أتناول في هذه المدونة كيفية تعامل الريف الفلسطيني مع أزمة "كورونا"، بالاستناد إلى ملاحظات مبنية على معايشة يومية، ومتابعة لاستجابة صفحات التواصل الاجتماعي (صفحات القرى في الأساس). وتتناول هذه الملاحظات أشكال الاستجابة لهذه الأزمة على مستوى تحوير السلوك الاجتماعي فيما يتعلق بالاختلاط الكثيف المعتاد في القرية، وإجراءات التكيف المتعلقة بمستويات المعيشة (الاقتصاد).
من السمات المهمة لهذه الأزمة أن الاستجابة لها مبنية على انتظار الأسوأ "الأسوأ لم يأت بعد"، والذي ينتقل إلى الناس عبر متابعتهم أخبار المرض في الدول الأُخرى، أو التجمعات السكانية الأُخرى في الضفة الغربية، وعبر الخطاب الرسمي. وقد يشكل هذا التوقع أحد أبعاد تفسير الالتزام الواسع بالتعليمات الرسمية في أمور تشكل محكاً في مجال الاستعداد لتغيير السلوك الاجتماعي (الواجبات الدينية والمتمثلة في صلاة الجماعة، أو الواجبات الاجتماعية، وخصوصاً في طقوس الوفاة والزواج).
ازدادت درجة الالتزام بإجراءات السلامة في مواجهة وباء كورونا مع زيادة انتشاره، ولا سيما في الضفة الغربية، وكذلك مع تصاعد حدة لهجة الحكومة والمؤسسات الرسمية في هذا المجال. ففي البداية كانت استجابة الناس لإعلان إغلاق المدارس والجامعات، وتوقف العمل في العديد من المنشآت العامة والخاصة، مبنية على الابتعاد عن التجمعات الكبيرة، لهذا لجأ البعض إلى تأجيل موعد الزفاف، أو اقتصاره على الأهل، ولاحقاً يؤجل الزواج أو يجري دون احتفال. وفي مجال التعامل مع حالات العزاء (والتي تفرض واجباً صارماً على كل فرد في القرية بأن يقوم بتعزية ذوي الفقيد شخصياً)، تطورت الاستجابة من التشديد على عدم التقبيل والاكتفاء بالمصافحة، إلى عدم إقامة العزاء في قاعة عامة ونقله إلى منزل أهل الفقيد، والذي رأى فيه بعض الشخصيات الاعتبارية زيادة في خطورة نقل المرض (نقل العزاء إلى مكان أضيق والاختلاط فيه أعلى)، ومن ثم أصبح العزاء بواسطة الاتصال الهاتفي أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي. وهو انتقال من الاستجابة إلى الإجراء الرسمي بإغلاق القاعات العامة إلى القرار الفردي بالاكتفاء "بالتعزية عن بعد"، وقبول هذا السلوك في ظل الحالة القائمة.
والملاحظة نفسها تنطبق على أشكال التجمع الأُخرى. فإذا كان إغلاق المدرسة أو الجامعة قراراً رسمياً، فإن الالتزام بالحجر المنزلي أو عدم الاختلاط هو قرار فردي. فقد استمر تجمع الأطفال والفتيان في الحارات والأزقة في المرحلة الأولى، وكذلك أشكال الاختلاط المتعددة (الجمعات والزيارات العائلية)، وهو ما دفع بعض الشخصيات الاعتبارية، وذوي الاختصاص (أحد الأطباء) والمؤسسات الرسمية إلى التحذير من ذلك، والتأكيد على أن المرض جدي. ومع انتشار المرض في تجمعات أُخرى، وتصاعد حدة الخطاب الرسمي، انتهت هذه المظاهر في الحيز العام (الحارة)، مع استمرار تجمعات على نطاق أضيق (الأقارب والجيران)، والتي تأخذ شكل سهرة أو زيارة. ومع ملاحظة أن أشكال تحوير السلوك الاجتماعي هذه تأتي في سياق التواؤم مع إجراءات تقليص احتمالات انتشار العدوى، وليس التعامل مع آثار انتشاره (إصابات في الموقع، أو وفيات نتيجة المرض).
وتمثل المحك الآخر في تعديل السلوك الاجتماعي بهدف تقليص احتمالات انتشار المرض مثل إغلاق المساجد والصلاة في البيت. مع العلم أن هذه الخطوة جاءت في خضم حملة واسعة باسم "الفجر العظيم"، بهدف زيادة إقبال الناس على الصلاة في المسجد وخصوصاً صلاة الفجر. في البداية كان صلاة البعض أمام باب المسجد المغلق أقرب إلى الاعتراض الضمني على قرار إغلاق المسجد من تأدية فرض ديني (في مدينة الخليل رفض بعض رجال الدين قرار إغلاق المسجد وأدوا صلاة الجمعة، فجرى اعتقالهم). ولاحقاً غابت مظاهر الاعتراض هذه، وساعد على هذا التحول في السلوك فتاوى رجال الدين، بمن فيهم رجال الدين المحليين والذين يتمتعون بثقة الناس في التجمع السكاني.
وفي هذا المجال انتصرت "غريزة البقاء"، وجرى تعديل كبير في السلوك الاجتماعي على مستوى القرية، وشمل ذلك الحالات المتطرفة (الواجبات الدينية والواجبات الاجتماعية فيما يتعلق بطقوس العزاء). ويُلاحظ أن الضغط الاجتماعي يحد من ميل البعض إلى التمرد على إجراءات السلامة المتعلقة بالتجمعات الكبيرة. وبصورة عامة فإن الثمن الناتج من تعديل السلوك الاجتماعي معنوي (مثل البكاء على إغلاق المسجد، والحرمان من الأجر، والتقصير المبرر في تأدية واجب اجتماعي).
أمّا في الجانب الاقتصادي فقد ألقت الأزمة بأعداد كبيرة من الأسر ذات الوضع الاقتصادي الهش إلى خانة الأسر غير القادرة على توفير حاجاتها المعيشية الأساسية، وهم الذين توقفت أعمالهم في القطاع الخاص المحلي، والعاملين داخل الخط الأخضر (المشاريع الإسرائيلية)، وتراجع أرباح، والأغلب تسجيل خسائر، في المنشآت العاملة (مثل البقالات والمشاريع التجارية). وتشمل هذه الأزمة أيضاً المزارعين، فالطلب على إنتاجهم يتراجع نتيجة تراجع القوة الشرائية للمواطنين من جهة، وصعوبة الحركة من جهة أُخرى. علماً بأن الريف الفلسطيني في معظمه يعتمد على السوق في توفير حاجاته المعيشية بما فيها الغذائية (دون حساب الماء والكهرباء والاتصالات).
وكانت الاستجابة لهذه الحالة سريعة، أولاً من خلال تشكيل اللجان الرسمية التي أُلقيت على عاتقها إدارة حالة الطوارئ، بما فيها تشكيل لجان لمعالجة الآثار الاقتصادية على الأسر، وجرى جمع تبرعات محلية، وتوزيع طرود غذائية على الأسر المصنفة "أُسر محتاجة". كما بادر بعض الأفراد إلى توزيع مساعدات عينية على بعض الأسر. وقد أثارت طريقة التوزيع حفيظة بعض العاملين في ميدان المساعدات الاجتماعية، فانتقد علناً، وعبر صفحات التواصل الاجتماعي طريقة التوزيع الاستعراضية، ووصفها بـ "إذلال الفقير".
ومن أشكال الاستجابة للأزمة الحالية، مبادرة بعض المحلات التجارية إلى إلغاء ديون زبائنها، مثل محل لبيع الفواكه والخضراوات الذي أعلن إلغاء ديون الزبائن سواء كانت في الدكان، أو الذين يشترون من السيارة المتنقلة. وانتشرت دعوات إلى تسديد ديون الأسر (الأكثر حاجة) المستحقة لمحلات البقالة، "اذهب إلى صاحب المحل واطلب منه تسديد دين الأسرة، أو الأسر الأكثر ديناً دون معرفة أسم الأسرة، أو اترك مبلغاً من المال عند صاحب المحل واطلب منه أن يسدد منه ثمن السلع التي تشتريها الأسر غير القادرة على تسديد ثمنها"، والهدف من ذلك الحفاظ على سرية المساعدة، وتجنيب الأسر المتلقية للمساعدة الحرج.
ومع ذلك فإن هذه الإجراءات محدودة في فاعليتها، والرهان عليها في حال استمرار الأزمة محدود، ولا سيما مع الخطاب الرسمي الذي يحذر من الأسواء في هذا المجال، بما في ذلك احتمال عدم القدرة على دفع الرواتب كاملة مستقبلاً، وهو ما يضيف عبئاً جديداً على المجتمعات المحلية. كذلك فقدت القرية فرصة أُخرى للمساعدة متمثلة في تحويلات المغتربين إلى ذويهم، أو إلى القرية ككل نتيجة عالمية الأزمة. في المقابل، فإن أشكال تبادل المنافع المباشرة بين العائلات (الأقارب والجيران) تؤدي دوراً فاعلاً، على الرغم من أنها غير مرئية، ولا تسلَّط عليها أضواء التقارير الإعلامية.
ومن الواضح أن الوضع الحالي، وتوقع استمراره فترة طويلة، سيعني تعميق حالة الهبوط في مستويات الاستهلاك (كماً ونوعاً لأغلبية أسر الريف)، وتحملها تبعات مالية لاحقة (الديون والفواتير المتراكمة) تزيد في درجة هشاشتها، وتقلص من قدرتها على الصمود. أي أن إجراءات التكيف في هذا المجال لها جانبها المادي/ الاقتصادي، وهو الوجه الأبرز، بالإضافة إلى جانبها المعنوي (التبعية الاجتماعية).
في الإجمال، فإن تعديل السلوك الاجتماعي حتى الآن موجه بنظرة متشائمة نحو احتمالات انتشار المرض، ومبنية على تقليص احتمالات انتشاره. لكن يبقى خطر الانتقال إلى حالة "الاستسلام القدري" للوباء قائماً في حال انتشار المرض الواسع، أو استمرار الحالة فترة طويلة. ويعني "الاستسلام القدري" للحالة، الميل إلى الخلاص الفردي (الأسرة)، وأولوية التحديات المعيشية اليومية على حساب الحصانة من المرض، وتغطية ذلك بخطاب أيديولوجي تبريري، يستند إلى زيادة الحساسية نحو الفجوة الطبقية (حتى لو كانت محدودة على مستوى القرية)، والفجوة في حرية الحركة والحصول على المنافع المرتبطة بالانتماء التنظيمي. وهي تحديات يجب أخذها بعين الاعتبار في التحوط من الأسوأ في حال حدوثه، وهي الفترة المرتبطة بعودة العمال الفلسطينيين من الداخل بسبب الأعياد اليهودية، وإجراءات العزل الصحي التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية.
الصورة: من تصوير فريد طعم الله