أضحى الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل وطناً للشعب اليهودي مطلباً إسرائيلياً مركزياً يتم تصويره على أنه لازمة وجودية لحاجات إسرائيل الأمنية. وخلافاً للمزاعم الإسرائيلية، هذا مطلب حديث العهد نسبياً، حيث أنه لم يُطْرح في جولات المفاوضات السابقة سواءً مع الفلسطينيين أو مع أي طرف عربي آخر قبل 2008.
على أي حال، لم يعد الأمر يقتصر فقط على تبني الحكومة الإسرائيلية الحالية لهذا المطلب، بل اكتسب تأييداً متزايداً في الخارج من قبل حكومات غربية ودوائر مؤيدة لإسرائيل أو في أوساط يهود الشتات، لا بل صادق عليه رسمياً الرئيس باراك أوباما في 19/5/2011 باعتباره شرطاً مسبقاً للسلام.
في هذه الأثناء، كان موقف السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية هو التالي: كيف تعرّف إسرائيل نفسها ليس شأناً فلسطينياً، ولا يستطيع الفلسطينيون تلبية هذا المطلب لسببين رئيسيين؛ أولا، لأنه يلحق الضرر بالحقوق السياسية والمدنية للعرب في إسرائيل الذين يشكلون 20% من السكان، فمكانتهم كمواطنين من الدرجة الثانية ستترسخ بفعل الاعتراف بيهودية الدولة؛ وثانياً، لأن الاعتراف بإسرائيل وطناً للشعب اليهودي سيطيح بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، بفعل انتفاء الأسس الأخلاقية أو السياسية لعودتهم إلى دولة يُجْمع العالم على يهوديتها.
لكن هذا الردّ ليس كاملاً وليس مقنعاً تماماً. لا يمكن أن يكون الفلسطينيون غير مبالين بكيفية تعريف إسرائيل لذاتها، أو بكيفية استعداد الآخرين لتعريفها. ففي سياق الكفاح حول شكل ومستقبل الأرض المقدّسة، يؤثر استيلاء جهة على تعريف معيّن ليس فقط في حقوق الذين يقيمون على هذه الأراضي، بل أيضاً في تاريخهم وهويتهم وفي علاقتهم بهذه الأرض، وبشكل أوسع، في حقوقهم، ومستقبلهم، ومصيرهم أيضاً. وهناك، في الواقع، نواح عديدة أعمق لهذه المسألة التي تستحق مزيداً من الدراسة والنقاش.
بادىء ذي بدء، ولعله الأهم من كل شيء، هو: إذا كانت إسرائيل وطن الشعب اليهودي فإن الأراضي التي تحتلها اليوم – وربما أراضي أخرى غيرها لأنه لا توجد حدود لهذا الوطن – هي ملك هذا الشعب بموجب هذا الحقّ. ثم إذا كانت هذه الأراضي تشمل بحقّ الوطن "اليهودي"، يصبح الوجود العربي، تاريخيّاً، حالةً نشاز طارئة؛ ويصبح الفلسطينيون، فعلياً، دُخلاء ومنتهكي حرمات، ويصير جودهم وجوداً عابراً على التراب الوطني لآخرين.
ليست هذه نقطة محطّ نقاش أو مبالغاً فيها. إنها تلامس لبّ الصراع وتكوينه. حقاً، إنها قلب المطالبة الصهيونية بفلسطين: فلسطين ملك اليهود، وحقهم في الأرض سابق و"متفوّق [أسمى]" على حق العرب في الأرض. هذا هو صلب الصهيونية، وهذا ما يبرّر الرجوع اليهودي إلى الأرض وتجريد سكانها العرب من أرضهم ووطنهم.
لكنها ليست الرواية العربية الفلسطينية، ولا يمكن أن تكون كذلك. نحن لا نعتقد أن الوجود التاريخي اليهودي وصلته بالأرض يستتبعان مطالبة "أسمى" بها. نحن نؤمن أن هذا هو "وطننا" منذ أكثر من 1500 عام من الوجود العربي المسلم، وأنه انتُزع منا بالقوة "المتفوقة" وبمكيدة استعماريّة. بالنسبة لنا، إن تبنّي السردية الصهيونية يعني أن البيوت التي بناها أجدادنا، والأرض التي حرثوها لقرون، والمقدّسات التي شيّدوها وصلّوا في داخلها، لم تكن ملكنا حقيقةً وأن دفاعنا عنها كان خاطئاً وغير شرعي من الناحية الأخلاقية: إذ لم يكن لدينا الحقّ في أي منها في الأصل.
هناك بُعْد آخر للطلب من الفلسطينيين بأن يعترفوا بإسرائيل وطناً للشعب اليهودي. إنه يضع العبء الأخلاقي للصراع على كاهل الفلسطينيين، وبالتالي، لا يعفي إسرائيل من الظروف الأخلاقية المريبة لولادة هذا الصراع فقط، بل يجعل الفلسطينيين هم المعتدون تاريخياً؛ فبرفضنا الموافقة على المطالبة اليهودية بالأرض غَدَوْنا مسؤولين عما حلّ بنا. ومن هذا المنطلق، فإن الصراع بمجمله كان يمكن تفاديه بل وكان يجب تفاديه؛ كان ينبغي علينا بكل بساطة "إعادة" الأرض إلى أصحابها الشرعيين منذ البداية. الرفض العربي هو الذي سبّب الصراع، وليس العدوان الصهيوني ضد الأرض والحقوق العربية. وهذا يفسّر بالضبط لماذا تريد الحكومة الإسرائيلية وداعموها الصهاينة الغيارى انتزاع هذا الاعتراف من الفلسطينيين فهو سيغفر لإسرائيل "خطيئتها الأصلية" وسينزع الشرعية عن الرواية التاريخية الفلسطينية.
أبعد من ذلك، إنه يعطي إسرائيل الحق في طلب قدر من العدالة الجزائية؛ الفلسطينيون هم الذين بدأوا الصراع وعليهم بالتالي أن يدفعوا ثمن "خطاياهم". على اللاجئين أن يدفعوا ثمن تجريدهم من أرضهم ووطنهم، وأن يفقدوا الحق في المساواة الندية في أية تسوية سياسية قائمة على تنازلات إسرائيلية "مؤلمة أو سخية" مزعومة. وعلى الدولة الفلسطينية المفترضة ألاّ تسمح لنفسها بما تسمح به إسرائيل لنفسها، سواء تعلق الأمر بالحق المشروع في الدفاع عن النفس، أو بحق التحرر من الوجود العسكري أو المدني الأجنبي (الإسرائيلي) على ترابها الوطني. (أنظر الفقرة الملفتة في خطاب الرئيس أوباما حيث ترد العبارة المسطحة "كل دولة لها حق الدفاع عن النفس"، تتبعها مباشرة وبدون أي أثر للسخرية المطالبة بأن تكون الدولة الفلسطينية المفترضة "منزوعة السلاح"). من هذا المنظار، على الفلسطينيين أن يبقوا تحت المراقبة شبه الدائمة بوصفهم جناةً سابقين وأوغاداً لاحقين محتملين.
لكن، تقول الحجة، كل هذا من الماضي. لماذا لا يشمل اعترافكم بإسرائيل واقع أنها حالياً وطن يهودي – ليس بصفته امتداداً للصراع التاريخي بل كانعكاس لوقائع الحاضر وكوسيلة لحلّ الصراع؟
هناك إجابات عديدة عن هذا السؤال. نحن ندرك أن هناك أغلبية يهودية في إسرائيل اليوم وأن طابع الدولة يعكس هذا الأمر. لكن لا يسعنا قطع الخيط الذي يربط الحاضر بالماضي، وبالضرورة، بالمستقبل. ولا يمكن للوطن أن يكون مجرّد بناء نشيده اليوم لكن من دون أي معطيات مستقبلية.
وهناك المزيد ينبغي قوله. إن السكان العرب في دولة إسرائيل هم من المنشأ والأصل نفسه لسائر العرب الفلسطينيين – ولا يقلّ حقهم في الوجود حيث يعيشون حالياً عن حق سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، أو عن حق أي فلسطيني في أي مكان في المطالبة بأرض فلسطين/إسرائيل بصفتها إرثاً وطنياً له. إن فلسطينيي"الخارج" (في الأراضي المحتلة وفي الشتات)، بقبولهم تعريف إسرائيل وطناً للشعب اليهودي، سيكونون كمن يقوّض فعلياً حجة العرب الإسرائيليين بالانتماء إلى هذا الوطن homelandنفسه. وعليه، لن تعود أرض فلسطين/إسرائيل موطنهم home، ولن يعود هناك أي مسوّغ تاريخي أو أخلاقي لحقهم في البقاء على أرضهم؛ فعلى أي أساس ما زالوا يقيمون في وطن لآخرين، وما هي مرتكزات مطالبتهم بالمساواة في الحقوق السياسية والمدنية فيه أصلاً؟
أن نقول أننا لا نكترث بكيفية تعريف إسرائيل لذاتها مؤداه أننا ننأى بذواتنا عن القرابة مع "[فلسطينيي] الداخل"، واننا نقرّ بعدم الاكتراث بهويتنا أو بمصيرنا المشتركَيْن. وبكلام آخر، ستكون الرسالة الموجهة إلى إسرائيل "إفعلي بهم ما تشائين لأنه يسعك تعريف ذاتك حسبما تريدين من دون مراعاة لانعكاسات هذا التعريف". ولن تكون النتيجة الإضرار بحقوق العرب في إسرائيل السياسية والمدنية فقط، بل أيضاً حلّ الروابط التاريخية والمجتمعية التي صاغت هويةً فلسطينيةً مشتركةً عابرةً لحدودِ خطٍ صُوَريّ واعتباطيّ كليةً رُسم سنة 1949. وفي هذا السياق، يستطيع الفلسطينيون (والمجتمع الدولي) كذلك أن يطلبوا، كشرط مسبق للسلام، بأن تعرّف إسرائيل نفسها دولة لكل مواطنيها. ويتفق هذا الطلب بالتأكيد مع التقليد الغربي- الليبرالي الذي تدّعي إسرائيل تمثيله، أكثر مما يتفق مع ادعائها الاقتصار على الهوية الإثنية-الدينية.
إن لغة الأوطان إشكالية للغاية عندما تواجَه بسرديات على طرفي نقيض وراسخة (إن صيغة "إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي" تعيدنا إلى المأزق السياسي والأيديولوجي السابق؛ وإن مقولة "دولتين لشعبين" تستدرج سؤالاً عن من هما هذان الشعبان). إن كيفية تعريف إسرائيل لذاتها ذات مغزى عميق بالنسبة للفلسطينيين ولطبيعة التسوية المحتملة. إن دعوة الفلسطينيين للاعتراف بإسرائيل وطناً للشعب اليهودي هي دعوة لاتخاذ موقف حاسم ضد تاريخهم، وروايتهم، وحقوقهم السياسية. وعلى المجتمع الدولي أن يدرك هذا ويعترف به عند الشروع بهذه الخطوة. وعلى الإسرائيليين والجماعات اليهودية أن تتصالح مع سلام يكون مبنياً على مرتكزات أخرى.
اعترف الفلسطينيون (ممثلون بمنظمة التحرير الفلسطينية) رسمياً بواقع دولة إسرائيل، كما اعترفوا بـ "حقها في الوجود في سلام وأمان"، بحسب ما جاء في رسالة الرئيس عرفات إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين، في تاريخ 9/9/1993، وعليه، تم تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني مرتين في 1996 ثم في 1999 (وفي المرة الثانية نزولاً عند طلب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو). ومن المرجح جداً أن يُطلب من الفلسطينيين، في أي اتفاق سلام في المستقبل، أن يقبلوا بالحدود المتفق عليها كحدود نهائية وغير قابلة للانتهاك، وأن يلتزموا بتسوية المشاكل العالقة بوسائل سلمية، وبعدم السماح باستخدام أراضيهم للقيام بأعمال عدائية ضد إسرائيل، وباحترام المواقع المقدّسة لجميع المعتقدات، كما سيطلب منهم أن يتعهدوا بأن التسوية الشاملة لكل القضايا الأساسية ستشكل الخاتمة النهائية للصراع. لكن، لا يمكن أن يُتَوقّع منهم أن يتبرأوا من ماضيهم وأن يتنكروا لهويتهم، وأن يتحمّلوا العبء الأخلاقي للمعتدي، وأن يتخلوا عن تاريخهم. لا يمكن أن يُتَوقّع منهم أن يصبحوا صهاينة!
- المصدر: "فورين بوليسي"، 15/6/2011؛ أنظر: http://mideast.foreignpolicy.com/posts/2011/06/15/the_palestinians_canno...