارة الأولى التي أطلقها قاتله فور إلقاء القبض عليه في ختام تظاهرة التأييد لحكومته في أحد الميادين الرئيسية في تل أبيب: "أنظروا إلى الميدان، نصفهم هنا من العرب"!
بمعنى من المعاني كشف هذا التفكير عن تغلغل بُعد عرقي في الخطاب العام والهوية الدينية – القومية الجديدة، يضع علناً وصراحة "العرق" قبل "الشعب"، ولا يقبل الحسم الديمقراطي لحكومة منتخبة، إذا كان هذا الحسم يأتي ضمن سيرورة تكف فيها الدولة الإسرائيلية عن تمثيل اليهودية.
ولا بُدّ من الإشارة إلى أن الرهان المستجدّ الآن على وهم أن حكومات إسرائيلية يمكن أن تستند إلى أقلية يهودية وأصوات عربية لحسم قضايا مثل الحرب والسلام، لم يقتصر على أجزاء من القائمة المشتركة، بل تعدّاها إلى قوى سياسية إسرائيلية، قبل أن يسقطه غانتس نفسه وحزبه.
وبالرغم من سقوطه فإن مُجرّد ظهوره يستلزم تأكيد ما يلي:
أولاً، أن هناك حاجة لدرس دلالة يهودية إسرائيل وصهيونيتها في الوقت الراهن الذي يتسم بتغيرات كبيرة حدثت منذ فترة حكومة رابين الثانية، ولم يكن آخرها سن "قانون القومية" الإسرائيلي، وما يجسدّه من تحولات في بنية إسرائيل.
ثانياً، أن حسابات القائمة المشتركة حيال المشاركة في السياسة الإسرائيلية لا يجوز أن تقفز عن هذا الدرس لصالح أهداف لا أساس لها في الواقع القائم، وهي في التحصيل الأخير ليست أكثر من أهداف رغبية.
ثالثاً، أعاد إسقاط غانتس لهذا الرهان الزخم إلى الأصوات من داخل المجتمع الفلسطيني في الداخل التي سبق أن توقفنا عندها، وتتعامل مع القائمة المشتركة كقائمة موحدة وليست كمحصلة مركباتها من الأحزاب الأربعة، والتي يمتلك كل حزب منها رؤية خاصة به. وينطوي ذلك على مقاربة فحواها أن القائمة المشتركة يُمكن أن تُشكل إطاراً تنظيمياً لمشروع سياسي جامع غير منحصر في التمثيل البرلماني أو المشاركة السياسية فقط.