عن لندن والكورونا ويوم القيامة
Date:
28 avril 2020

أعتقد أن حمام مدينة لندن يظن الآن أننا البشر قد انقرضنا.

عندما أتيت إلى العاصمة لندن في شهر أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، كان كل شيء مختلفاً. قبل مجيئي، لم أفهم حقاً معنى كلمة "كوزموبوليتاني"، لكنني عند وصولي إلى لندن تمكنت من رؤية المعنى بعيني. محطة قطار دولية، وبشر من كل أنحاء قارات الكوكب، ألوان بشرة متعددة، أشكال عيون متنوعة وألسن تلهج بأغرب اللغات. في الصباحات الباكرة، لم أكن أتمكن من رؤية الرصيف عندما ألقي بنظري إلى آخر الشارع، إنما فقط موجة سوداء تكونت من رؤوس أناس يدبون مثل جيش متأهب. الجميع لديه مكان محدد ليوجد فيه، في وقت محدد أيضاً. ولمّا كانت غرينتش في بريطانيا وكذلك ساعة "بيغ بن"، فلا يجوز أن يتأخر البريطاني عن ذلك المحدد. 

يُقال إن سكان مدينة لندن هم أكثر الناس فظاظة في بريطانيا. وقد يكون السبب هو أن الكل على عجالة في هذه المدينة، الجميع لديه ما يفعله أو ما ينجزه، ولا وقت لأن تكون لطيفاً مع أحد. مرات كثيرة هي التي ارتطم أحد ما بكتفي وأكمل الطريق مسرعاً دون الاستسماح. لا تعرف هذه المدينة التراخي سوى في اثنين من ساكنيها، المشردين على قوارع الطرق، والحمام. كلاهما لا مكان أو زمان محدداً لهما، كلاهما ينتظران فتات الطعام من هذا المار أو ذاك حتى ينالا قوت يومهما.

أمّا الآن، فكل شيء تغير. لا مارة ولا سياح ولا أناس يهرعون إلى مكان ما. لقد أصبحت المدينة أشبه بتلك المدن التي تصورها لنا هوليوود في أفلامها عن "الأبوكاليبس" الذي سيجهز على البشرية. وأصبح مركز المدينة، أو كما أفضل تسميتها، "حارتي"، مقفهرة تماماً، خالية من الحركة، إلاّ من بعض الحمام الذي يطير ويحط بحثاً عن فتات طعام لم تعد موجودة. وكله بفعل مخلوق يذوب في الماء ولا يُرى. "فيروس كورونا".

في مرة اقتربت مني فتاة بريطانية وسألتني للتأكد إذا ما كنت مسلمة، أجبتها بالإيجاب، لتتبع ذلك بسؤالها إذا كان ما يجري الآن هو ما يسميه المسلمون يوم القيامة. لم تكن الفتاة تمزح، لكنني ضحكت على أية حال. من المثالي أن يعتقد الناس هنا بسذاجة أن الزمن على وشك أن ينتهي لمجرد أن الكارثة لم تستثنِ دولهم هذه المرة.

عندما بدأت الدول تتخذ إجراءاتها بشكل تصاعدي لاحتواء الفيروس ولمنع انتشاره، أوصتني أمي أن أشتري مؤونة تكفيني حتى إذا ما اضطررت إلى البقاء في السكن مدة طويلة، أو في حال فرغت المحال التجارية والأسواق من المنتوجات الغذائية. لكنني لم أفعل، فقد بقي التسوق مسموحاً، وأمّا مسألة نفاد المنتوجات فكان محالاً في بريطانيا العظمى. لكن اتضح أن بريطانيا ليست بتلك العظمة، وأن ساكنيها يعلمون ذلك. فمع اشتداد هذه الأزمة، أخذت البضائع على رفوف المحال التجارية بالاختفاء شيئاً فشيئاً حتى أصبح من المحال إيجاد بيض أو سكر أو طحين أو حتى معكرونة. وهكذا، ما لم أشهده في حرب تموز/يوليو في سنة 2006، شهدته هنا في لندن.

وللمفارقة، فمنذ مجيئي لم أشهد شمساً للندن سوى في بعض الأيام التي كانت تلوح لنا فيها من وراء الغيوم بخيوطها على استحياء، أمّا الآن ومنذ بداية الإغلاقات وانتشار الكورونا، فإن الأيام كلها مشمسة جميلة تحمل نسيم الصيف الدافىء المشابه لنسائم بيروت في آخر أيام الشتاء وأولى أيام الربيع. ولعل السبب كما يقول البعض هو انخفاض نسبة التلوث في العالم وقلة حركة الملاحة الجوية. أو لربما هي الأقدار تسخر منا وتذكرنا بعظمة الخالق وضعفنا أمام ما لا تقوى أي من حواسنا الخمس على إثبات وجوده.

لقد كنت أعزي نفسي في بداية الإغلاقات بإعطائها بعض الأمل بأني سأكون في بيروت في بداية شهر رمضان. لكن رمضان اقترب وحل، وأنا لا أزال في غرفتي في السكن الجامعي أنتظر، لعلي في العيد أكون في بيروت وتكون حركة الطيران قد عادت إلى سابق عهدها، أو يخرج علينا مخرج هذا الفيلم المقتبس من الحياة الواقعية ويلوح بيده معلناً انتهاء هذا المشهد السوريالي، "كات".