الوباء والحيّز الاستثنائي، "السجن"، كتقنيات استعمارية للإبادة: الأسرى الفلسطينيون نموذجاً
Date:
8 avril 2020
Auteur: 

هناك علاقة بين سمات الحيّز المكاني وتفشي الوباء وتحوله إلى جائحة، ويترتب على ذلك أن محاولة فهم الطريقة والكيفية التي يتفشى بها وباء الكورونا بين الأسرى الفلسطينيين يتم من خلال فهم هندسة السجن الاستعماري الصهيوني.

يظهر السجن في الزمن الاستعماري الصهيوني كحيّز "استثنائي" معدّ لاعتقال المقاومين الفلسطينيين ضمن بنية مغلقة محصورة، وحرمانهم من محيطهم الاجتماعي الطبيعي، واستخدام تقنيات تعذيب جسدية ونفسية، لاستهداف أجسادهم، كأجساد تعمل على زعزعة الفكرة التي تقوم عليها الصهيونية فكراً وعملاً. وبينما تحاول السياسات الاستعمارية في الحيز "الطبيعي" ولو بصورة آنية، الحد من انتشار وباء الكورونا بهدف استمرار تدفق الأيدي العاملة للعمل في "إسرائيل" وخصوصاً في قطاعي البناء والزراعة، وخوفاً من إزدياد حدة تفشي المرض بين مواطنيها، إلاّ إن هذه السياسات في الحيز الاستثنائي ،"السجن"، تعمل على إهمال وقف مسببات المرض، وتوفير المواد اللازمة لمنع الإصابة به.

لقد تعمدت السياسات الاستعمارية على مدار سنوات طويلة العمل على تدمير مناعة أجساد الأسرى الفلسطينيين من خلال وضعهم في غرف تفتقر إلى مقومات العيش الكريم، إذ تتسم هذه الغرف بأنها مصممة وفق أيديولوجيا هادئة وصامته ومتقنة، تقوم على ممارسة "التعذيب الناعم"، الذي يترك أثراً تراكمياً بطيئاً وطويلاً في هذه الأجساد. يأتي ذلك من خلال وضع الأسرى في أوضاع معيشية يومية سيئة، فالغرف حجمها لا يتلاءم مع القدرة الاستيعابية للأعداد الموجودة داخلها، والحمام موجود داخل الغرفة، ناهيك أن الحمام في بعض السجون ليس للاستعمال اليومي فقط، بل للاستحمام أيضاً. لا تدخل الشمس هذه الغرف، ولا يُسمح لهؤلاء الأسرى بالخروج من الغرف إلاّ خلال وقت الفورة، وهو وقت لا يتعدى الساعات القليلة في اليوم، زد على ذلك أن هذه الغرف شديدة البرودة في الشتاء، إذ لا توفر إدارة السجن أي وسيلة تدفئة للأسرى، ناهيك عن نقص في عدد الأغطية الموجودة داخل السجن، إلى درجة شبّهت فيها إحدى الأسيرات البرد بأنه يصل إلى حد الألم، يرافق ذلك تعمد هذه السياسات تقديم الأكل غير الصحي للأسرى. وحتى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كان الأسرى الفلسطينيون يخوضون معارك نضالية جماعية إمّا من خلال الإضراب عن الطعام، وإمّا إرجاع الوجبات في محاولة لإجبار إدارة السجن على تقديم وجبات جيدة للأسرى، إلاّ إنه وبعد منتصف التسعينيات أصبح الأسرى يلجأون إلى توفير مستلزماتهم وحاجاتهم من "الكنتينا". ومن خلال العديد من المقابلات التي أجرتها الباحثة مع أسرى وأسيرات، تبين أن محتويات "الكنتينا" هي في الغالب معلبات، فاللحمة معلبة، والخضروات بأنواعها معلبة، كما أن هناك نسبة كبيرة من المواد التي ترتفع فيها نسبة السكريات كالشوكولاته بمحتلف أنواعها. ولنا أن نتخيل هنا زيادة سريعة في الوزن، مع أكل غير صحي لا يمد الجسم بما يحتاج إليه، وفي داخل زنزانة محصورة يظل فيها الأسير جالساً لوقت طويل، بحيث يصبح الجسد فريسة سهلة للأمراض، بسبب ضعف مناعة، لتأتي سياسة الإهمال الطبي وتستكمل القضاء على هذه الأجساد، إذ يُترك الأسير يعاني جرّاء آلامه وأوجاعه من هذه الأمراض. وما توفره هذه الإدارة هو ما سماه الأسرى "الحبة السحرية"، وهي "الأكامول، الأسبرين". هذه الحبة هي علاج لكل الأوجاع، يستمر العلاج بهذه "الحبة السحرية"، حتى يصل الأسير إلى نقطة اللاعودة ليتم عرضه على طبيب، وفي أغلب الحالات تضطر إدارة السجن إلى عرض الأسير المريض على الطبيب بعد أن يخوض الأسرى إمّا إضراباً عن الطعام، وإمّا إرجاعاً للوجبات.

وبالتالي فإن وضع الأسرى في غرف تفتقر إلى أدنى مقومات العيش الكريم، مع تعمد تزويدهم بالأكل غير الصحي والإهمال الطبي في حقهم، أدى إلى وجود أجساد ضعيفة هزيلة، ذات مناعة لا تقوى على مقاومة المرض العادي، ليأتي وباء الكورونا كوباء شرس يستهدف أجساداً أُنهكت من التعذيب الجسدي والنفسي، وأُنهكت من أوضاع الحياة في داخل السجن.

إن الأيديولوجيا التي تقوم عليها السياسات الاستعمارية داخل السجن تستهدف الجسد من خلال عملية إبادة، وهنا لا نعني بالإبادة حتمية موت الجسد، "وهو الهدف"، وإنما نعني بها منظومة السجن التي تعمل على تدمير جسد الأسير وتحطيمه، وتدميره هنا يكون بخلق جسد ذات مناعة ضعيفة هزيلة لا يقوى على التغلب على المرض العادي، ويزداد ذلك شراسة مع ظهور وباء الكورونا الذي تشكل فيه مناعة الجسد السلاح الرئيسي لتجاوز المرض والتغلب عليه. وإن ما يعزز تحليلنا هذا هو ما قامت به إدارة السجن قبل أيام قليلة من سحب 140 صنفاً من "كنتينا" الأسرى وهي مواد تُعتبر أساسية في مقاومة وباء الكورونا منها مواد التنظيف، وبعض الأعشاب التي يستخدمها الأسرى بديلاً عن الأدوية وأهمها اليانسون.[1]

إن هذه السياسات الاستعمارية التي يعاني جرّاءها الأسير منذ اللحظة الأولى لدخول السجن قابلها الأسرى بالصمود، والصمود داخل السجن جاء من فكرة مهمة، وهي فكرة التضامن، حيث ذوبان الألم الفردي مع الألم الجماعي، إذ أصبحت هذه العلاقات التي بنيت في سياق الألم والحرمان أقوى وأمتن من العلاقات التي تبنى في سياقها الطبيعي، وهي وسيلة الأسرى لمحاولة استيعاب فكرة وجودهم في هذا المكان "الاستثنائي"، حيث لا الوقت يشبه وقته الحقيقي، ولا الزمن يشبه زمانه الحقيقي. لكن مع ظهور وباء الكورونا "تكسرت"" فكرة التضامن، وتحولت هذه الحالة الإيجابية إلى العزل، يبرر ذلك آلية انتشار المرض التي تقوم على العدوى المباشرة، إذ يوضع الأسير في غرفة منعزلة عن كل شيء، ويترك لوحده ينتظر مرور الثواني والدقائق كأنها دهراً كاملاً. فيما شكى هؤلاء الأسرى في حالة "العزل" من تجاهلهم نهائياً، فلا كتب متوفرة، ولا لقاء مع محامين، ولا مقابلة مباشرة مع طبيب، ولم يجرِ حتى الآن أي اتفاق أو حتى مطالبة بمتابعة فلسطينية أو دولية لهؤلاء الأسرى. ولنا الحق هنا أن نتساءل: هل سيشكل العزل جداراً خفياً لإجراء تجارب طبية على الأسرى في سبيل إيجاد لقاحات لهذا الوباء؟ تساؤلنا هنا يزداد أهمية إذا علمنا أن وزارة الصحة الإسرائيلية قد أقرت بمنحها تصاريح لإجراء تجارب على الأسرى لشركات الأدوية الخاصة، وقد أجرت حتى سنة 1997 (5 آلاف) تجربة. زد على ذلك التحقيق الذي أجرته صحيفة (برافدا) الروسية، وتوصلت فيه إلى أن إسرائيل قامت بإجراء تجارب طبية على أسرى فلسطنيين، بما في ذلك حقنهم بفيروسات خطيرة، كما توصلت الدراسة بناء على مصادر قالت إنها من "تل أبيب والضفة الغربية المحتلة"، إلى أن هذه الفيروسات تم حقنها لمعتقلين قد اقترب موعد الإفراج عنهم، وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر يأتي في سياق حالة الأسير نور صرصور الذي أُفرج عنه مؤخراً وتبين أنه مصاب بوباء الكورونا.[2]  لن أدعي الآن بأن إسرائيل تريد نقل المرض من داخل السجن إلى خارجه خلال هذه الفترة على الأقل، لكنني أدعي بأن وجود أسير مصاب بمرض الكورونا في قسم 14 "المعبار"، واختلاطه بأسرى آخرين يُعتبر محاولة من إسرائيل لنشر هذا الوباء بين الأسرى، بهدف العمل بصمت وبصورة طبيعية على إبادة مجموعة مقاومة، وإجراء تجارب طبية عليهم لاكتشاف لقاح وعلاج لهذا المرض يُظهر "إسرائيل" أمام العالم بمظهر الرجل الأبيض "المنقذ" الذي تقع على عاتقه مهمة "إنقاذ" الإنسان.

 

[1]  نادي الأسير، "إدارة سجون الاحتلال تقرر سحب 140 صنفاً من 'الكنتينا'".

https://bit.ly/2xGmSz5

[2]  سما الاخبارية، "وزارة الصحة الإسرائيلية تقر بإجراء 6 آلاف تجربة سنوياً على الأسرى الفلسطينيين لفيروسات خطيرة".

https://bit.ly/3bNIb0o