مقدمة مفاهيمية:
مرّت معظم دول العالم بعمليّات تحضّر وتمدّن متسارعة طوال القرنين الماضيين، ولم تكن فلسطين استثناءً حتّى بداية القرن العشرين. فقد شهدت العديد من المناطق الفلسطينيّة تطوّر مراكزَ حضريّة في العقود الأخيرة من الحكم العثمانيّ. ولا شكّ أنّ تطور المدينة الفلسطينيّة قد تأثّر خلال المائة عام الفائتة بالأحداث السياسيّة المتلاحقة في المنطقة. وبينما يُعزى تطور المدينة في فلسطين وازدهارها إلى الفترة العثمانيّة المتأخّرة، فإنّ بداية إعاقة هذا التطوّر تعود إلى فترة الانتداب البريطانيّ على فلسطين وما تلاها، وصولًا إلى نكبة سنة ١٩٤٨، وما تبعها من تهجير لما يزيد على نصف الشعب الفلسطينيّ، وتفكّكٍ للمجتمع وانحسارٍ لتطورّه المدينيّ، وما رافق ذلك من مظاهر اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة عديدة.
وعلى الرغم من استمرار التهويد الممنهج، ومساعي إنتاج المدينة الفلسطينيّة كغيتو في الداخل المحتلّ منذ سنة ١٩٤٨، كما في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة منذ سنة ١٩٦٧، فإنّ النضال السياسيّ والحراك الاجتماعيّ والثقافيّ المستمرّين للفلسطينيّين شكّلوا عوامل مقاومة وإعادة بناء وتحديًّا لآليّات السيطرة والمحو الإسرائيليّة.
ضمن هذا السياق، تطرح مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة هذا العام موضوع "المدينة الفلسطينيّة" للدراسة والنقاش في مؤتمرها السنويّ في 1، 2، 3 تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٩. تهدف المؤسّسة من وراء هذا المؤتمر دراسة ما أمكن من قضايا التحوّلات الحضريّة الفلسطينيّة في ضوء علاقتها بالحقب الزمنيّة المتعاقبة، والأحداث السياسيّة المتتالية التي شهدتها فلسطين منذ نهاية العهد العثمانيّ حتّى الآن. يفتح المؤتمر الباب أمام أبحاث جديدة في مختلف الحقول العلميّة ذات العلاقة، أبحاث تهتمّ بتاريخ المدينة، وواقعها، كحاضنة للثقافة وناظمة للحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة.
كتبت رنا عناني...
عقدت مؤسسة الدراسات الفلسطينية مؤتمرها السنوي في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٩ تحت عنوان "المدينة الفلسطينية: قضايا في التحولات الحضرية"، في قاعة ملحق الحقوق في جامعة بيرزيت. وجاءت أعمال المؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام بمشاركة نخبة من الباحثين والأكاديميين والمفكرين والعاملين في هذا الحقل من فلسطين وخارجها، بهدف دراسة قضايا التحوّلات الحضريّة الفلسطينيّة في ضوء علاقتها بالحقب الزمنيّة المتعاقبة، والأحداث السياسيّة المتتالية التي شهدتها فلسطين منذ نهاية العهد العثمانيّ حتّى اليوم. وقد تم تسليط الضوء على قضايا مهمة قلما يتم نقاشها بتوسع حول المدينة الفلسطينية وما طرأ عليها من تطورات عبر السنين، وما تمر به من تحولات حالياً مع استمرار التهويد الممنهج ومساعي إنتاج المدينة الفلسطينية كغيتو في الداخل المحتل منذ سنة ١٩٤٨، كما في الضفة الغربية منذ سنة ١٩٦٧. وتطرق المؤتمر للنضال السياسيّ والحراك الاجتماعيّ والثقافيّ المستمرّين للفلسطينيّين الذين شكّلوا عوامل مقاومة وإعادة بناء وتحديًّا لآليّات السيطرة والمحو الإسرائيليّة.
وافتتح المؤتمر بكلمة مفتاحية للمؤرخ العربي، والأديب والسفير اللبناني السابق في القاهرة خالد زيادة الذي شارك عبر سكايب من بيروت بورقة حول التحديث الحضري في المدينة العربية والمراحل التي مر بها هذا التحديث، وإعادة تنظيم الحيز المكاني منذ أواسط القرن التاسع عشر، وتأثيره على ما يسمى "المدينة القديمة – المدينة الجديدة".
واستهلت الجلسة الافتتاحية التي ترأسها عميد كلية الآداب في جامعة بيرزيت إبراهيم موسى، وجاءت تحت عنوان "قراءات حضرية في تاريخ ما بعد النكبة"، بورقة للمؤرخ الفلسطيني عادل مناع، تحت عنوان "بقايا: مصائر المدينة الفلسطينية في إسرائيل بين النكبة والنكسة"، ناقش خلالها مصائر السكان الفلسطينيين الذين بقوا في المدن الفلسطينية بعد نكبة سنة ١٩٤٨، وعقد مقارنات بين المصائر المختلفة للناجين وتأثير النكبة على حيواتهم، بالتركيز على أهمية بقاء مدينة الناصرة وسكانها ونجاحهم في بناء مؤسسات سياسية وثقافية مؤثرة في حيفا والجليل في ظل فترة الحكم العسكري الاسرائيلي حتى سنة ١٩٥٨.
واشار مناع إلى أن الناصرة هي المدينة الفلسطينية الوحيدة التي بقيت من أصل ١١ مدينة فلسطينية، وأن اللاجئين نزحوا إليها من المدن والقرى المجاورة مثل صفورية والمجدل، فيما أصبحت صفد وبيسان وطبريا وبئر السبع مدناً خالية تماماً من سكانها الأصليين ، وصارت المدن الساحيلة عكا وحيفا والرملة مدناً مختلطة حيث بقي فيها بضعة آلاف، وبضع مئات في اللد والرملة. وأن هذه المدن جميعها، ما عدا مدينة عكا، خسرت الريف بشكل كامل، مؤكداً أن لبقاء الناصرة أهمية كبيرة بالنسبة لسكان قرى الجليل الذين عانوا من قطيعة عن العالم العربي، ولكنهم نجحوا في بناء مؤسسات سياسية مؤثرة.
وتحدث مناع عن أثر غياب المدينة على السلوك السياسي، واختفاء النخب الوطنية واستمرارية الباقين دون قيادة. كما انعكس غياب المدينة فكرياً وثقافياً، إذ أقفلت العديد من الصحف، ولم يعد هناك من يرعى المؤسسات الثقافية، أما عدد المحامين بعد النكبة فلم يتعدَ العشرة، بينما كان عدد المدارس الثانوية العربية أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، واحتاج الطلبة إلى تصريح من الحكم العسكري لدخول الجامعات، ولم تقم اسرائيل ببناء مدينة أو قرية واحدة وضيقت الخناق على البلديات العربية.
أما الورقة الثانية في هذه الجلسة، فقدمها أستاذ التخطيط الحضري في قسم الجغرافيا ودراسات البيئة في جامعة حيفا، راسم خمايسي، استعرض فيها وبشكل نقدي التحولات التي مرت وتمر بها المدينة الفلسطنية خصوصاً بعد التقسيم الجيوسياسي القسري، بتناول نظري لواقع المدينة الحالي ومركباته عبر إجراء مقارنات بين واقع المدن الفلسطينية المستأنفة تنميتها في ظل السيطرة الاسرائيلية وتلك التي يقابلها مشروع وطني فلسطيني مشتت. وفسرت المقارنة سبب وجود بيئة مدينية مشوهة في فلسطين تتميز بممارسات تنموية حضريّة محصورة ومأسورة.
وتحدث خمايسي عن أربعة أحداث جيوسياسية كان لها أثر مباشر في صياغة ملامح المدينة الفلسطينية هي: احتلال اسرائيل لباقي الأراضي في سنة ١٩٦٧، والانتفاضة الأولى سنة ١٩٨٧، وإقامة السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو في سنة ١٩٩٣، والانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة سنة ٢٠٠٥، مؤكداً على الدور الذي يلعبه المناخ والتضاريس والتنوّع الحيوي وثقافة الناس في التأثير على تطور المدينة. وأشار إلى أنه في مدينة نابلس مثلاً، تتوسّع القرى وتنضم جغرافيّاً لحدود المدينة، أما رام الله فهي نموذج المدينة المركز التي تستقطب الهوامش والأطراف، وأن مستقبل قطاع غزة ينبؤنا بمدن مليونية سنة ٢٠٤٠. وأكد أن هنالك تناحراً بين المدينة الإسرائيليّة والمدينة الفلسطينيّة، إذ تمتاز الأخيرة بنمو عضوي، فعدد سكّان عكا اليوم يفوق العدد قبل النكبة.
وتناولت الجلسة الثانية التي عقدت يوم السبت في ٢ تشرين الثاني ٢٠١٩، التاريخ الاجتماعي للمدينة الفلسطينية، ترأسها الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية ورئيس تحرير مجلة "فصلية القدس"، سليم تماري. واستعرضت الجلسة جوانب من التاريخ الاجتماعي لثلاث مدن بما يمتد لأكثر من قرن من الزمن. وجاءت ورقة الباحث في التاريخ والدراسات الاسرائيلية والمحامي والمرافع في القانون الدولي أحمد أمارة، التي قدمها عبر السكايب، لتناقش مدينة بئر السبع، تحت عنوان "بئر السبع: مدينة حدوديّة، تطرق فيها إلى الظروف والاعتبارات المختلفة التي أدت إلى تأسيس المدينة في أوائل القرن العشرين وتطور المدينة الحديثة حتى نهاية الحكم العثماني. وجادلت الورقة أن تأسيس بئر السبع لا يمكن فصله عن السياسات العثمانية الداخلية والخارجية ومنها مشروع الدولة العثمانية السياسي – الاجتماعي لتوطين البدو، والسيطرة عليهم وعلى الحدود في تأسيس سيادة وشرعنة الحكم العثماني في المناطق الحدودية من الإمبراطورية العثمانية تجاه السكان أنفسهم وتجاه البريطانيين.
وطرحت الورقة من ناحية أخرى مسائل تنظيمية وأخرى تخطيطية لمدينة بئر السبع، ووقفت على بعض المناصب الوظيفية والمؤسسات الإدارية التي ارتبطت بالمدينة، وأهم الفضاءات التي ساهمت في تشكيل هوية المدينة وتعريفها. وناقشت الورقة بئر السبع كمشروع اجتماعي تربوي، بما في ذلك مسائل الدين والتعليم ونشأة مؤسسات تهدف لنهضة السكان اجتماعياً، كالمدارس والسينما والصحف. أما بخصوص مفهوم الحدود، والمدينة الحدودية، فقد شكلت بئر السبع حدود جنوب فلسطين، أو بلاد غزة على حد وصف أمارة، وكانت مسألة الحدود من الأسباب التي ساهمت في اختيار موقع المدينة، وذلك إلى جانب أسباب استراتيجية أخرى، كالأهمية التاريخية للموقع، والأهمية التجارية كون بئر السبع نقطة وسطية بين غزة والخليل.
من جهتها، قدمت الباحثة والناشطة النسوية همت زعبي ورقة بعنوان "تحويل "حيفا الجديدة" إلى "حيفا مدينة مختلطة" – تصميم الحيز كأداة لهندسة الهوية الجماعية/ الطائفية"، استعرضت خلالها الفضاءات المختلفة التي أنتجت في مدينة حيفا في ظل أنظمة حكم استعماريّة مختلفة منذ القرن العشرين، وبينت دورها في تشكيل هويات السكان. وجادلت الورقة أن هذه التحولات التي شهدتها حيفا بالارتباط مع سياسات إدارة السكان الاستعماريّة، لعبت دوراً مهماً في تشكيل فضاء حيفا وتشكيل هويات وتجربة الفلسطينيين في اختبار العيش في فضاءات حضرية.
أما الاستاذة المشاركة في علم الاجتماع ومديرة برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت ليزا تراكي، فقدمت ورقة حول مدينة رام الله تحت عنوان "حيوات عادية: أصول الطبقة الوسطى في مدينة صغيرة في فلسطين في مطلع القرن العشرين". وبحثت تراكي من خلال ورقتها في تبلور طبقة وسطى في رام الله في مطلع القرن العشرين، وصفتها بأنها طبقة مختلفة عن تلك التي كانت تنمو في المدن الساحلية والقدس. وسعت الورقة إلى تبيان العوامل التي اجتمعت في لحظات معينة، وأضفت عليها طابعاً خاصاً. وتشكل هذه الدراسة مساهمة في كتابة التاريخ الاجتماعي للبلدات الصغيرة في فلسطين، تاريخ لم يحظ باهتمام كبير لدى المؤرخين الاجتماعيين.
وجاءت الجلسة الثالثة التي ترأسها مدير متحف جامعة بيرزيت والاستاذ المشارك في دائرة التاريخ والآثار نظمي الجعبة، لتبحث في "التحولات الحضرية في مدينة القدس". قدم خلالها مدير الإعلام والمشاريع في المركز العربي للتخطيط البديل شادي خليلية ورقة مشتركة مع الباحثة في الانثربولوجيا في جامعة تورنتو ماريانا ريس، بعنوان "تأثير مخطط القطار الهوائي (التلفريك) في القدس الشرقية على السكان الفلسطينيين"، استعرضت المخطط الاسرائيلي الذي يأتي متكاملاً مع سياسات التهويد الاسرائيلية في القدس الشرقية بهدف تعزيز سيطرة إسرائيل على المكان والحياة الاقتصادية والاجتماعية والحيّزية لسكان القدس.
وأشار الباحث إلى أن المخطط يعمل على تسهيل عملية الوصول إلى المناطق السياحية في القدس الشرقية، حيث يمر التلفريك من منطقة الخان الى منطقة جبل صهيون ثم يعبر فوق بيوت أهالي سلوان ثم باب المغاربة، وأنه مهيأ لأن يحمل 3000 مسافر بالساعة، فوق بيوت أهالي سلوان. كما أشار إلى أن هناك مقترحاً لتمديد التلفريك ليصل إلى جبل الزيتون، وأيضاً لتمرير مسار آخر فوق سلوان، لادعاء الحكومة الاسرائيلية أن هذه المنطقة هي منطقة تراثية ودينية. و أضاف أنه يترتب على ذلك العديد من الأضرار الاقتصادية على أهالي القدس خصوصاً بلدة سلوان، تشمل الحياة الاقتصادية في السوق القديم في البلدة القديمة، و خفض ارتفاع بعض البيوت وهدم بعض الطوابق العلوية القريبة من السور الذي يمر فيه التلفريك، كما سيضر التلفريك بالمظهر الأثري القديم لمنطقة الأسوار والبلدة القديمة والتي تعتبرها اليونسكو ارثاً عمرانياً وإنسانياً. وأكد أن اسرائيل تخفي دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع لأنها لا تريد الكشف عن المشروع بهدف التمكن من تطبيقه.
أما الباحث وأستاذ التصميم العمراني في جامعة بوليتيكنك فلسطين في الخليل عبد الحافظ أبو سرية، فقد تتبعت ورقته "عمارة المشهد الحضري لمدينة القدس الشريف والتغيّر المورفولوجي لمنطقة باب العامود والمصرارة كحالة دراسية ١٩١٧ – ٢٠١٧"، التغيرات في الصورة البصرية والمورفولوجية لمنطقتي باب العمود والمصرارة منذ بداية القرن العشرين، فبينت تأثيرات المخططات والقوانين العمرانية والهيكلية للانتداب البريطاني والاحتلال الاسرائيلي على الصورة البصرية، والتشظي الناتج في المشهد الحضري والمعماري المقدسي.
وتناول مساهمة الاحتلال البريطاني في تفكيك المشهد الحضري بتبني مخططات المهندسين آشبي، وغيديس و ماكلين الذين استكملوا مخططات اللنبي وستوراس لمدينة القدس. ففرضت المخططات قوانين تشمل عدم البناء أو الترميم داخل المدينة إضافة لقيود على البناء خارج المدينة، إذ تم رسم دائرة نصف قطرها 2 كم من مركز البلدة القديمة، منع فيها البناء إلا بتصريح من الحاكم العسكري. وأضاف أنه لم يتم احترام المدينة في هذه المشاريع، التي هدفت إلى السيطرة وإحلال عمارة جديدة على أفق المدينة المقدسة. وأشار إلى أن المباني الجديدة كانت ذات طابع معماري مغاير للموجود مثل المستشفى الإيطالي الذي تم نقله حرفيا عن مبنى في إيطاليا، ومبنى شميدت الذي نقلت عمارته عن كنيسة النوتردام، مضيفاً أن جميع المخططات جاءت لخلق حيز جديد داخل حيز للمدينة، وأن التنمية الحضرية في القدس في الفترة البريطانية امتدت نحو الجهة الشمالية الغربية دون اكتراث بالجهة الشرقية.
وحاولت الدراسة التي قدمها الباحثون في علم الاجتماع أحمد حنيطي وشيراز نصر ووئام حمودة تحت عنوان "القدس وريفها: قرى القدس "حالة دراسية"، جسر إحدى الفجوات البحثية في علاقة القدس بريفها من خلال التركيز على دراسة العلاقة بين قرى شمال غرب القدس وبين مدينة القدس وتحولاتها عبر السياقات التاريخية المختلفة. وناقشت الورقة باسهاب تأثير سياسات إسرائيل والسلطة الفلسطينية على الذاكرة الجمعية للسكان وارتباطهم بالمكان وعلاقتهم بالقدس بالتركيز على قرى بدو، قطنة، بيت اكسا، بيت عنان. وناقشت الورقة زيادة مركزية القدس كمركز حضري لهذه القرى خاصة بعد فصلها عن مدينتي اللد والرملة. وأشارت إلى أن اسرائيل عملت على حماية طريق القدس تل ابيب، وبالتالي ساعدت في تناقص عدد السكان في هذه المنطقة، وازدياد ارتباط سكان القرى بالقدس حيث استمرت عملية تسويق المنتجات الزراعية هناك والعمل في مؤسسات المدينة. ومع بناء الجدار وسياسات الفصل الاسرائيلية، لم يعد ممكناً تسويق المنتجات الزراعية في القدس، وبالتالي قلت اليد الزراعية العاملة في هذه القرى، وتم استقطابها للعمل في اسرائيل، بينما تم عزل القدس عن هذه القرى من خلال سياسات استعمارية أدت إلى زيادة هجرة سكانها إلى الخارج وتوقف التوسع الطبيعي والحد من تطور المنطقة.
وعقدت الجلسة الرابعة برئاسة الاستاذة المساعدة في دائرة العلوم السياسية ودائرة الفلسفة والدراسات الثقافية غادة المدبوح، تحت عنوان "فضاءات متداخلة" التداخل الزمكاني ومراكز القوى والمصالح المتقابلة في عدد من المدن". فجاءت ورقة الباحثة في الشؤون الأوسطية وتحديداً الكولونيالية الاستيطانية في فلسطين التاريخية، اتكساسو دومينغيز دي اولازابال، لتستكشف الفضاء الثنائي لمدينة حيفا بصفتها مدينة فلسطينية "محمية حضرية" وبصفتها مدينة استعمارية للمستوطنين في الوقت الحالي. واستعرضت الورقة سياسات تهويد المدينة والسيطرة على الحيّز والفصل المكاني بين العرب واليهود في إسرائيل، بالتركيز على الأشكال المختلفة للمقاومة التي يمارسها الفلسطينيون في حيفا تأكيداً على هويتهم ومحاولة لاستعادة الفضاء الحضري.
من جهته، ألقى سليم ابو ظاهر، المحاضر في جامعة بيرزيت والمتخصص في هندسة التخطيط والتصميم العمراني في ورقته المعنونة "قصة مدينتين: رام الله والبيرة"، نظرة معمقة على العلاقة التنافسية بين البيرة ورام الله، وذلك عبر رصد تجليات التباين في الصيت والسمعة والقيمة الرمزية والممارسات، وأثر القيود الاستعمارية على استخدامات وتوزيع الاراضي بين المدينتين، والتي تنتج صورة رام الله "الراقية والمتحررة" القادرة على جذب الاستثمارات والتطوير العقاري، مقارنة بالبيرة التي تشهد تداخلاً بين ثقافة التديّن الشعبي والسلوك المحافظ.
وقدم مؤسس ومدير مؤسسة المعمل للفن المعاصر جاك برسكيان دراسة تحت عنوان "فعل ماضٍ" دراسة لصور فوتوغرافية حالية وأخرى تبلغ من العمر مئة عام في محاولة لفهم الحاضر والحياة اليومية في مدينة القدس مركزاً على استعراض مشروعه الفوتوغرافي الذي يتناول مدينة القدس ومشهدها الحضري، ويغوص في التحولات التي طرأت على فضاء المدينة الحضري، وإعادة المحتلين الجدد تعريفها، وسرد تاريخها، وتحريف صورتها بما يتناسب مع الرواية الجديدة.
وجاءت الجلسة الخامسة في اليوم الثاني من المؤتمر التي ترأسها البروفيسور ومهندس التخطيط رامي عبد الهادي، تحت عنوان "تحديات ومقاومة". واستعرض المهندس المعماري ومخطط المدن، ورئيس اتحاد المهندسين اللبنانيين وهيئة المعماريين العرب جاد ثابت عبر سكايب ورقته حول "مدينة الخليل القديمة: ابجدية الاحتلال والتراث المقاوم"، تناول فيها التحولات المختلفة التي مرت بها البلدة القديمة في مدينة الخليل بما في ذلك تاريخ نشأتها وتأسيسها وتطورها العمراني والنشاط الاستيطاني الاسرائيلي فيها، والسيطرة العسكرية والأمنية الاسرائيلية على حيز البلدة والتي تستهدف تهجير الفلسطينيين، والمقاومة الفلسطينية، ونشاط لجنة إعادة إعمار البلدة القديمة في الخليل.
واختتمت أعمال اليوم الثاني، بورقة للمهندس المعماري والمرمم خلدون بشارة تحت عنوان "رام الله الحداثية: مساق لفهم التخطيط الحضري تحت الاحتلال"، ناقش فيها ظروف إنتاج مدينة رام الله وفضائها وتسارع تحضرها وعمرانها، وكيف لا يمكن فصله عن سياقاتها التاريخية والظروف السياسية. واستعرض تاريخ التخطيط الحضري لمدينة رام الله وصولاً إلى الوقت الحاضر، ودور السياسة ورأس المال وخطابات التنمية والاستقلال والحلم بالدولة، وبالطبع الاحتلال الاسرائيلي، في تكوين رام الله وخلق فضاءاتها الحضرية المعقدة والمتعددة عبر الزمان والمكان.
وافتتح اليوم الثالث من المؤتمر، يوم الاحد في ٣ تشرين الثاني ٢٠١٩، بجلسة تحت عنوان "المدينة الفلسطينية حضارة وعمارة"، ترأستها المعمارية والمحاضرة في جامعة بيرزيت لانا جودة. وقدمت المعمارية والباحثة في إدارة التراث جاودة منصور في بداية الجلسة ورقة بعنوان "إنعاش الموتى: نحو الحفاظ على التراث المبني داخل المدينة الفلسطينية، منظور انثروبولوجي"، ركزت فيها على عمل مؤسسات حفظ وترميم المباني الأثرية في الضفة الغربية. وتعرّف منصور هذه الممارسات بأنها "لا – حركات اجتماعية" من أجل تغيير الواقع، ومنصة يحاول عبرها الفلسطينيون التفاوض مع واقعهم وحالهم اللايقيني للحفاظ على صمودهم والسعي إلى مستقبل أفضل. كما ناقشت الورقة دور التمويل الخارجي في تسليع التراث وممارسات الحفاظ عليه وترميمه.
وقدم الباحث المرشح لنيل درجة الدكتوراه من جامعة إكستر في بريطانيا فرانشيسكو اموروسو ورقة بعنوان "إعادة تأطير المدينة الفلسطينية الجديدة: روابي بين الوطنية والأصلانية"، تناول فيها الدروس النظرية التي يمكن لباحثي الاستعمار الاستيطاني الاستفادة منها عبر اتخاذ روابي حالة دراسية، وعبر مناقشة تبعات اتفاقية أوسلو الجغرافية – السياسية في الضفة الغربية، وفاعلية الأصلانيين في مواجهة مشروع الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي وكيفية تمثيل روابي لمستقبلهم. وابتعدت الورقة عن النقاش الدائر حول روابي من حيث المشروع نفسه وما يترتب عليه والهدف منه.
واتخذت ورقة المعماري والفنان والمنتج الثقافي يزن خليلي "ملك الشارع: عن إشارات المرور الضوئية في المدينة" منحى مغايراً في استكشاف الطرق الفريدة التي يتواجد فيها الاستعمار وما بعد الاستعمار جنباً إلى جنب في مدينتي رام الله والبيرة. وسرد خليلي نصاً تطرق فيه للمعنى الاجتماعي والسياسي لإشارات المرور الضوئية في مدينتي رام الله والبيرة، المنطقة الحضرية الأساسية في عهد السلطة الفلسطينية. وخلص إلى أن تركيب إشارات المرور الضوئية جاء ضمن محاولة إعادة ترتيب "الحداثة العضوية" للشوارع الفلسطينية، الأمر الذي تمت مقاومته.
"التأثيرات على المشهد الحضري" في ثلاث مدن هو ما طرحته الجلسة السابعة للمؤتمر، التي ترأسها جورج جقمان أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، وناقش خلالها الأستاذ المساعد والباحث في جامعة بيرزيت محمد محسن "التحولات الحضرية في حاضرة مدينة القدس (منطقة مخيم شعفاط) – حالة دراسية"، فأوضح تأثير السياسات الاسرائيلية بعد توقيع اتفاقية أوسلو وبناء الجدار العازل على المشهد الحضري والاجتماعي للمنطقة، وبروز العديد من التحولات الحيّزية والمظاهر الاجتماعية، وتسارع وتيرة النمو العمراني، الذي ارتبط به ارتفاع الكثافة السكانية بشكل ملحوظ واتساع التباين في تركيب النسيج الاجتماعي وانعدام الأمن وانتشار المخدرات، وغير ذلك من إفرازات عملية التحول.
واستكشفت ورقة الباحثة والأستاذة المساعدة في قسم الجغرافيا في جامعة بيرزيت، هديل فواضلة "الهجرة وتطوير المشهد الحضري في مدينة رام الله"، دور الهجرة القسرية التي فرضتها حرب سنة ١٩٤٨ على الفلسطينيين في التطور الحضري لمدينة رام الله، ودور العائدين من الفلسطينيين بعد سنة ١٩٩٤ في تحويل رام الله إلى مدينة اقتصاد حضرية، وتأثير الشبكات الاقتصادية التي تطورت في الشتات على تشكيل فضاء المدينة الحضري بعد توقيع اتفاقية أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية. وتحدثت عن دور الهجرة العائدة في تطوير وضع المدينة الفلسطينية ودور الهجرات في تحويل رام الله الى مدينة ذات مكانة اقتصادية.
جاءت الورقة الأخيرة في هذه الجلسة للباحثة البيئية والاقتصادية في علوم الانسان، نسرين مزاوي، متناولة "تحولات ثقافية في الحيز الإيكولوجي الحضري في الناصرة"، من خلال تتبع مصير "الحواكير" كمؤسسة إيكولوجية ثقافية تمكن الزراعة الحضرية، وتزيد من التنوع البيولوجي الحضري وتحافظ على الحصانة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة. وبالاعتماد على بحث إثنوغرافي-إيكولوجي، أشارت الورقة إلى التغييرات التي حلت بالمدينة في العقود الاخيرة، وعكست الظروف الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للناصرة بصفتها مدينة فلسطينية في دولة استعمار استيطاني بنيت على أنقاض المجتمع الفلسطيني وسعت إلى الحد من وجوده. وتعقبت الورقة تحولات الحدائق المنزلية في الناصرة التي كانت مركبًا أساسيًا في المنازل تساهم في اقتصاد الكفاف، والتحولات الاقتصادية والعمرانية التي حولتها لعبء وغيبتها، نتيجة مشاريع بناء حديثة ظهرت في المدينة على النمط الإسرائيلي، والتمدد السكاني الكبير دون وجود مخططات تنظيم، مما أنتج تحولات جذرية في الحيز الحضري وانعكس على الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
واختتم المؤتمر أعماله بجلسة حول المدينة ثقافياً وفنياً، أدارها الكاتب والشاعر ومدير برنامج الثقافة والفن في مؤسسة عبد المحسن القطان محمود أبو هشهش. وقدم في هذه الجلسة السينمائي جورج خليفي استعراضاً لكيف تم تناول المدينة الفلسطينية في عدد من الأفلام السينمائية منذ الثمانينيات إلى يومنا هذا. وتخلل المداخلة عرض مقاطع فيديو قصيرة من هذه الافلام تبرز مشاهد من وحول المدينة.
من ناحيته، تحدث المنتج والباحث المتخصص في الموسيقى والرقص والفنون الفولكلورية نادر جلال في مداخلته "الإنتاج الموسيقي في المدينة الفلسطينية ما قبل النكبة" عن إضاءات موثقة بالصوت والصورة للنهضة الموسيقية المحترفة في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، ودور الموسيقيين في تشكيل المشهد الموسيقي العربي بعد النكبة. وجاء العرض نتيجة بحث ميداني مستمر ومتراكم منذ ما يزيد على عشرة أعوام قام به الباحث ومؤسسة نوى للتنمية الثقافية.
أما المداخلة الأخيرة فجاءت تحت عنوان "تَخيّل: حوار ومقاومة" ، قدمتها العضو المؤسس ومديرة "UR°BANA" نتاشا عاروري مستعرضة مشروع عملية إنتاج وتخيل رام الله الذي أقيم بالشراكة مع المعمارية سحر قواسمي، وأولى منشوراته التي من خلالها سيتم إطلاق الموقع الالكتروني "تَخيُّل"، لذي يجمع المساهمات ما بين النص والمكونات البصرية، ويستعرض تخيلات فردية وجمعية هدفها إعادة تعريف وتشكيل العلاقة بطريقة نقدية وجذرية بين الفرد والزمان والمكان في المدينة. وأشارت إلى أن الموقع سيكون مساحة نقاش للتفكير بالمدن الفلسطينية وأداة لقلب معادلات القوة بين السلطات ورأس المال.