فرض فيروس كوفيد 19 "كورونا" نفسه على العالم الذي أصبح اليوم قرية صغيرة يتحرك في داخلها خمسة مليارات إنسان سنوياً، فيروس لئيم فيه صفة العدالة، لا يميز إنساناً من آخر، أو بين دول عظمى وأُخرى نامية. أصبح التخبط هو سيد الموقف في العالم، وأصبح الخطاب الرسمي الأوروبي الأميركي المتخبط، موقع تشكيك ونقد من جانب المواطنين الذين بدأوا يسألون عن الأولويات! الاقتصاد وأرباح الشركات الكبرى أولاً، أم أرواح الناس ورفاههم الاجتماعي؟ استمرت الحياة في أوروبا وأميركا كالمعتاد، وتأخرت الدول في اتخاذ تدابير لمواجهة الوباء والأخذ بنصائح منظمة الصحة العالمية وتوجيهاتها، وفي 28 آذار/مارس سأل أحد الصحافيين خلال المؤتمر الصحافي اليومي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، "ما رأيك في قول الأطباء بشأن ضرورة فرض حالة الحجر المنزلي وضرورة فرض وقف الحركة بين المواطنين، فأجابه ترامب أنه لو ترك القرار للأطباء لأغلق العالم، والعالم وجد حتى لا يغلق"، إلاّ إن الفيروس سريعاً فرض سلطته على مجرى الحياة في الولايات المتحدة لتتصدر المرتبة الأولى مؤخراً في عدد الإصابات وحالات الوفاة اليومية.
القطاع الثقافي في فلسطين
لقد تغيرت أولويات سكان الكرة الأرضية جميعاً الذين انسحبوا من حياتهم المهنية وطباعهم اليومية نحو حياة جديدة في منازلهم في الحجر الصحي الإلزامي، مندهشين من هذا التغيير المفاجيء الذي قلب أولوياتهم وأحلامهم واهتماماتهم رأساً على عقب.
والسكان في فلسطين، كباقي سكان المعمورة، تغيرت حياتهم منذ عدة أسابيع بشكل مفاجيء، فأصبحت همومهم مشتركة وأولوياتهم الصحية في المقدمة، ولا يُستساغ الحديث عن غيرها. إلاّ إن بعض الناشطين في القطاع الثقافي، على مستوى مؤسسات وأفراد، يحاولون، على الرغم من الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، فرض وجودهم على المشهد، وإعلاء شأن الفعل الثقافي في صفحات التواصل الاجتماعي والميديا الملبّدة بأرقام عن عدد الإصابات وعدد المخالطين والمخالطات ... في محاولة منهم لاستنهاض الهمم ورفع المعنويات وإلقاء الضوء على أهمية دور الثقافة في هذه الأوضاع. فقامت بعض المؤسسات الثقافية والنخب الثقافية الفلسطينية ببعض المبادرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الوسط الاجتماعي والمشهد العام من أجل إيجاد حالة ثقافية في زمن الوباء من منطلق الشعور بالمسؤولية تجاه ما يحدث.
فمنذ بداية الأزمة وفرض الحجر الصحي على جميع السكان في فلسطين، برز العديد من المبادرات الثقافية في الأراضي الفلسطينية مثل: #خليك_بالبيت / #ابدعوا_من_بيوتكم / #اعزف_في_بيتك/ #ارقص_في_البيت/ #دبكة_من_البيت / #طباق_لايف / #weRculture / طلّة.
وبحكم أنني أحد الفاعلين في المجال الثقافي، فقد رصدت العديد من التحركات الثقافية التي تحاول التكيف في أوضاع الحجر المنزلي لعموم الناس، وراقبت العديد من المؤسسات المتخصصة بالمجال الثقافي، وأورد هنا من كان لي تجربة معهم في هذا المجال:
- بعض المؤسسات الثقافية التعليمية الموسيقية ذهبت إلى إطلاق برنامج موسيقي تعليمي فردي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مثل الزووم، الفيس بوك، واتس أب، انستغرام والسكايب. وتعدت نسبة تجاوب الطلبة 80%، بينما لم تتمكن النسبة المتبقية من المشاركة نظراً إلى عدم توفر إمكانات التواصل الإلكتروني. لكن هذه المؤسسات لم تأخذ في حساباتها التكلفة التشغيلية جرّاء ذلك، وخصوصاً في ظل توقف جميع مصادر الدخل، إلاّ إنها تصرفت انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية تجاه الطلبة الموسيقيين، حتى لا يفقد الطالب مهاراته على آلته، وأهمية إيجاد مساحة لقضاء وقت ممتع في البيت، والالتزام تجاه العاملين فيها من أساتذة موسيقيين وإداريين، ولا سيما أن العديد من الموسيقيين يتمثل دخلهم المادي من خلال ساعات التدريس والمشاريع الموسيقية التي تنفذ في إطار الحياة الطبيعية من حفلات وعروض موسيقية داخل الوطن وخارجه، فأطلقت برنامجاً بعنوان (اعزف من بيتك) مثل الكمنجاتي ومعهد إدوارد سعيد.
مركز الفن الشعبي: واصل التعليم عبر التواصل الاجتماعي وأطلق حملة بعنوان "ابدع من بيتك".
- طباق للنشر والتوزيع: بادرت مؤسسة طباق إلى إنشاء مجموعة على الفيس بوك تضم أكثر من 500 شخص فاعل على الصعيد الثقافي في مختلف المجالات الأدبية والفنية، من خلال إطلاق برنامج يومي مباشر بعنوان (طباق لايف) يُبث يومياً الساعة السابعة مساءً ويستضيف أديباً أو شاعراً أو فناناً .. مباشرة من خلال صفحته الخاصة على فيس بوك ليقدم قصائده، أو إثارة نقاش حول كتاب.
- مبادرة موسيقيين مثل مبادرة الموسيقي تامر ساحوري من بيت ساحور الذي أطلق فكرته من خلال فيديو نشره، كتحدٍ للموسيقي طارق الجندي من الأردن، فرد عليه موسيقيون آخرون بتوزيع موسيقي لقطعته وسجلوها وأضافوها على فيديو آخر ظهروا فيه مجتمعين على الشاشة نفسها وكأنهم في مكان واحد. كان همهم كسر سلطة وباء الكورونا وتحديه بالتواصل عبر الموسيقى على الرغم من القيود المفروضة للحيلولة دون تفشي المرض.
- طلّات ثقافية عبر صفحة وزارة الثقافة الفلسطينية: بادرت وزارة الثقافة بإطلاق برنامج يومي تحت عنوان "طّلات ثقافية"، تستضيف من خلاله العديد من الأدباء والفنانين الفلسطينيين، وخصصت وقتاً للطلاّت الفنية، فأعلنت تشجيعها الموسيقيين لتأليف موسيقى وعزفها ونشرها على موقع الوزارة، ورصدت جوائز نقدية لهم سيتم النظر فيها لاحقاً.
- ناشطون في زمن الكورونا: بادرت مجموعة من الفاعلين الثقافيين من مختلف المؤسسات والمبدعين الفلسطينيين من الضفة والداخل الفلسطيني ولبنان بالتفاعل من خلال مجموعة على موقع الواتس أب، وأطلقوا موقعاً اسمه (طلّة). والجميل في الموضوع أن هؤلاء الناشطين انتخبوا لجنة مركزية من أجل متابعة الأمور التفصيلية، وأسسوا مذكرة تفاهمية فيما بينهم، ويعملون على عقد اجتماعات منظمة من أجل تحقيق أهدافهم في كسر قيود سلطة الكورونا عبر تطبيق الزووم.
- بادر العديد من الموسيقيين مثل الفنان طارق الجندي، عازف العود، بالإعلان عن إقامته عرضاً موسيقياً مباشراً عبر الانستغرام والفيس بوك من منزله بمرافقة زوجته عازفة الفلوت.
- مسرح الحرية في مخيم جنين: قام بإطلاق سلسلة من المسرحيات الخاصة بالأطفال، واحتفل مع أصدقاء المسرح عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالذكرى 14 لتأسيس المسرح في مخيم جنين.
- بلدية رام الله: قامت بإطلاق برنامج أسبوعي مع الفنان إميل عشراوي لقراءة القصص الجميلة للأطفال، والعمل مع منظمة اليونسكو في حملة نحن ثقافة #weRculture.
عرضتُ تلك المبادرات لأنني كنت جزءاً من العديد منها، أو مراقباً دائماً لها. وفي رأيي يحاول الأفراد أو المؤسسات إثبات أنهم موجودون، ولهم التأثير الإيجابي من خلال هذا الوجود، وربما هم الأجمل ظهوراً في مواقع التواصل الإجتماعي، وتميزهم من باقي القطاعات الأُخرى، ولا سيما أن الجو العام حافل بالخطاب التحذيري أو التذمري البكائي الذي يفرض حالة من الرعب والخوف، في ظل الحالة الصعبة التي نعيشها. ومع أن المؤشرات جميعها تتحدث عن أن القطاع الثقافي قد يكون الأكثر تضرراً جرّاء هذه الجائحة نظراً إلى تغير الأولويات بعد انتهائها، إلاّ إنه الأكثر إشعاعاً للطاقة والأمل لمساعدة الناس في تجاوز هذه الكارثة.
ومن دون شك سيبقى العديد من الأسئلة والتحديات مطروحاً أمام هذا القطاع. فكيف له أن يتكيّف، أو أن يفرض نفسه في ظل هذه الأوضاع الصحية غير العادية؟ وما هي قدراته على الاستمرار في أثناء الجائحة وبعدها؟