ليس بحراً عادياً هذا، إنه بحر دون شطآن.. هنا لا تنتهي السباحة أو التجديف.. والغرق ممكن، كما فراق الأحبة. تمر طائرات مروحية فوق سطح البحر الممتلىء بالزبد، وتعتليه أجساد وقوارب هاربة من حروب دامية.. أوقات من الرهبة لا تخلو من لحظات حميمة مسروقة في بحر يحتل بقعة تفصل ما بين الشرق والغرب.
في معرضه الفردي "بحر بلا شطآن"، يحوّل تيسير بركات أعماله إلى سجل بصري يوثق ما يواجهه المهاجرون الفارون من أوطان اشتعلت فيها الحروب وعمّها الدمار.. أوطان ضاقت ذرعاً بأهلها ولفظتهم خارجاً، فمضوا باحثين عن حياة كريمة عبر البحر.
يقل تناول الفنانين الفلسطينيين لقضية مثل عبور المهاجرين للبحر المتوسط، وتندر مشاريع مثل هذه تبحث في تجارب مشتركة تتمحور حول التشتت والفراق والانفصال عن الوطن والإبحار في غياهب المجهول. تيسير بركات الذي تهجّر أهله من مدينة المجدل المحتلة سنة ١٩٤٨، عاش حياته في مخيم للجوء في غزة في طفولته، تبعتها تجربة انفصاله عن أهله عند انتقاله إلى رام الله منذ الثمانينيات، إلا فيما ندر لإجراءات قمعية يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على تنقل الفلسطينيين ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
نشأ تيسير بركات بالقرب من البحر؛ فعاش كطفل في مخيم جباليا، ومن ثم انتقل إلى مدينة الإسكندرية حيث درس الفن. ولكن البحر الذي ألفه بركات تغيّر، ولم يعد تلك المساحة المفتوحة المحاذية لجغرافيا اللجوء المكتظة، التي أتاحت له فرصة من التأمل والحلم، وتحوّل إلى فصل في أسطورة، عندما أخذ يطالب بقرابين عبور آدمية تسد شهيته المفتوحة، فأخفى شطآنه وعلت أمواجه وهاجت حتى أخذ حصته من أرواح العابرين.
وداع، تيسير بركات، ٢٠١٩
تقنية الرسم في أعمال تيسير بركات، تبث إحساساً وكأن البحر مخلوق حي يتنفس. فمن خلال الحركة المضطربة للموج على سطح اللوحة، يمكن الشعور بأجساد حية في الأعماق. نرى مياه البحر وكأنها تتحرك من تحت القوارب المهتزة، التي يميل كل من فوقها في الاتجاهات كافة. وإذا أمعنّا النظر جيداّ في بحر تيسير بركات، قد نستطيع تخيّل بوسايدون إله البحر الإغريقي يوجّه العواصف البحرية ويحرك الموج من القاع، بل نستطيع أن نشعر به ربما وهو يتنفس من تحت الماء مستخدماً رئات آلالاف الهاجرين الذين فقدوا حياتهم غرقاً.
تُذكّر أعمال تيسير بركات بصورة عامة برسومات الكهوف المبكرة، ونجده، في تجاربه المختلفة على مر السنوات، سواء اللوحات على قماش أم باستخدام الحرق على الخشب، وكأنه يوثق بصرياً تفاصيل حياته وما يؤرقه من قضايا، وكأنه يكتب مذكرات تفصيلية على شكل ملحمة مصورة على جدران كهف ما. وفي هذا المعرض، يرسم تيسير بركات ويوثق الموت والحياة على سطوح لوحاته، بألوان يطغى عليها الأزرق والبرتقالي والأبيض؛ قارب يلقي بمن عليه وسط البحر، قوارب مطاطية فارغة تماماً وأخرى مكتظة بالأجساد، أرواح تطير في السماء، بعثات إنقاذ، أم تحتضن أطفالها، عاشقان، دوريات حدود تحول دون الوصول إلى الهدف، طائرة مروحية تطير بشكل منخفض فوق الرؤوس.. رحلة بطولة تتكلل بمجموعة من المهاجرين المحتجزين يتم اقتيادهم تحت الحراسة في خط مستقيم، وما يشبه طقوساً احتفالية لقلة اجتازت جميع العوائق.
بحر بلا شطآن، تيسير بركات - ٢٠١٩
يسود اللون الأبيض سلسلة من الأعمال ذات القطع الكبير والتي تحمل عنوان "فراق"، وتعكس ببرودها قسوة البحر ولامبالاة العالم. يطل جسدان من طرفي إحدى اللوحات وتفصل بينهما مساحة شاسعة من البياض. لوحة أخرى يتشكّل فيها زبد البحر من حروف علقت في حناجر أصحابها الذين قضوا. شخوص يودع بعضهم الآخر في لحظة من الفراق القسري، وناجون يبحثون عما تبقى. وفي خضم ذلك تتصدر المرأة المشهد، فنراها تضع يدها خلف ظهرها تارة في حالة من الانتظار والترقب، وأخرى تظهر بجسد برتقالي وشعر يطير في الهواء، وكأنها تحاول بلونها الناري كسر حدة اللون الأبيض البارد الطاغي. عروس بالقرب من البحر، وأخرى تنظر إلى مرآة، هل هي القربان التالي للبحر الغاضب؟
بحر بلا شطآن، تيسير بركات، ٢٠١٩
يرسم بركات في عدد من أعماله في هذا المعرض قضباناً داكنة في الجزء الأمامي من اللوحة، فتشكل فاصلاً بين المشاهد والمشهد في الخلف، وتتحوّل إلى حاجز أو نافذة... فيشعر المشاهد بشخوص بركات وكأنها في سجن خارجي، ويصبح البيت عبارة عن وطن مظلم مظلل، أما الشخوص في الخلفية، فتظهر وكأنها تكابد حياة في سجن مفتوح خارج الوطن. تتجلى تلك السلسلة في لوحة ذات قطع كبير تتألف من مربعات بيضاء مقطعة بخطوط سوداء طولية وعرضية. وفي كل مربع خيال لكل ما يمثل الحياة لدى بركات.
إن بحر تيسير بركات، الذي اختار له أن يكون مفتوحاً، بلا شطآن، كقدر الفلسطينيين، يستعيد تشكيلياً، ما نطق به محمود درويش شعرياً: "لماذا نحاول هذا السفر، وكل البلاد مرايا. وكل البلاد حجر".
(بحر بلا شطآن، غاليري زاوية، رام الله/فلسطين، من ١٥ كانون الثاني/يناير إلى ٢ نيسان/أبريل ٢٠٢٠).